الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
فقدان العدالة بيئة خصبة للأفكار الشاذة والمتطرفة

الدكتور قيس بن محمد آل شيخ مبارك، أستاذ الفقه في جامعة الملك فيصل بالإحساء، عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، من كبار فقهاء العالم الإسلامي، وهو من أسرة علمية عريقة اشتهرت بالعلم الشرعي وتمتاز بوجود أعراف أخلاقية وعلمية لتبادل الثقافة الإسلامية بين أفراد الأسرة، حيث تظهر جلياً هذه الأعراف في مجلس الأسرة الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى ما قبل عام 1280 للهجرة النبوية الشريفة والذي يعقد يومياً بين صلاتي المغرب والعشاء في مجلس عميد الأسرة ليتم فيه قراءة وشرح الحديث النبوي الشريف.
التقينا الدكتور قيس أثناء زيارته للقاهرة مؤخراً وناقشناه في بعض القضايا التي تؤرق بال المسلمين.. وهذا نص الحوار:

كثر الحديث عن تطوير الخطاب الديني حتى يتلاءم مع مستجدات العصر.. فكيف نرتقي به لكي يحقق أهدافه في حماية المسلمين من موجات التطرف والتكفير؟ وما آليات تجديد الخطاب الديني؟

- واجبنا أن نعود بالناس إلى العهد الأول، ولعلَّ خير معين على ذلك تدريس السيرة النبويَّة، ففيها تتجلَّى أخلاق الصحابة الكرام وتابعيهم، لأن الناس تقرأ الحديث الشريف، وقد يفوتُها الفهم الصحيح له، لأنهم يقرؤونه بعيداً عن مناسبته، والفهم الخطأ لدين الله يوقع في الانحراف والضلال، وقد قال سفيان بن عيينة: (الحديث مَضلَّة، إلا للفقهاء) فالحديث قد يكون عامّاً في لفظه وقد يكون معناه خاصّاً، وقد يكون منسوخاً أو ناسخاً، والعلماءُ ميَّزوا الصحيح من الضعيف والناسخ من المنسوخ، وقد كان العلماءُ فيما مضى يُحذرون من الجهل في فهم الحديث، قال الإمام مالك رحمه الله لابْنَي أخته: (أراكما تحبان الحديث وتطلبانه، قالا: نعم، قال: إن أحببتما أن تنتفعا به وينفع الله بكما، فأقِلا من الحديث وتَفقها).. فالعلوم يكملُ بعضُها بعضاً، فلا يُغني علمٌ عن علم، ولذلك قال الإمام الشافعي: (من حفظ الفقه عَظُمت قيمته، ومن تعلَّم الحديث قويت حجته، ومن تعلم الشعر والعربية رَقَّ طبعه، ومن تعلم الحساب جزل رأيه، ومن لم يَصُن نفسَه لم ينفعْه علمه) فقراءة السيرة النبوية بعرض تصرفات رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ضمن سياقها ومناسبتها، من شأنها تهذيب الأخلاق، وترويض النفوس على الهدْي النبوي الشريف، وهذه أفضل وسيلة لو استغلها الناس لتمكنوا من الإمساك بأهداب الخطاب الديني الراشد.

وسط بين أمرين

الإسلام دين الوسطية.. فما الوسطية؟ وكيف يمكن نشرها في المجتمعات العربية والإسلامية؟

- تنتشر الوسطية بين الناس إذا علموا معناها، وأنه معنى حسن، ووقفوا على قُبْح نقيضها وهو الغلوّ، فالوسطية هي أن يكون الإنسان وسطاً بين أمرين، بين الإفراط والتفريط، لا أن يكون وسطاً بين الحق والباطل، فالوسطية نقيض الغلوِّ، وقد ذكر الله تعالى الغلو وهو تجاوز الحد، وحذر منه في قوله: (قُل يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) فالإفراط سيئة وكذلك التفريط سيئة، وإنما كان تجاوز الحد بالمبالغة سيئة لأنه مظنة الالتباس، فالكثير من الناس يظنون أن المبالغة في الخير خير، فربَّما غَلَوْا في المدح إلى أنْ بلغوا في المحبوب مرتبة الألوهية، ويظن الناس كذلك أن تجاوز الحدِّ في الذَّم خير، فربما غَلَوْا في الذم إلى حد التكفير! وواقع المسلمين اليوم لا يخلو من الغلو، فكثير من الناس يعيشون هذا الغلو، مدحاً وتقديساً، أو ذماً وتقبيحاً، ثم إن الوسطية من حيث العموم معنى عام، فكل إنسان يرى أنه وسط بين الناس، وكل مفكرٍ يرى نفسه وسطياً، وهذا نظر الإنسان في خاصة نفسه، غير أن الناس أدق حُكماً عليك من حكمك على نفسك، فإذا حَكَموا على أحد أنه وسطي فحكمهم أقرب إلى الصواب مِن حُكْم الإنسان على نفسه، والإسلام في عقائده وأحكامه وأخلاقه وسط بين الإفراط والتفريط، فهو يحقق للإنسان ما يصبو إليه، من غير أن يعود ذلك بالضرر عليه ولا على المجتمع.

مواجهة الفكر المتطرف

الفكر المتطرف ينهش في بلادنا العربية في السنوات الأخيرة.. فما السبيل لمواجهته والقضاء عليه؟

- أول ما يواجَهُ به الانحراف والتطرّف إفراطاً كان أو تفريطاً، هو توفير العدل، لأن فقدان العدالة يُعد بيئة خصبة للأفكار الشاذة، فإذا وُجد في هذه البيئة شبابٌ قل علمهم بالشريعة، فما أيسر ما يتلاعب بهم صاحبُ أي فكرةٍ، فاختطاف هؤلاء الشباب سهل وميسور، ذلك أنهم أوعيةٌ فارغة، تَقبلُ ما تُملأ به، ثم يظنون أنهم أعرفُ الناس بالإيمان، وأنهم أشد الناس تمسّكاً بالقرآن، وقد حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اتخاذ الجهّال رؤساء، فقال عما سيحصل آخر الزمان: (اتَّخذ الناس رؤوساً جهَّالاً، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلوا) والداء إذا عُرف وعُرفت أسبابُه، صار علاجه ممكناً.

الإسلام والانتخابات

كيف ترد على الغرب الذي يدعي أن الديمقراطية لا تتفق مع مبادئ الشريعة الإسلامية؟

- الديمقراطية مصطلح حديث، والحكم عليه لا يصحّ من غير معرفة به، فقد علمنا علماؤنا أن الكلام عن الشيء فرع عن تصوّره، وقد اقتضت شريعة الله أن تُبْنَى السياسةُ الشرعية على قواعد عامة، وقد بسط العلماء الكلام فيها، وبيَّنوا أن كثيراً من صورها في دائرة المباح، ومن ذلك أنهم صححوا بعض صور الانتخاب، ولم يُلزموا الناس بصورةٍ منها، فمقصود الشارع ألا تكون مخالفة لقواعد الشرع، فذكروا عدة طرقٍ للانتخاب، كلّها مباحة، ولا حرج في اختيار واحدةٍ منها، فذكروا طريقة انتخاب سيدنا أبي بكر الصديق، بأن يجتمع أهل الحل والعقد، حيث اجتمع كبار المهاجرين والأنصار، ومالوا إلى اختيار الصديق، وهو يمتنع ويأبَى، وحين طال إلحاحهم عليه، وتكرر امتناعُه، قال له عمر ابسط يدك وبايعه، ففرح الصحابة وتزاحموا عليه فبايَعوه، وكان موقفاً عصيباً، واختياراً بإجماع الناس، وذكروا طريقة اختيار عمر، وهو أن أهل الحل والعقد طلبوا من الصديق أن يختار لهم خليفة، فأبى، فألحّوا عليه، فاختار عمر، فوافق الناس عليه وبايعوه طواعية ، وذكروا طريقة عمر، وهو أن أهل الحل والعقد طلبوا منه أن يختار لهم خليفة، فأبى، فألحّوا عليه، فاقترح طريقة ثالثة، هي أن يتولى الاختيار مجلس مكون من ستة أشخاص، فقال: (إنْ أستَخْلِف فقد اسْتخْلَفَ مَن هو خيرٌ مني، وإنْ أترُك فقد ترَك مَن هو خيرٌ مني، إنَّ الأمر أمرُكم، أنتم شهود الأمَّة وأهلُ الشورى، فمَن رَضِيتم به فقد رَضوا به، هل تعلمون أحداً أحقَّ بهذا الأمر من هؤلاء الستة النفر الذين مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض؟ قالوا: لا، قال: فإني أرى أنْ نجعل ذلك لهم، فيؤمِّروا أحدَهم قالوا: فقد رأَيْنَا ذلك وجعلناه إليهم).
ولذلك فعليك أن تعدل السؤال، فما كان من قوانين الشرق والغرب موافقٌ لشريعة العدل والحقّ- وهي شريعة الإسلام- قَبلناه وما خرج عن عدل الإسلام نرفضه ونأباه، فإذا وُضعتْ طريقة لا تُفضي إلى ظلم، ولا إلى حَصر الانتخابات في حزبين ظالمين مثلاً، ولا تُفضي إلى تحكّم الأغنياء في مصالح الفقراء، أو غير ذلك من المظالم، فإن شريعة الله لا تأباها، فالحكمة تُؤخذ من العقلاء والحكماء وأهل الرأي والخبرة، بل ولو لم تكن من حكيم، فقد قال ابن عباس رضي الله عنه: (خذوا الحكمة ممن سمعتموها؛ فإنه قد يقول الحكمة غير الحكيم، وتكون الرمية من غير رام).

تلاسن محرم

انتشر الباحثون عن الشهرة على ساحات الفضائيات وصوبوا سهامهم تجاه علمائنا الأوائل من السلف الصالح.. كيف ترد على إساءاتهم ونقضي على مثل هذه المهاترات حتى لا تتكرر مرة أخرى؟

- لا يعيبُ غيرَه إلا الجاهل، أما العاقل الذي اهتدَى بهدْي الأنبياء فليست له عداوة مع الأشخاص، وإنما دينُ الله دينٌ يحذِّر من الأفكار الشاذَّة والباطلة، فقد عُلم بالاستقراء في أحكام الشريعة الإسلامية أنها تدور حول رعاية مصالح الناس، كما قال سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إذا سمعتَ الله عز وجل يقول: «يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» فأصْغِ إليها سَمْعَك، فإنَّه خيرٌ توصَى به، أو شَرّ تُصرفُ عنه) فعلى العلماء أن يوجِّهوا الناس إلى الحوار العلمي الهادف، وأن يحذِّروهم من نقل الحوار إلى انتقاص وتحقير، وأن هذا التلاسُن محرم شرعاً، فضلاً عن أنه حجة الضعيف، فإن الضعيف إذا فقد الحجَّة استعان بالتهجّم ورفْع الصوت، ثم إن هذا واجبٌ كذلك على الإعلام والصحافة، فعليهما تضييق دائرة التنابز.

كتب التراث

هل يمكن تنقية كتب التراث من الشوائب العالقة بها أم أن التحدث في هذا الموضوع خط أحمر لا يجب الاقتراب منه؟

- كتب التراث، ككتب الأدب والتاريخ مملوءة بالشوائب بلا ريب، ولذلك لا يُعتمد عليها في حكم شرعي، وأما كتب الفقه والأصول فهي علومٌ صحيحة منضبطة، والدعوة إلى تنقيتها كالدعوة إلى تنقية علم الرياضيات أو الفيزياء أو الطب أو أيِّ علم من الشوائب، فإن كان المقصود بالتنقية أن تحمي العلوم بمزيد من التجلية وربطها بالواقع، فالتنزيل على الواقع هو صنعةُ الفقيه، ويُسميه الفقهاء تنقيح المناط، أي ملاحظة الواقع، وأنْ تحمي العلوم من تدخل غير المتخصصين فيها، فهذا حسن وهو مطلوب الشارع الحكيم، وقد نصَّ العلماءُ على أن الجمود على المنقولات ضلالٌ في الدين، أما تحريف دين الله وهو دين الطهر والعفاف والعدل، فهذا لا يقبله مسلم، فليس في ديننا شيء يُستحى منه، فلا شوائب في ديننا.

المسؤولية الطبية

لكم مؤلف عن المسؤولية الطبية في الشريعة الإسلامية.. فما حدود هذه المسؤولية؟

- الطب في الإسلام مهنة شريفة، فأشرف العلوم ما كان متعلقاً بدين الناس واعتقاداتهم، ويليه ما كان متعلقاً بحفظ صحتهم، قال الإمام الشافعي (لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنْبل من الطب) وقد كان كثير من علماء الشريعة أطباء، ومنهم الإمام الشافعي وكان الإمام أبو عبد الله المازري - أول من شرح صحيح مسلم - يفتي في الطب كما كان يفتي في الفقه. قال العلامة ابن عقيل: «جُهال الأطباء هم الوباءُ في العالَم، وتسليم المرضى إلى الطبيعة أحب إلي من تسليمهم إلى جهال الأطباء»، وكما حذر الفقهاء من جهلة الأطباء، فإنهم نبهوا كذلك إلى أهمية ألا يتصدى للجراحة إلا من اشتهرت معرفته وأمانته، وجودة علمه بتشريح الأعضاء والعروق، وقد بسط الفقهاء القول في مسؤولية الأطباء وأخطائهم، وفرَّقوا في العقوبة بين صور الأخطاء الطبية، فذكروا الخطأ المحض، والتقصير والإهمال، والجهل بأصول المهنة، ومخالفة أصول المهنة، ومخالفة ما أذن فيه المريض، فجعلوا لكلِّ نوع عقوبة تتناسب مع خطره، ومن أدق ما بينوه أنهم جعلوا العلاقة بين الطبيب والمريض علاقة تعاقدية، فوضعوا لها ضوابط، ووضعوا منهجاً للتداعي بينهما.

ثبوت الأهلة

ثبوت الأهلة قضية تثار مع مطلع كل شهر هجري خاصة رمضان والعيدين.. فكيف يمكن توحيد الرؤى بين دول العالم الإسلامي؟

- الشهر في الشرع يبدأ من لحظة رؤية الهلال، وليس من لحظة المحاق، وهي لحظة محاذاة الشمس للقمر واقترانه بها، بحيث يصير القمر بينها وبين الأرض على خط مستقيم، وتسمى لحظة الاقتران، لأن وجهَ القمر المقابل لجهة الشمس يصير منيراً، لانعكاس أشعة الشمس عليه، ووجهه المقابل لجهة الأرض مظلماً، فيقال: انمحق الهلال، فهذه اللحظة تتم بدقة عالية، فتتم كل تسعة وعشرين يوماً واثنتي عشرة ساعة وأربعة وأربعين دقيقة وثانيتين وسبع وثمانين في المئة من الثانية، فهي دورة لا يختلف فيها شهر عن شهر، ولهذا كان الشهر مختلفاً، فأحياناً يُقدر بتسعة وعشرين يوماً، وأحياناً بثلاثين يوماً، بخلاف لحظة الرؤية، فإن الفلكيين متفقون على أنها غير منضبطة، لأسباب عديدة، منها وجود غيمٍ أو غبار أو شعاع أو بسبب بعد القمر عن مركز الأرض وارتفاعه فوق الأفق، وغيرها من العلامات التي يعرفها الفلكيون، فالشرع الشريف لا ينكر علم الفلك، وإنما لم يأخذ به هنا لأن معرفة لحظة إمكانية الرؤية مُحال بلا خلاف بين الفلكيين، ومن رحمة الله بعباده أنْ يسر الأمر علينا، فرخص في قبول عدلين يشهدان على رؤية الهلال، ومن شرط قبول شهادتهما أن يشهدا برؤيته في الزمن الذي يمكن أنْ يُرى فيه في موضعه عادة، ذلك أن من واجبات القاضي أنْ يتثبت من نظر الشاهد وحدة بصره ومن معرفته بمطالع القمر ودرجة ارتفاعه فوق الأفق وانحرافه في الأفق، فيُعتَبر في من يشهد في رؤية الهلال ما يُعتبر في سائر الشهادات.

http://www.alkhaleej.ae/supplements/page/933e4414-9317-47d0-ab59-4004fbd2e787

سكان المناطق التي يطول بها النار عليهم أن يحتسبوا الأجر ولا يفطروا
د. قيس آل الشيخ مبارك عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية: الأزهر فخر لمصر مهمته إعادة الناس إلي الفهم الصحيح لحقائق الإسلام

فضيلة الدكتور قيس آل الشيخ المبارك .. عضو هيئة كبار العلماء
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ....
يشرفني أن أجري مع فضيلتكم حوارا صحفيا لجريدتي المساء المصرية والخليج الإماراتية كما وعدتني أثناء لقائنا في مؤتمر وسطية الفكر في الدراسات العربية والإسلامية الذي عقد مؤخرا بكلية دار العلوم جامعة المنيا .. ومرفق الأسئلة التي طلبتم إرسالها وأتمنى أن تكون الإجابة عليها باستفاضة وفي أسرع وقت ممكن.
ولك شكري وتقديري واحترامي
محمد عمر
نائب رئيس تحرير جريدة المساء

أسئلة حوار فضيلة الدكتور قيس آل الشيخ المبارك
عضو هيئة كبار العلماء
كيف يمكن النهوض بالعمل الدعوي وتفعيل دور الوعاظ ؟ الجواب: الناس تتطلَّع إلى المساجد، فهي التي كانت في الماضي توجِّه الناس وتشرح لهم دين الله، كما كان عليه السلف الصالح، فلم نجد في عامَّة الناس طيلة الأزمنة الماضية شذوذاً ولا انحرافاً، فأهل الكتاب من اليهود والنصارى، عاشوا عدل الإسلام، ورأَوا رحمة دين الإسلام التي جعلها الله كافَّة لجميع الخلق، كما قال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) وإنما كان هذا لأن اعامَّة المسلمين تعلَّموا دين الله وشريعته من الدعاة الصادقين والخطباء السائرين على هدْي سلف الأمَّة، المقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لهم: (يا أيها الناس إنما أنا رحمةٌ مُهداة) والذي وصفه اللهُ تعالى بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فكانت تصرُّفات عامَّة المسلمين مِن شباب وشيِب، غايةً في الانضباط بأخلاق النبوَّة، ولم تكن تصرُّفاتهم تقليداً لزعامات تزجُّ بهم في صراعٍ مع أهلهم، ولا انسياقاً خلف ردود أفعال غير منضبطة .

2. ما هي السبيل لمواجهة الفكر المتطرف الذي ينهش في بلادنا العربية ؟
أول ما يواجَهُ به الانحراف والتطرُّف إفراطاً كان أو تفريطا، هو توفير العدل، لأن فقدان العدالة هو يُعدُّ بيئة خصبة للأفكار الشاذَّة، فإذا وُجد في هذه البيئة شبابٌ قلَّ علمهم بالشريعة، فما أيسر ما يتلاعب بهم صاحبُ أيِّ فكرةٍ، فاختطاف هؤلاء الشباب سهلٌ وميسور، ذلك أنهم أوعيةٌ فارغة، تَقبلُ ما تُملأ به، ثم يظنُّون أنهم أعرفُ الناس بالإيمان، وأنهم أشد الناس تمسُّكاً بالقرآن، وقد حذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتِّخاذ الجهَّال رؤساء، فقال عما سيحصل آخر الزمان: (اتَّخذ الناس رؤوساً جهَّالا، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا) والداء إذا عُرف وعُرفتْ أسبابُه، صار العلاج منه ممكناً .



3. من وجهة نظر فضيلتكم كيف نرتقي بالخطاب الديني المعاصر لكي يحقق أهدافه في حياة المسلمين ويحميهم من موجات التطرف والتكفير التي تجتاح عالمنا العربي والإسلامي وما هي آليات تجديد الخطاب الديني ؟.
كما ذكرتُ لك، واجبنا أن نعود بالناس إلى العهد الأول، ولعلَّ خير معينٍ على ذلك تدريس السيرة النبويَّة، ففيها تتجلَّى أخلاق الصحابة الكرام وتابعيهم، لأن الناس تقرأ الحديث الشريف، وقد يفوتُها الفهم الصحيح له، لأنهم يقرؤونه بعيداً عن مناسبته، والفهم الخطأ لدين الله يوقع في الانحراف والضلال، وقد قال سفيان بن عيينة: (الحديث مَضِلَّةٌ، إلا للفقهاء) فالحديث قد يكون عامّاً في لفظه وقد يكون معناه خاصّاً، وقد يكون منسوخاً أو ناسخاً، والعلماءُ ميَّزوا الصحيح من الضعيف والناسخ من المنسوخ، وقد كان العلماءُ فيما مضى يُحذِّرون من الجهل في فهم الحديث، قال الإمام مالك رحمه الله لابْنَي أخته: (أراكما تحبَّان الحديث وتطلبانه، قالا: نعم، قال: إن أحببتما أن تنتفعا به وينفع الله بكما، فأَقِلَّا من الحديث وتَفقَّها) قال ابن وهب: (لولا أن الله تعالى أنقذَنا بمالكٍ لضللنا) فالعلوم يكمِّلُ بعضُها بعضاً، فلا يُغني علمٌ عن علم، ولذلك قال الإمام الشافعيُّ: (من حفظ الفقه عَظُمت قيمته، ومن تعلَّم الحديث قويت حجته، ومن تعلم الشعر والعربية رَقَّ طبعه، ومن تعلم الحساب جزل رأيه، ومن لم يَصُن نفسَه لم ينفعْه علمه) فقراءة السيرة النبوية يعرض تصرُّفات رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمن سياقها ومناسبتها، فمن شأنها تهذيب الأخلاق، وترويض النفوس على الهدْي النبوي الشريف .
4. وكيف نوظف الخطاب الإسلامي الراقي لمواجهة الفوضى السلوكية فى بلادنا العربية والإسلامية؟
5. فضيلتكم من فقهاء المالكية في العالم الإسلامي فهل تنوع المذاهب في صالح الأمة الإسلامية؟
لعلك تقصد بالتنوُّع ما يتعلَّق بالمذاهب الفقهية الأربعة، فهذه المذاهب مدارس، وهي أركانُ علم الفقه، فكل العلوم تقوم على مدارس كالطب والهندسة وعلم النفس وغيرها، ولا تقوم على مدرسةٍ واحدة، وإنما يقوم كل علم على مدارس، وهذه المدارسُ هي أركانٌ يقوم عليها الفقه، وهي سبب بقائه واستمراره، وهي سبب نمائه، فليس في شريعة الإسلام واقعةٌ ليس لله فيها حُكمٌ، ولم يُذكر في التاريخ أنَّ الفقهاء توقَّفوا عن بيان حكم الله في نازلةٍ من النوازل، قال إمام الحرمين بقوله: (والرأيُ المبتوتُ المقطوع به، أنه لا تَخلو واقعةٌ عن حكم الله تعالى، مُتَلَقَّى مِن قاعدة الشرع) فالتنوُّع حاجةٌ بل ضرورة، والأصل فيه أن يكون تنوُّعاً منضبطا، مستنداً إلى أصولٍ تَعصم من التلاعب في الشرع، فقد اقتضتْ حكمةُ الله أن يَحفظ فقه الشريعة الإسلامية عبر هذه المدارس، وكلُّ مدرسةٍ منها تستندُ إلى قواعد وأصولٍ مستمدَّة من الكتاب والسنَّة، وهذه الأصول قواعدٌ لتفسير النُّصوص الشرعية، وبهذا يُسدُّ باب التلاعب في الدين، ومن أجل هذا فإنك لا تجد عند أهل السنَّة ما تجده عند غيرهم من الجماعات التي نبتتْ على جسم الأمَّة الإسلامية، قديماً وحديثاً، والتي تجتهد بلا أصول ولا ضوابط، فتخرج منها فتاوَى يضجُّ منها العالَم، لما فيها من اعتداءٍ على الأموال بجعْلها غنائم، واستباحة للدماء والأعراض، كالتي نسمع عنها اليوم في العراق وسوريا وغيرها، فهذه الفتاوَى التي لا خطام لها ولا زمام، أي بلا أصولٍ ولا ضوابط للاجتهاد، لا تسمَّى اجتهاداً، وإنما هي تلاعبٌ بالدين، وتشويهٌ لشريعة رب العالمين .
6. ما هي الوسطية وكيف يمكن نشرها في المجتمعات الإسلامية؟
تنتشر الوسطية بين الناس إذا علموا معناها، وأنه معنى حسن، ووقفوا على قُبْح نقيضها وهو الغلوُّ، فالوسطية هي أن يكون الإنسان وسطا بين أمرين، بين الإفراط والتفريط، لا أن يكون وسطا بين الحق والباطل، فالوسطية نقيض الغلوِّ، وقد ذكر الله تعالى الغلوَّ وهو تجاوز الحدِّ، وحذَّر منه في قوله: (قُل يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) فالإفراط سيِّئةٌ وكذلك التفريط سيِّئة، وإنما كان تجاوز الحد بالمبالغة سيِّئة لأنه مظنَّة الالتباس، فالكثير من الناس يظنون أن المبالغة في الخير خير، فربَّما غَلَوْا في المدح إلى أنْ بلغوا في المحبوب مرتبة الألوهية، ويظن الناس كذلك أن تجاوز الحدِّ في الذَّم خيرٌ، فربَّما غَلَوْا في الذم إلى حدِّ التكفير ! وواقع المسلمين اليوم لا يخلو من الغلوِّ، فكثير من الناس يعيشون هذا الغلو، مدحا وتقديساً، أو ذمّاً وتقبيحاً، ثم إن الوسطية من حيث العموم معنى عام، فكل إنسان يرى أنه وسط بين الناس، وكل مفكِّرٍ يرى نفسه وسطيّاً، وهذا نظر الإنسان في خاصة نفسه، غير أن الناس أدقُّ حُكماً عليك من حكمك على نفسك، فإذا حَكَموا على أحد أنه وسطي فحكمهم أقرب إلى الصواب مِن حُكْم الإنسان على نفسه، والإسلام في عقائده وأحكامه وأخلاقه وسط بين الإفراط والتفريط، فهو يحقق للإنسان ما يصبو إليه، من غير أن يعود ذلك بالضرر عليه ولا على المجتمع .
7. هل ترون أن دور الأزهر الشريف يحقق الهدف المطلوب منه حاليا وكيف يستطيع أن يستعيد مكانته المرموقة والمأمولة ؟.
مشيخة الأزهر معلمٌ إسلاميٌّ مشرقٌ ومشرِّف، وحُقَّ لمصر أن تفخر به، وجامعة الأزهر كذلك، وكذلك الشأن في الجامعات الإسلامية المبثوثة في العالَم الإسلامي، فهذه المعالم هي مراكز إشعاع علمي، وهي المعنيُّ الأول بإعادة الناس إلى ما كان عليه المسلمون من قبل، فهم الذين يُرجَى منهم أن يعيدوا الناس إلى فهم حقائق الإسلام فهماً صحيحاً، لا غلوَّ فيه ولا شطط، وهذه المؤسسات معنيَّةٌ بالوقوف أمام زعاماتٍ وجماعات تختطف شبابنا، بل تختطف الإسلام، فتأتي بفهومٍ جديدة للدين، لم يكن عليها سلف الأمَّة، إن على مؤسساتنا الشرعية واجبٌ كبير، وهو العودة بالناس إلى هدْي النُّبوَّة، ولعل أهم ما يجب أن تكون عليه هذه المراكز أن تكون بمنْأى عن التجاذبات السياسية، فالعالِمُ أبٌ للعاصي والمقصِّر كما هو أبٌ للطائع والمتبتِّل .
8. من وجهة نظر فضيلتكم ما سبب تخلف الأمة الإسلامية فكريا .. وما السبيل للنهوض بها؟
9. كيف ترد على الغرب الذي يدعي أن الديمقراطية لا تتفق مع مبادئ الشريعة الإسلامية ؟
الديمقراطية مصطلحٌ حديث، والحكم عليه لا يصحُّ من غير معرفة به، فقد علَّمنا علماؤنا أنَّ الكلام على الشيء فرعٌ عن تصوُّره، وقد اقتضت شريعةُ الله أن تُبْنَى السياسةُ الشرعية على قواعد عامَّة، وقد بسط العلماء الكلام فيها، وبيَّنوا أن كثيراً من صورها في دائرة المباح، ومن ذلك أنهم صحَّحوا بعض صور الانتخاب، ولم يُلزموا الناس بصورةٍ منها، فمقصود الشارع أنْ لا تكون مخالفة لقواعد الشرع، فذكروا عدَّة طرقٍ للانتخاب، كلُّها مباحٌ، ولا حرج في اختيار واحدةٍ منها، فذكروا طريقة انتخاب سيدنا أبي بكر الصدِّيق، بأنْ يجتمع أهل الحل والعقد، حيث اجتمع كبار المهاجرين والأنصار، ومالوا إلى اختيار الصدِّيق، وهو يمتنع ويأْبَى، وحين طال إلحاههم عليه، وتكرَّر امتناعُه، قال له عمر ابسط يدك وبايعه، ففرح الصحابه وتزاحموا عليه فبايَعوه، وكان موقفاً عصيبا، واختياراً بإجماع الناس، وذكروا طريقة اختيار عمر، وهو أن أهل الحل والعقد طلبوا من الصدِّيق أن يختار لهم خليفة، فأبى، فألحُّوا عليه، فاختار عمر، فوافق الناس عليه وبايعوه طواعيةً ورضاً، وذكروا طريقة عمر، وهو أن أهل الحل والعقد طلبوا منه أن يختار لهم خليفة، فأبى، فأَلحُّوا عليه، فاقترح طريقة ثالثة، وهو أن يتولَّى الاختيار مجلسٌ مكوَّن من ستة أشخاص، فقال: (إنْ أَستَخْلِف فقد اسْتخْلَفَ مَن هو خيرٌ مني، وإنْ أترُك فقد ترَك مَن هو خيرٌ مني، إنَّ الأمر أمرُكم، أنتم شهود الأمَّة وأهلُ الشورى، فمَن رَضِيتم به فقد رَضوا به، هل تعلمون أحداً أحقَّ بهذا الأمر من هؤلاء الستة النفر الذين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض؟ قالوا: لا، قال: فإني أرى أنْ نجعل ذلك لهم، فيؤمِّروا أحدَهم قالوا: فقد رأَيْنَا ذلك وجعلناه إليهم) ولذلك فعليك أن تعدِّل السؤال، فما كان من قوانين الشرق والغرب موافقٌ لشريعة العدل والحقّ -وهي شريعة الإسلام قَبلناه- وما خرج عن عدل الإسلام نرفضه ونأباه، فإذا وُضعتْ طريقة لا تُفضي إلى ظلم، ولا إلى حَصْر الانتخابات في حزبين ظالمين مثلا، أو أنْ تُفضي إلى تحكُّم الأغنياء في مصالح الفقراء، أو غير ذلك من المظالم، فإن شريعة الله لا تأباها، فالحكمة تُؤخذ من العقلاء والحكماء وأهل الرأي والخبرة، بل ولو لم تكن من حكيم، فقد قال ابن عباس رضي الله عنه: (خذوا الحكمة ممن سمعتموها؛ فإنه قد يقول الحكمة غير الحكيم، وتكون الرمية من غير رام)
10. كيف تصفون من يسئ لعلمائنا الأوائل من السلف الصالح ؟.. وفي رأيكم كيف نقضي على مثل هذه المهاترات حتى لا تتكرر مرة أخرى؟
لا يعيبُ غيرَه إلا الجاهل، أما العاقل الذي اهتدَى بهدْي الأنبياء فليست له عداوة مع الأشخاص، وإنما دينُ الله دينٌ يحذِّر من الأفكار الشاذَّة والباطلة، فقد عُلم بالاستقراء في أحكام الشريعة الإسلامية أنها تدور حول رعاية مصالح الناس، كما قال سيدنا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (إذا سمعتَ الله عز وجل يقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ" فأصْغِ إليها سَمْعَك، فإنَّه خيرٌ توصَى به، أو شَرٌّ تُصرفُ عنه) فعلى العلماء أن يوجِّهوا الناس إلى الحوار العلمي الهادف، وأن يحذِّروهم من نقل الحوار إلى انتقاصٍ وتحقير، وأن هذا التلاسُن محرَّمٌ شرعاً، فضلا عن أنه حجَّة الضعيف، فإن الضعيف إذا فقد الحجَّة استعان بالتَّهجُّم ورفْع الصوت، ثم إن هذا واجبٌ كذلك على الإعلام والصحافة، فعليهم تضييق دائرة التنابز .
11. هل يمكن تنقية كتب التراث من الشوائب العالقة بها أم أن التحدث في هذا الموضوع خط أحمر لا يجب الاقتراب منه ؟
أما كتب التراث، ككتب الأدب والتاريخ فمملوءةٌ بالشوائب بلا ريب، ولذلك لا يُعتمد عليها في حكم شرعي، وأما كتب الفقه والأصول فهي علومٌ صحيحةٌ منضبطة، والدعوة إلى تنقيتها كالدعوة إلى تنقية تنقية علم الرياضيات أو الفيزياء أو الطب أو أيِّ علم من الشوائب، فإنْ كان المقصود بالتنقية أن تُـحْمَى العلوم بمزيد من التَّجلية وربطها بالواقع، فالتنزيل على الواقع هو صنعةُ الفقيه، ويُسمِّيه الفقهاء تنقيح المناط، أي ملاحظة الواقع، وأنْ تُحمَى العلوم من تدخُّل غير المتخصصين فيها، فهذا حسنٌ وهو مطلوب الشارع الحكيم، وقد نصَّ العلماءُ على أن الجمود على المنقولات ضلالٌ في الدين، أما تحريف دين الله وهو دين الطهر والعفاف والعدل، فهذا لا يقبله مسلم، فليس في ديننا شيءٌ يُسْتحْيَى منه، فلا شوائب في ديننا .
12. ما هي الشروط التي يجب اتباعها لكي ينجح الحوار مع الآخر ؟.. وكيف يصحح المسلمون الصورة المغلوطة عن الإسلام ؟

13. خلافات العلماء تحولت إلى مشاجرات ومشاحنات على الفضائيات مما يشوه صورة رجل الدين .. فما هي شروط أدب الحوار ؟
الاختلاف بين الفقهاء اختلافٌ في رأيٍ اجتهادي، وهو ظاهرةٌ صحيَّة، ولذلك لم يختلف الفقهاء في أنَّه ليس لأحدٍ أنْ يَحتكر الاجتهاد لنفسه، فليس له أنْ يُلغي اجتهاد غيره، فهذا الإمام الأعظم أبو حنيفة النُّعمان رحمه الله يقول: (قولُنا هذا رأيٌ، وهو أحسنُ ما قَدَرْنا عليه، فمَن جاءنا بأحسن من قولنا، فهو أولى بالصواب منَّا) وهذا الإمام الذهبيُّ يقول: (وما زال العلماء قديماً وحديثاً يَردُّ بعضهم على بعض في البحث وفي التواليف، وبمثل ذلك يتفَقَّه العالِمُ وتتبرهنُ له المشكلات) أما ترك الحوار العلمي إلى المشاحنات، فهذا بلاءٌ ابتُلينا به .
14. انتشرت بعض الظواهر السلبية في المجتمعات العربية مؤخرا مثل الإلحاد وعدم رعاية المسنين وزواج القاصرات فكيف نواجه مثل هذه السلبيات ؟.
وُجد الإلحادُ قديماً، غير أنه لم يكن ظاهرةً في التاريخ، لأن الله خلق البشر وأَكنَّ في نفوسهم قبول الحق والتوحيد، والعرب تقول: أثر السير يدلُّ على المسير، فإن رأينا من يدَّعي الإلحاد، فإنما أَلْحد لعلَّةٍ من العلل، إما للتَّخفُّف من أعباء الإيمان، كالإلتزام بالأخلاق والآداب، وأداء العبادات، وإما ردَّة فعلٍ لسبب من الأسباب، أما الإلحادُ لقناعةٍ بأنَّ الكون تكوَّن بنفسه من غير فعل فاعل، فهذا مما يربأ العاقل بنفسه عن أن يقوله، ولذلك أرى أنْ تُعطى هذه الأحوال النادرة بقدر حجمها، لا أنْ ننشغل بها عما هو أهم منها، وهو تَجْلية حقائق الإسلام العالية للناس، فلو انشغلْنا بذلك لانْـمَحق الإلحاد .
15. يتهم البعض الشريعة بأنها قاصرة وتحتوي على الكثير من القيود ولا يمكنها مسايرة العصر الحديث .. فما ردك على أمثال هؤلاء ؟.
القصور فينا نحن، وليس في دين الله، فالجمود في الفكر يحصل إذا ابتعد الناس عن الأخذ بحقائق الإسلام، ومشكلة العالم الإسلامي اليوم هي البُعد عن المعاني الإسلامية العظيمة، فالشأن في علماء المسلمين فيما مضى أنهم كانوا يُنْزلون الأحكام الفقهية على واقعهم، فكانوا يعلمون أنّ الأحداثُ والوقائع تَجِدُّ وتتنامَى مع الزمن، فالوقائع والنوازلُ لا تتناهَى ولا يحيط بها الحَصْر، فكان الفقهاءُ كلَّما حدثتْ حادثةٌ حقَّقوا مَناطَها، فنزَّلوا حكمَها على الواقع المطابق لها، فلم يعرف تاريخُنا العلميُّ جموداً إلا في هذه الأيام التي قلَّ فيها الفقه وضعفتْ الملَكَةُ الفقهية، وقد كان الفقهاء يحذِّرون من اليُبْس والجمود، وينهون عن تخريج الفروع بجزئيَّات المسائل، دون النظر إلى القواعد الكلية، فكانوا يطلبون من الفقيه أن يَضبط الفقه بالأصول والقواعد، فالأمر كما قال الإمام شهاب الدِّين القرافي: (ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات) وقد نبَّه رحمه الله إلى أنَّ الفقيهَ إذا جاءَه مَن يستفتيه مِن غير بَلَدِه، أنَّ الواجب عليه ألا يُجْرِيَ الحكمَ على عوائد بَلَده هو وأعرافه، بل على عُرْف السائل، فينظر الفقيهُ في النازلة ليقف على سِماتها وأوصافها ليُنْزِل الحكم عليها بتطابقٍ تام، وبهذا يتبين لك أنَّ هذا الضَّبط للفقه بالأصول والقواعد هو السبب في عدم وجود فراغٍ قانونيٍّ في الفقه، فلسنا بحاجةٍ للأخذ بسابقةٍ قضائيَّة ولا غيرها، ولهذا الكلام تفصيلٌ طويل الذيل، بَسْطُه في كتب أصول الفقه .

س ما دور علماء المسلمين في نهضة الأمة وتجديد الفكر الإسلامي لأنتشالها من حالة الثبات والهوان التي عليها الآن ؟

16. شاركت في العديد من المؤتمرات الدينية والندوات الفقهية وغيرها فهل تؤتي هذه المؤتمرات ثمارها على المجتمعات الإسلامية أم أنها شو إعلامي ؟.
17. تشتهر أسرتكم بوجود أعراف أخلاقية تتماشى مع قيم الثقافة الإسلامية أهمها مجلس الأسرة الذي يعقد يوميا بين صلاتي المغرب والعشاء ويتم قراءة الحديث النبوي الشريف وسرد بعض الطرائف الأدبية ومناقشة الأحداث الوطنية والعالمية .. فما مدى تأثير ذلك على الصغار وكيف يمكن تعميم التجربة ؟.
18. لكم رأي عن البذخ في الطعام والزينة في الأعراس وشبهتموه باللعب بالأموال أمام الفقراء .. فحدثنا عن ذلك.
19. ما رأيكم فيمن يدعي أن الوقف يعد حرمانا للورثة وأنه مضيعة للأموال ؟
20. لفضيلتكم مؤلف عن المسئولية الطبية في الشريعة الإسلامية .. فما حدود هذه المسئولية ؟.
الطب في الإسلام مهنةٌ شريفة، فأشرف العلوم ما كان متعلقاً بدين الناس واعتقاداتهم، ويليه ما كان متعلِّقاً بحفظ صحَّتهم، قال الإمام الشافعي: (لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أَنْبل من الطب) وقد كان كثيرٌ مِن علماء الشريعة أطباء، ومنهم الإمام الشافعي، وكان الإمام أبو أبو عبد الله المازري -أوَّل من شرح صحيح مسلم- يُفتي في الطب كما كان يفتي في الفقه، ولعظيم شأن الطب وخطر الخطأ فيه، قال العلامة ابن عقيل: جُهَّال الأطباء هم الوباءُ في العالَم، وتسليمُ المرضى إلى الطبيعة أحبُّ إليَّ من تسليمهم إلى جهال الأطباء، وكما حذَّروا من جهلَة الأطباء، فإنهم نبَّهوا كذلك على أهمِّيَّة ألاَّ يتصدى للجراحة إلاَّ من اشتهرت معرفته وأمانته، وجودة علمه بتشريح الأعضاء والعروق، وقد بسط الفقهاء القول في مسؤولية الأطباء وأخطائهم، وفرَّقوا في العقوبة بين صور الأخطاء الطبية، فذكروا الخطأ المحض، والتقصير والإهمال، والجهل بأصول المهنة، ومخالفة أصول المهنة، ومخالفة ما أَذن فيه المريض، فجعلوا لكلِّ نوعٍ عقوبةً تتناسب مع خطره، ومن أدقِّ ما بيَّنوه أنهم جعلوا العلاقة بين الطبيب والمريض علاقةً تعاقدية، فوضعوا لها شروطاً وضوابطا، ووضعوا منهجا للتداعي بينهما .
21. ثبوت الأهلة قضية تثار مع مطلع كل شهر هجري خاصة رمضان والعيدين فكيف يمكن توحيد الرؤى بين دول العالم الإسلامي ؟.
الشهر في الشرع يبدأ من لحظة رؤية الهلال، وليس من لحظة المحاق، وهي لحظةُ محاذاةِ الشمس للقمر واقترانه به، بحيث يصير القمرُ بينها وبين الأرض على خط مستقيم، وتسمَّى لحظة الاقتران، لأن وجهَ القمر المقابلَ لِجهة الشمس يصير منيراً، لانعكاس أشعة الشمس عليه، ووجهُهُ المقابل لجهة الأرض مظلماً، فيقال: امَّـحَق الهلال، فهذه اللحظة تتم بدقَّة عالية، فتتم كلَّ تسعة وعشرين يوماً واثنتي عشرة ساعة وأربعة وأربعين دقيقة وثانيتين وسبع وثمانين في المائة من الثانية، فهي دورةٌ لا يختلف فيها شهرٌ عن شهر، ولهذا كان الشهر مختلفاً، فأحياناً يُقدَّر بتسعةٍ وعشرين يوما، وأحياناً بثلاثين يوماً، بخلاف لحظة الرؤية، فإن الفلكيين متَّفقون على أنها غير منضبطة، لأسباب عديدة، منها وجود غيمٍ أو غبار أو شُعاع أو بسبب بُعد القمر عن مركز الأرض وارتفاعه فوق الأفق، وغيرها من العلامات التي يعرفها الفلكيون، فالشرعُ الشريف لا ينكر علم الفلك، وإنما لم يأخذ به هنا لأن معرفة لحظة إمكانيَّة الرؤية مُحالٌ بلا خلاف بين الفلكيين، ومن رحمة الله بعباده أنْ يسَّر الأمر علينا، فرخَّص في قبول عدلين يشهدان على رؤية الهلال، ومن شرْطِ قبول شهادتهما أنْ يَشهدا برؤيته في الزمن الذي يمكن أنْ يُرى فيه في موضعه عادة، ذلك أنَّ من واجبات القاضي أنْ يَتثبَّت من نظر الشاهد وحدَّة بصره، ومن معرفته بمطالع القمر ودرجة ارتفاعه فوق الأفق وانحرافه في الأُفق، فيُعتَبر فيمن يشهد في رؤية الهلا ما يُعتبر في سائر الشهادات، كما قال أبو الوليد الباجي، فيُشترط أن تخلو شهادتُه عمَّا يوجب إسقاطَها كما إذا كانت الرؤيةُ مستحيلةً عقلاً أوعادة، فلو زعم أحدٌ أنه رأى الهلالَ قريبا من كبد السماء، أومنحرفاً إلى غير جهة المغرب، أوقبل المحاق، فهذا يُحكم ببطلان شهادته، لأنه إنْ كان ثقةً وعدلاً، فلا شك في أنه واهمٌ، فمطْلَعُ القمر هو الغرب وليس كبد السماء، كما أن زمن رؤيته بعد المحاق بعدَّة ساعات وليس قبله، فهذا الشاهدُ إنْ كان صادقاً، فقد يكون رأى نجماً آخر أوكوكباً غير الهلال، أوشعرةً في عينه، أوغير ذلك، فالعين قد تُري الإنسانَ ما لا حقيقة له، وأذكر هنا حكايةً تلخِّصُ لنا اللغط الذي يكثر مع بداية كلِّ رمضان، ومع إقبال كلِّ عيد، وهي ما حكاه ابنُ خلكان في تاريخه: (تراءى هلالَ شهرِ رمضانَ جماعةٌ فيهم أنسُ بن مالك رضي الله عنه، وقد قارب المائة، فقال أنسٌ: قد رأيتُه، هو ذاك، وجعل يشير إليه، فلا يَرونه، ونظر إياسٌ إلى أنس، فإذا شعرةٌ مِن حاجبه قد انْثَنتْ، فمسَحها إياسٌ، وسوَّاها بحاجبه، ثم قال له: يا أبا حمزة، أَرِنا موضع الهلال، فجعل سيُّدنا أنسٌ ينظر ويقول: ما أراه! ) وإلى هذا المعنى أشار القاضي أبوبكر ابن العربي رحمه الله بقوله: الشاهدُ إذا قال ما قامَ الدليلُ على بطلانه، فلا تُقبل شهادتُهُ .
22. ما رأيكم في الممارسات التي تقوم بها الجماعات الإرهابية من تخريب وقتل وحرق وسبي نساء ثم الادعاء أن الدين يأمرهم بذلك وأنه جهاد في سبيل الله ؟.
هذه من الفتن التي لا يعلم العبدُ لها تفسيراً، فأيُّ مصلحةٍ يرجوها عاقلٌ من تخريبٍ للممتَلكات ومن هتكٍ للحرمات وتقتيلٍ للأنفس، والله إن الإنسان لا يَكادُ يصدِّق ما يسمعه ويراه من هذه الأعمال العدوانيَّة، التي لا تفعلها الحيوانات إلا دفاعاً عن نفسها، لكنَّه الإنسان، فإنه أضْرَى الوحوش إذا تجرَّد من خوفٍ من الله، فأين هذا من الجهاد، فما شرع اللهُ الجهاد لقتْل الناس ولا لأذايتهم، فلم يكن الجهادُ مقصوداً لذاته، وإنما شرعه اللهُ لِمنْع الظلم وبَسْط العدل بين الناس، فإن ارتدعَ المسيء عن إساءته تركناه، وإن اضطرَّنا بأفعالِهِ المشينة إلى القوَّة استعملناها مِن غير ظُلمٍ ولا اعتداء .
23. كيف يمكن الاستفادة من التقنية الحديثة في نشر الدعوة وتصحيح الصورة المغلوطة عن الدين الحنيف ؟.



24. التكفير صار تهمة يلصقها الكثيرون على من يخالفونهم الرأي فما هي حدود تكفير الآخر ؟.
المسلم باقٍ على أصل الإسلام، فلا يصحُّ أنْ نكفِّر مسلماً إلا بدليل يقيني صريح غير محتمل، فيَكْفُر الإنسان بالقول إن نطق بكلام صريح في الكفر لا يحتمل التأويل مطلقاً، كالاستهزاء بأسماء الله تعالى وصفاته، ويَكْفر بالفعل إنْ فَعَل فعلاً يتناقض مع ما انعقد عليه الإجماع وعُلم من الدين بداهة، كالسجود للأصنام وكَـرَمْـي المصحف تحت الأقدام على سبيل التحقير، ما لم يصدر منه ما يدلُّ على أنه لم يقصد الكفر، كأن ينطق بالكفر أو يفعله خوفاً على نفسه لقوله تعالى ( إلا من أكره وقلبه مطمئن للإيمان ) ، أو يدوس على المصحف غفلةً، فالقاعدة في الشريعة الإسلامية أننا نَحكم بإسلام المرء لأدنى سبب، فإذا سمعنا كافرا ينطق بالشهادتين حَـكَـمْـنا بإسلامه، غير أننا لا نحكم بكفر أحدٍ إلا بدليل قاطع، فقد قال ابن عبد البر رحمه الله: فالواجب في النظر أن لا يكفر إلا من اتفق الجميع على تكفيره أو قام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب أو سنة. ومن جميل ما سطَّره لنا تاريخنا المشرق، معاملةُ نبيِّنا محمدٍ صلوات الله وسلامه عليه للمنافقين، فقد كان يعاملهم بحسب ظواهرهم ، فلم يفضحهم بل أجرى عليهم أحكام المسلمين . ثم إنا مأمورون بالتماس المعاذير للناس، لا أنْ نشقَّ قلوبَهم، قال أبو بكر بن فورك رحمه الله:الغلط في إدخال ألف كافر بشبهة إسلام خير من الغلط بإخراج مسلم واحد بشبهة كفر .
25. البعض يدعي قدرته على شفاء الناس بتحضير الجن حتى أنه تحول للعبة بيد الأطفال .. فهل يمكن للجن شفاء الإنسان وتحقيق رغباته وما تأثير الاعتقاد بذلك على المعتقدات في المجتمعات الإسلامية ؟.
الروح خلق من خلق الله تعالى، وروح المؤمن تتنعَّم برؤية مقعدها في الجنَّة، فإنَّه إذا قُبِرَ قال له الملَكان: (انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة)فالروح موجودة، أما ما يزعمه بعض الناس من أنه قادرٌ على تحضيرها، فهذا زعمٌ يحتاج إلى برهان، فهؤلاء المدَّعون يتعامَلون من السحرة، وكلُّ ما يقوم به السحرةُ تعاملٌ بأمورٍ مجهولة، بين ظنون وحدْسٍ وتخمين. لا تستند إلى علم، فما أدراك أن هذا الصوت الذي صدر صوت جنٍّ قلَّد صوت الميِّت، فما أعظم ديننا حين أمرنا أن نتعامل مع ما دلَّ عليه العلم، لا مع الأوهام والتخييلات، فقال لنا: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أما الشفاء من الأمراض، فإن الشافي وهو الله تعالى، قد أجْرَى العادة بحصول الشفاء بأسبابٍ معروفة، كالتداوي بالأعشاب والحبوب والأشربة، وكالتداوي بالتدليك وبالجراحة وبوخز الإبر، وغيرها من الأسباب التي بثَّها الله ويسَّرها لعباده، وما كان السِّحر في يومٍ من الأيام سبباً للشفاء، فلو كان في السحر نفْعاً لأذن في التداوي به، فضلاً عن أنه ليس علماً يُمكن تدريسه، فهذه الجامعات تملأ السَّهل والوَعْر، وليس فيها علمٌ يُسمَّى علم السحر، فالسحر تعاملٌ مع طلاسم وشخوصٍ مجهولة .
26. شاركتم في ندوة لتطوير الروضة الشريفة بالحرم النبوي بالمدينة المنورة .. فما هي آليات هذا التطوير ؟.
نعم هي ندوةٌ وقعتْ بدعوةٍ من أمير منطقة المدينة المنورة سمو الأمير فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز حفظهما الله، الذي افتتح الندوة بكلماتٍ أثَّرتْ في نفوس الجميع، فالندوة تأتي استجابةً لحاجةٍ ملحَّة، فمساحة الروضة الشريفة محدودةٌ، فهي في حدود 333متراً مربعاً، فالحاجةُ ماسَّةٌ إلى تسهيل الوصول إلى القبر الشريف للسلام على رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه، وكذلك لتسهيل الصلاة في الروضة الشريفة، ولاشكَّ أن الرئاسة العامة لشؤن المسجد النبوي قد بذلتْ جهوداً كبيرةً لتسهيل ذلك، وأجْرَتْ تنظيما اجتهدت في وضعه، ومن واجبنا أن نشكر مَن بذل واجتهد، بل إنها وفَّرتْ نساءً للترجمة يزيد عددهنَّ فيما أذكر على مائة مترجِمة يتحدثن خمس عشرة لغة، غير المسؤولات عن التنظيم واللائى يصل عددهنَّ إلى ثلاثمائة امرأة منظِّمة، غير أن الرئاسة بحاجة إلى الاستفادة من أهل الخبرة من المهندسين وأصحاب الرأي، فاجتمع عددٌ من أهل الرأي والمعرفة وناقشوا عدَّة مقترحات، وكان نقاشا مثمرا، والناس تتطلَّع الآن إلى معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج والعمرة بجامعة أم القرى، لتحويل هذه المقترحات إلى برناج عملي، أسأل الله أن يرى النور قريبا .

عضو هيئة كبار علماء السعودية لـ « الأهرام »: اختـلاف الفتـاوى رحمـة بالأمـة التعاون بين المؤسسات الدينية فى مصر والمملكة واجبٌ الأخوَّة الإسلامية



كد الدكتور قيس بن محمد آل الشيخ مبارك أستاذ الفقه بجامعة الملك فيصل، وعضو هيئة كبار العلماء بالسعودية، أن اختلاف الفتاوى أمر محمود ومندوب إليه، وهو من محاسن الشريعة، ويجب ألا يكون سببا للنزاع والشقاق بين المسلمين.
وأوضح أن استقطاب الجماعات المتشددة مثل “داعش” وغيرها من التنظيمات الإرهابية للشباب والبسطاء يستدعى البحث عن آليات تحصين أبنائنا، لحمايتهم مِن أن يكونوا أدوات بأيدي الآخرين. وطالب العلماء بأنْ يَكُفُّوا عن جَلْد الشباب بل عليهم أنْ يَنزلوا إليهم ويعامِلوهم معاملة الأبِ الحاني على أولاده والوقوف على همومهم وبحث مشكلاتهم وتلبية حاجاتهم الفكرية والمعرفية.

وقال في حوار لـ « الأهرام» على هامش مشاركته في مؤتمر (وسطية الفكر في الدراسات العربية والإسلامية) الذي نظمته كلية دار العلوم بجامعة المنيا، إن التعاون بين المؤسسات الدينية في المملكة العربية السعودية ضرورة للحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية ومواجهة التحديات الراهنة.. والى نص الحوار..

ما أسباب استقطاب التنظيمات الإرهابية مثل “داعش” وغيرها كثيرا من الشباب حتى من داخل الدول الغربية؟ ولماذا وجد الفكر التكفيري رواجا في الآونة الأخيرة؟

استقطاب الجماعات للشباب والبُسطاء ليس عسيراً، وأيَّاً كانت الجهةُ التي تقف وراء نشأة هذه الجماعات، هل هي حكومات غربية كما يقول البعض، وهو زعْمٌ لا يُخفي كثيرٌ من السياسيين والمثقفين الغربيين قناعتهم به، غير أن الذي يعنينا، ونراه أهمَّ علينا مِن الحديث عن نشأتها وأسباب استقطابها لأولادنا، هو كيف نحصِّن أبناءنا، وكيف نحميهم مِن أن يكونوا أدوات بأيدي الآخرين، فهذا أهمُّ علينا من أنْ نُشغل أنفسنا بمن هو الذي يرعَى هذه الجماعات، ولعل أول شيءٍ يجب تحصينُ أولادنا به هو العلم، ذلك أن الجهل إذا اقترن بفقدانٍ العدالة وبالإحباط والحماس، فإنه يورث المهالك، ويزجُّ بالشباب إلى مهاوي الرَّدَى، فالشباب يُظنُّ بهم البساطة والطِّيبة مع قلَّة الدِّراية والمعرفة، ومع شدَّة الحماسة والاندفاع. فالجهلُ مع شدَّة الحماس سببان أساسيان في الوقوع في الهوَى، أي أن المرء لِشدَّة حماسه قد يغلبُه هواهُ من حيث لا يعلم، وما ذاك إلا لِتَسَلُّط أهوائه القلبيَّة وانفعالاته وطيشه، على أقواله وآرائه وتصرُّفاته، فكثيرٌ من الناس يبدأ داعيةً إلى الله، فإذا به يجدُ نفسَه داعيةً إلى أشخاص، وربما صار داعيةً إلى جماعةٍ من الجماعات، فهذا هو الهوَى الذي يقذف بصاحبه إلى الفسق أو إلي الانحراف والضلال، وربَّما أوقع بصاحبه في الكفر، كما قال الله تعالى: (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ). وهذا المؤتمر الذي نظمته كلية دار العلوم بجامعة المنيا مهم في موضوعاته، ومهم في وقته، والأهم عندي أن يفتح المعلِّمون والمربُّون من أساتذة الجامعات وغيرهم صدورهم للشباب، فيجلسون إليهم ويستمعون إلى أقوالهم واستشكالاتهم، ويحاورونهم بحلمٍ وعلم قبل أن يلقِّنوهم ما يريدون، وأولادنا لا ينقصهم الذكاء والفهم، ولا ينقصهم الصدق في البحث عن الحقِّ والصَّواب، ولا تنقصهم القدرة على تمييز الأفكار الصحيحة من الشَّاذَّة، إذا تمَّ عرضها عرضاً علميَّاً صحيحاً، غير أنهم بحاجة إلى مَن يُحسن الاستماع إليهم ومناقشتهم، وأقْدر الناس على محاورتهم هم أساتذتهم.

ويجب علينا أن نبحث ونتدارس جميعا كيف تم اختطافُ أولادنا من بين أيدينا، ولماذا عَجَزنا عن مَنْع هذه الظاهرة وعن الوقوف دون انتشارها، وأخشى أن تكون بعض المعالجات سبباً في ازدياد هذا المرض وانتشاره، ولذلك فأنا أكرر ما ذكرته وهو أن أوَّل سبل العلاج يكون بالجلوس مع أولادنا في المرحلة الثانوية والمرحلة الجامعية، لامتصاص غضبهم والاستماع إلى همومهم، فالنفوس تتعلَّق عادةً بالمجهول، لأنها ترَى في المجهول ما لا تراه في المعلوم، وتظنُّ أن هذا المجهول شيءٌ عظيم، ولم يكن هؤلاء الشباب المغرر بهم ليقلدوا بعض من يظنون انهم أهل العلم لو وَجَدَوا مِن الأساتذة مَن يَفتح قلبَه له، فالمأمول من الأساتذة أنْ يَكُفُّوا عن جَلْد الشباب، بل عليهم أنْ يَنزلوا إليهم، ويعامِلوهم معاملة الأبِ الحاني على أولاده، فعندها لن تجد في أولادنا مَن يُختطَف.

وما سبب اختلاف الفتاوى وتضاربها بين كبار العلماء؟

اختلاف الفتاوى ثمرةٌ لاختلاف الاجتهاد، وهو أمرٌ محمود ومندوبٌ إليه، وهو من محاسن الشريعة، فلم يكن اختلاف الفتاوى عند المتقدمين سبباً للنزاع والشقاق بين المسلمين، وإنما كان عنواناً على مرونة الشريعة وسَعَتها، وحُجَّةً للناس في أن يختلفوا في تنظيم شئونهم الحياتيَّة من غير أن تختلف قلوبُهم، ولم يكن هذا الاختلاف سببا للتنازع، بل إن الفقهاء اتفقوا على أن مِن المنكرات المبتدعة أنْ يَحتكر أحدٌ الاجتهاد، فليس له أن يزعم أنَّ قولَه هو الراجح وهو الصحيح مطلقاً وهو الذي عليه الدليل! فيُلغي اجتهاد غيره، وإنما للمجتهد أن يقول هذا هو ما ظهر لي، أو ترجَّح عندي، فهذا الإمام الأعظم أبو حنيفة النُّعمان يقول: (قولُنا هذا رأيٌ، وهو أحسنُ ما قَدَرْنا عليه، فمَن جاءنا بأحسن من قولنا، فهو أولى بالصواب منَّا).

حينما نذهب لأداء العمرة أو الحج نجد تضاربا في الفتاوى ذات الصلة بالمناسك، وكل حاج أو معتمر يتبع فتاوى علماء البلد الوافد منها، فلماذا هذا الاختلاف؟

لعلك تقصد الفتاوى المعتبرة التي انتظمتها كتب المدارس الفقهية المعتبرة، فهذه لا يقال عنها فتاوى مصر ولا فتاوى السعودية، لأن فقهاء مصر وفقهاء المملكة العربية السعودية مرجعيَّتهم واحدة، فليست مرجعيَّتهم بلداً ولا أشخاصاً، فلذلك صار فقهُهم واحداً، نعم قد يستشكل بعضُ الناس اختلاف الفقهاء في بعض المسائل، غير أن هذا ليس تضارباً في الفتوى، فيسيرٌ على الشارع الحكيم أنْ يَنصَّ بكلماتٍ يسيرةٍ، على حُكمٍ قاطعٍ في كثير من المسائل الفقهية، فتكون الفتوى واحدةً باتفاق الفقهاء، فهذا أيسرُ على الشارع الحكيم، غير أنَّ مُرادَ الشارعَ وحِكْمةَ الشريعة اقتضَتْ أن يكون حُكمَ كثير من المسائل الفقهية موضعَ اجتهادٍ، بخلاف أحكام تقسيم الميراث مثلاً، فقد كانت معظم أحكام الميراث موضعَ اتِّفاقٍ بين العلماء، فقد جعلها اللهُ قطعيةً، لِـمَنْع التنازع بين الورثة، أما معظم مسائل الفقه فكانت محلَّ اجتهادٍ لحِكَمٍ عديدة، ليس هذا موضع بحثها، وإنما الذي يهمُّنا منها في هذا اللقاء، أنْ يرى الناسُ فيها نموذجاً مشرِّفاً لتوسيع ساحة المذاكرة والبحث والاجتهاد العلمي، فتختلف الآراءُ وتتعدَّد الاجتهادات في المسألة الواحدة.

ما هي أوجه التعاون بين مصر والسعودية في مجال الدعوة والإفتاء؟

التعاون بينهما واجبٌ تفرِضُه الأخوَّة الإسلامية، فالمؤسسات التي ترعَى الشئون الدينية في المملكة ومصر، لهما وزنهما في العالم الإسلامي، بل في العالم كلِّه، والمسلمون ينتظرون منهما مزيداً من الجهود في توعية الناس بحقائق الإسلام، وفي تبصير الناس بالعقيدة الصحيحة، لا تقذف بهم الأهواء والعواطف إلى مزالق الرَّدى، فلم يُلحد الملحد، أو يتشكَّك المتشكِّك إلا بسبب سوء فهمه لدين الله، ولن يقف أمام هذا التشويه لحقائق الإسلام إلا العلماء، وقد قال يحيى بن معاذ: عالِمٌ واحدٌ أشدُّ على الشيطان من ألف عابد، فللعلماء أثرٌ بالغٌ في إبراز صورة الإسلام على حقيقتها المشرِّفة.

http://www.ahram.org.eg/News/161878/41/502816/%D9%81%D9%83%D8%B1-%D8%AF%D9%8A%D9%86%D9%89/%D8%B9%D8%B6%D9%88-%D9%87%D9%8A%D8%A6%D8%A9-%D9%83%D8%A8%D8%A7%D8%B1-%D8%B9%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%80-%C2%AB-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%87%D8%B1%D8%A7%D9%85-%C2%BB%D8%A7%D8%AE%D8%AA%D9%80%D9%84%D8%A7%D9%81.aspx

تحاور العلماء مع الشباب يقيهم شر الجماعات المتطرفة غياب العدل ... بيئة خصبة للأفكار الشاذة و المنحرفة


سيدي العالم الجليل الأستاذ الدكتور/ قيس بن محمد آل الشيخ مبارك
أمدكم الله بالعمر المديد لخدمة الإسلام والمسلمين
1. السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
طبتم وطابت أوقاتكم بالصحة والعافية ونفع الله بعلمكم الأمة الإسلامية جمعاء أنه ولي ذلك والقادر عليه يطيب لنا ان نحاور فضيلتكم لكي نضع النقاط علي الحروف ويستفيد من علمكم الواسع ومنهجكم الفياض جمعا غفير من قراء جريدتنا الغراء التي تصدر عن مشيخة الأزهر الشريف تحت رعاية الأمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب وبأشراف الدكتور عباس شومان وكيل الأزهر .
العالم الجليل هذه بعض الأسئلة التي أتفقنا علي أرسالها إلي فضيلتكم اثناء أنعقاد ندوة الحج الكبري ووعدتنا بالرد عليها .
وإلي فضيلتكم الأسئلة ....
يموج العالم الإسلامي بتيارات متطرفة أفرزت فرق وجماعات وأحزاب وتقاتل فيما بينها برأي فضيلتكم ما الأسباب التي أدت إلي هذا التفكك الموجود في الأمة وما السبيل إلي وقف اراقة الدماء ؟
من فترة لأخري يظهر من يطالب بتجديد الخطاب الديني ويرجعون كل ما يحدث من إرهاب وتطرف إلي جمود الفكر فما هو التجديد المأمول لتعم الفائدة علي الأمة الإسلامية ؟
ما دور علماء المسلمين في نهضة الأمة وتجديد الفكر الإسلامي لأنتشالها من حالة الثبات والهوان التي عليها الآن ؟
كيف تري فضيلتكم دور المرجعيات الدينية الكبيرة في السعودية والأزهر الشريف في مصر ومناقشاتهم لقضايا العالم الإسلامي خاصة الأرهاب والتطرف ووضع الأقليات المسلمة في العالم ؟
كيف نحمي شبابنا من الإنجراف والوقوع في براثن الجماعات المتطرفة ؟
المرأة شاركت الرجل الأستخلاف في الأرض وجاء الأسلام ليعطيها حقوق كانت فيما قبله من المحظورات ومع ذلك نجد من يشكك في أخذ حقوقها فما رد فضيلتكم علي هؤلاء ؟
البعض يري أن أغلب مشاكل الأمة الإسلامية سببها غياب العدل الأجتماعي كيف حل هذه القضية ؟
وتفضلوا بقبول فائق الأحترام والتقدير لشخصكم النبيل
وبارك الله في علمكم الغزير
أبنكم المخلص مصطفي هنداوي صحفي بجريدة "صوت الأزهر "
h.01113222563@gmail.com
00201065227500
سؤال١:
يموج العالم الإسلامي بتيارات متطرفة أفرزت فرق وجماعات وأحزاب وتقاتل فيما بينها برأي فضيلتكم ما الأسباب التي أدت إلي هذا التفكك الموجود في الأمة وما السبيل إلي وقف اراقة الدماء ؟
الجواب:
إن المعاناة التي تعيشها الأمةُ الإسلامية كبيرة، ويزيدها اشتداداً أن نتقاذف التُّهم في أسباب هذه الحال التي نحن فيها، ويزيدها اشتداداً كذلك هذا الاستقطاب الحادّ بين أطياف المجتمع، وهو استقطابٌ يعاني منه عالمُنا الإسلاميُّ كلُّه، من أقصاه إلى أدناه، استقطابٌ يتنافَى مع الأخوَّة بين المسلمين، والتي هي أصلٌ من أصول الدين وعِصمةٌ من عِصم المسلمين، ويؤكِّد أهمِّيَّة التآلف والتَّآخي، إنَّ غياب الحكمة في التعامل بين الفُرَقاء نذيرٌ بفكِّ بُنيان التماسك الاجتماعي، ومفتاحٌ لباب الفتنة، والمأمول أن يتناسى الجميعُ حظوظَ النفس وأنْ لا يكون الانتصارُ للنفس رائداً لهم في تصرُّفاتهم، وأن يُغلِّبوا حقَّ الأخوَّة وحقَّ الجوار وحقَّ المواطَـنَة، وحقَّ حفظ البلاد من الفتن، أما إصرارُ صاحبُ كلِّ رأيٍّ على تخطئة غيره والتَّهجُّم عليه، وعلى الاقتصاص منه أوالإقصاء له، فهو منافٍ للأخوَّة، والله تعالى يقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وشأْنُ الإخوَّة الرحمة، فإنما تُرْجَى الرحمة للمجتمع وتستقيم الأحوال وتصلح، بِنِسْيان الإحن، فنسيان الأحقاد مُرْتقى صعب، لكنه سهلٌ على من جعل خَوْف الله بين عينيه، والعرب تقول: (متى ما يَسُؤْ ظَنُّ امرِءٍ بِصَدِيقِه ** يُصَدِّقْ بلاغاتٍ يَجِئْهُ يَقِينُها) (إذا كان في صَدْرِ ابنِ عمِّكَ إِحْنةٌ ** فلا تسْتَثِرْها سوفَ يَبْدُو دَفِينُها)
سؤال٢:
من فترة لأخري يظهر من يطالب بتجديد الخطاب الديني ويرجعون كل ما يحدث من إرهاب وتطرف إلي جمود الفكر فما هو التجديد المأمول لتعم الفائدة علي الأمة الإسلامية ؟
الجواب:
التجديد المطلوب هو إرجاعُ الناس إلى هَدْيِ النُّبوَّة، ذلك أن الناس مع مرِّ الأيام والليالي تبتعد عن الأخلاق والآداب التي ارتَقى بهم إليها الأنبياء، بسبب غَلَبة الأهواء والشهوات ووساوس الشيطان، فهم بحاجةٍ إلى من يعيدهم إلى الجادَّة والصواب، كلما تقادم بهم الزمان، وما كان هدْيُ الأنبياء جموداً ولا يُبْساً، فقد كانت الأمة الإسلامية في نَماءٍ وازدهار، وكان ارتقاؤها صعودا في العهود الأولى، لأنها كانت أقوى ديناً وأقرب إلى الهدي النبوي، وإنما يجمد الفكر إذا ابتعد الناس عن فهم حقيقة الدين، ومشكلة العالم الإسلامي اليوم هي البُعد عن المعاني الإسلامية العظيمة، فأنت تلاحظ أن المسلمين في الماضي كانوا يُنْزلون الأحكام الفقهية على واقعهم، ذلك أنّ الوقائع والأحداثُ تتنامَى مع الزمن وتَجِدُّ مع الأيام والليالي، فكلَّما نزلتْ نازلةٌ حقَّقوا مَناطَها، أي نزَّلوا حكمَها على الواقع المطابق لها، بل كان سلفُ الأمَّة يَنهَون عن الجمود على المنقولات، ويرونه انحرافاً عن الهدي النبوي كما قال الإمام أبوحامد الغزالي، وقد ذكر الإمام شهاب الدِّين القرافي، أن الفقيهَ إذا جاءَه مَن يستفتيه مِن غير بَلَدِه، أنَّ الواجب عليه ألا يُجْرِيَ الحكمَ على عوائد بَلَده وأعرافه، بل على عُرْف السائل، وهو كلامٌ غايةٌ في الأهميَّة، والنَّاظرُ في كتب المدارس الفقهية المعتبرة يجدها تُراعِي اللغة والأعراف والعوائد، فيُقدِّر المفتِي في الفتوى: الزمان والمكان والأشخاص، كما يقول علماء الأصول، فما يُفتَى به في زمانٍ قد لا يُفتَى به في زمان آخر، ويُسمِّي الفقهاءُ هذا المعنى “مراعاةُ محلِّ النازلة” ويسمِّيها فقهاء الحنفية “الواقعات” لأن الفقيه يرقُب الواقع في فتاواه، وهذا المعنى مبسوطٌ في كتب أصول الفقه، حيث يذكر الأصوليون أنَّ مِن شروط صحَّة الفتوى وجودَ تطابقٍٍ بين الواقعة التي نزلتْ وبين الحكم، فهذا هو ملاحظة الواقع، أي تحقيق المناط الذي هو تسعةُ أعشار النَّظر الفقهي، كما قال الأصوليين، لأن الحكم الشرعيَّ نَزَل معلَّقاً على واقعٍ مشخَّص، فلا يصحُّ تَنزيل الحكم إلا على الواقع المطابق له، فالشريعة جاءت بعبارات كليَّة ونصوص منحصرة، تتناول جزئيات المسائل التي لا تنحصر، بل تتنامى مع الأيام، والفقيه هو الذي ينظرُ في الواقعة لمعرفة طبيعتها وسِماتها وأوصافها ليُنْزِل الحكم عليها بتطابقٍ تام، والواجب على مَن يتصدَّر للفتوى في هذا الزمان أن يتنبَّه إلى خطورة الجمود واليُبْس على ألفاظٍ دون التفاتٍ للمقاصد والمعاني، ومن أظهر الأمثلة على هذا امتناع سيدُنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قطع يد السارق عام المجاعة، ولم يكن هذا رأيٌ انفرد به الفاروقُ كما يَظنُّ كثير من الباحثين اليوم، وإنما هو الحكم الفقهي في زمن المجاعة، لأن الناس في حال المجاعة تغلب عليهم الفاقة والضرورة، وهي شُبهةٌ تُسقط الحد عن أحدهم إذا سرق، وهذا ما تقتضيه قواعد الشرع .
س ما دور علماء المسلمين في نهضة الأمة وتجديد الفكر الإسلامي لأنتشالها من حالة الثبات والهوان التي عليها الآن ؟
الحال الذي نحن فيه اليوم حالٌ مُؤسف، ويتحمَّل مسؤوليَّته الجميع، غير أنَّ المسؤوليةَ تكون أكبر على المرء إذا كان له شأنٌ وتأثير في المجتمع، فمسؤولية صاحب القرار السياسي كبيرة، وربما كانت مسؤولية العلماء أكبر، لأن الناس تَنزِعُ بطبيعتها إلى التديُّن، فيكون انقيادُها لما يقوله العلماءُ كبيرا، فمن أجل ذلك كان واجبُ العلماء كبيراً، فوظيفتهم بيانُ حقائق الإسلام للناس، ليعرف الناسُ عظمة دينهم وأنَّ به صلاح البشرية، وأنه دين الفطرة الإنسانية، فليس فيه ما يُسْتَحْيى مِنه، ومن وظيفتهم كذلك تبصير الناس بأحكام الشريعة الإسلامية وآدابها، وتحذيرهم من المعاصي والذنوب، رحمةً بهم وشفقةً عليهم، وواجبهم كذلك أن يكونوا نصَحَةً لجميع الخلق، بالحذر من أنْ تُلوِّثهم السياسةُ، فالسياسةُ قد تدفعُ أحدَهم -من حيث يعلم أو لا يعلم- ليكون منحازاً إلى فئةٍ، فتنقسم بسببه الشعوب، فربَّما صار وسيلةَ دعايةٍ انتخابية، وربَّما صار داعيةً لجماعةٍ أو حزب، والحالُ أن الناسَ ينتظرون من الفقيه أن يكون ناصحاً لجميع أفراد المجتمع، المذنب منهم والمطيع، إنْ قَسَى على العاصي، فقسوَةَ المحبِّ المشفق، فخوفُه عليهم خوفُ الأب على أولاده، كما قال أبو تمام: فقسا ليزدجروا ومن يكُ حازماً ... فَلْيقْسُ أحياناً علَى من يرحمُ .

سؤال٣: كيف نحمي شبابنا من الإنجراف والوقوع في براثن الجماعات المتطرفة ؟
الجواب:
الجماعات زعامةٌ أو زعاماتٌ تُسيِّر أفراداً، الكثير منهم غايةٌ في الطِّيبة والبساطة، غير أنَّ كثيرا من هذه الزعامات جعلتْ من هؤلاء البُسَطاء وَقوداً لمعركةٍ لا ناقةَ لهم فيها ولا جمل، إنَّ الجلوس مع الشباب هو أوَّلُ سُبل وقايتهم من هذه الزعامات وتحصينهم من هذه الفتن، فيجب على المعلِّمين والمربِّين من أساتذة الجامعات وغيرهم، أن يفتحوا صدورهم للشباب، وأنْ يجلسوا إليهم وأنْ يستمعوا إلى أقوالهم ويُجيبوا على استشكالاتهم وتساؤلاتهم بحلم وعلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما شفاء العيِّ السُّؤال) فأولادنا في المرحلة الثانوية والمرحلة الجامعية، بحاجةٍ ماسَّة لامتصاص نقمتهم بالاستماع إلى همومهم، فقد اختطفَتْهم زعاماتٌ مجهولة، فقد استوقفني وأنا خارجٌ من قاعة افتتاح مؤتمر وسطية الفكر بكلية دار العلوم في جامعة المنيا أحدُ هؤلاء الشباب الطيِّبين، وسألني عن رجلٍ لا أعرفه، فقال لي هل تعرف الشيخ فلان، فقلت له: لا أعرفه، ثم تذكرتُ أني سمعتُ عن هذا الشيخ المسؤول عنه، فقد سمعتُ أنه رجلٌ لا يُعرف في الأوساط العلمية، وإنما عُرف في بعض الأوساط الدعوية والتربوية، وأنه لم يُعرَف بسبب علمٍ اشتهر به، ولا بسبب زُهدٍ وعِفَّة لسان، وإنما عُرِفَ بسبب كثرة وقوعه في العلماء والدعاة في مجالسه، وبتصنيفه لهم، بتبديع بعضهم وتضليل البعض الآخر، وبلغ به الجهل أنه يظنُّ أنه بهذا التصنيف يَقتدي بعلماء الجرح والتعديل، كم تمنَّيتُ أنَّ هذا الشاب الْتَقَى هذا الشيخ وتحدث إليه وسمع منه مباشرة، ليَقف على حقيقة هذا الشيخ الذي لم يَرَه، لا أنْ يُقدِّس أقواله ويقلِّده عن بُعد، ظانَّاً أنه يقلِّد إماماً جليلاً! فالنفوس تتعلَّق عادةً بالمجهول، لأنها ترَى في المجهول ما لا تراه في المعلوم، وتظنُّ أن هذا المجهول شيءٌ عظيم، ولم يكن هذا الشابُّ ليقلِّد هذا الرجل لو وَجَدَ مِن الأساتذة مَن يَفتح قلبَه له، فالمأمول من الأساتذة أنْ يَكُفُّوا عن جَلْد الشباب، بل عليهم أنْ يَنزلوا إليهم، ويعامِلوهم معاملة الأبِ الحاني على أولاده، فعندها لن تجد في أولادنا مَن يُختطَف .
سؤال٤:
البعض يري أن أغلب مشاكل الأمة الإسلامية سببها غياب العدل الأجتماعي كيف حل هذه القضية ؟
الجواب:
غياب العدل بيئةٌ صالحة لظهور الإفراط والتفريط، فهو ليس سببا في ذاته، وإنما هو البيئة الخصبة للأفكار الشاذَّة، المنحرفة يَمْنةً ويَسرة، فالأفكار الشاذَّة لا تنموا إلا إذا قلَّ العلم، والجاهل إذا علمَ أنه جاهل فقد أراح واستراح لأنه أنصَف مِن نفسه، غير أن البلاء في الجاهل الذي لا يدري أنه جاهل، وهؤلاء هم الجُهَّال الذين يشير إليهم الحديث الشريف: (اتَّخذ الناس رؤوساً جهَّالا، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا) فقد زعموا أنهم أعرفُ الناس بالإيمان، وأنهم أشد الناس تمسُّكاً بالقرآن، فإذا فُقِد في المجتمع العدلُ، فقد تهيَّأت البيئة المناسبة للانحراف والضلال، فيصير اختطاف الشباب سهلا وميسوراً، وأنا أضرب لك مثلاً لشابٍّ حماهُ الله بسبب العلم، من الوقوع في الزلل، فقبل ما يقارب تسعين سنة تقريبا، قرَّر عمِّي وشقيق والدي أنْ يلتحق بالثورة الليبية تحت لواء عمر المختار، ثم غادر مدينة الأحساء سرّاً، متوجَّها إلى ميناء العُقَير، أشهر ميناء بالخليج العربي يومها، فحين تسامع الناس بخبره، ذهب إليه بعضهم، فأدرَكوه في الميناء، فقالوا له بأن الجهاد في ليبيا جهادُ دَفْعٍ للعدوِّ، وهو فرضُ عَينٍ على القادرين من أهل البلاد التي اعتُدِيَ عليها، ثم مَن يليهم، وذكروا له أن أُمَّهُ غيرُ راضيةٍ عن ذهابه، فذهابُهُ مباحٌ، وطاعةُ الأمِّ واجبٌ عليه، فامتَثَلَ لحكم الله ورجع، ولم يفعل ما تَدفعه نفسُه إليه، فرحم الله الإمام البوصيري حين قال: (وخالفِ النفسَّ والشيطانَ واعصهما *** وإنْ هُما مَحَّضاكَ النُّصحَ فاتَّهِمِ) وهذا من فقهه رحمه الله وورَعِه، فلو كان قليل الفقه لغَلَبَهُ هواه، وعزَّ عليه القعود، ولَبحث عن أحدٍ يبيحُ له الذهاب، ولو بحث فإنه لن يجد، لأن فقهاءَ ذلك الزمان كانوا ملتزمين بمرجعيَّتنا، وهي فقه الكتاب والسنة الذي حَفِظتْهُ لنا المدارس الفقهية المعتبرة، فاستنبطتْ هذه المدارسُ من نصوص الكتاب والسنَّة أصولاً كلِّيَّة وقواعدَ ضابطة، تنتظم كلَّ مسألةٍ تَجدُّ، وكلَّ نازلةٍ تقع، فليست مرجعيَّتُنا أشخاصاً، تتضاربُ فتاواهم جيلاً بعد جيل، كحال كثير من الفرق قديماً وحديثاً، فكثيرٌ ممن ينتسب لأهل السنة من هذه الجماعات المتطرفة، المسلَّحة منها وغير المسلَّحة، دينُ الله عندها هو ما يقولُهُ مرجعها الأعلى، أي زعيمُها، فهو المرجعية الدينية، فشعارُها "نحن رجالٌ، والأئمَّة السابقون رجال" مرجعيَّاتٌ تتولَّد في كل زمان ومكان، فكلما تولَّى مرجعٌ -بموتِ مَن قَبْلَه، أوبِتَغَلُّبِه- دَفَنَ مَن سبقه، وصار يُشرِّقُ ويُغرِّب، بفتاوى لا خِطامَ لها ولا زِمام، كفتاوى رضاع الكبير وفتاوى استباحة الدماء وفتاوى تكفير المخالِف وغيرها، إنَّ مرجعيَّتَنا أصولٌ متَّفقٌ عليها، هذه الأصول هي المادَّةُ الضابطةُ للاجتهاد، لألا يكون للهوى والميول الشخصيَّة أثرٌ في الاجتهاد، وهو ما تعانيه هذه الجماعات، التي تتكاثر وتتوالد مع الزمن، والتي سمَّاها علماؤنا "أهلُ الأهواء" أما ما عليه سلَفُنا ومَن تَبعهم، فإنه إذا اختلف فقيهان في مسألةٍ عقديَّة أو فقهية، فما أيسر العودة لكتب الفقه والعقيدة المعتبرة، فيُحسَم النزاع، ويرتفع الخلاف .
س٥: المرأة شاركت الرجل الأستخلاف في الأرض وجاء الأسلام ليعطيها حقوق كانت فيما قبله من المحظورات ومع ذلك نجد من يشكك في أخذ حقوقها فما رد فضيلتكم علي هؤلاء ؟
الجواب:
الأصل في الرجل والمرأة أنهم سواءٌ في الدِّين، وسواء في الحُرمة، كما كانوا سواسية في أصل الخِلقة والجِبِلَّة، وهم إخوة كما قال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وهم سواء أمام خطاب الشارع، لا فرق في ذلك بين رجل ورجل، ولا بين رجل وامرأة، فخطاب الشارع متعلِّق بالجميع، وقد نبَّه العلماءُ إلى أن الخطاب إذا جاء بصيغة التذكير، فإنه شاملٌ للنساء، فلَمْ يُفرِّق الشارع بين الرجل والمرأة إلا إذا وُجِدَتْ أحوالٌ وعوارض تستدعي الخروج عن أصل المساواة، كمنْع مساواة المرأة للرجل في ولاية الجيش ورآسة الأركان، وآكد منها الولاية العظمى، ومثل منْع مساواة الرجل للمرأة في حقِّ كفالة الأولاد حالَ كونهم صغارا، فالحضانة حقٌّ للمرأة، ومثل منْعِ مساواة الرجل أيضا للمرأة في وجوب النفقة الزوجية، فالنَّفقة واجبةٌ على الرجل، أما سائر الأحوال فكلاهما سواء، كالإفتاء فهو من الأحوال التي لا يُفرَّقُ فيه بين رجل وامرأة، فليسَت الأنوثة مانعاً للمرأة من التعلُّم والتعليم والتَّصدِّي للإفتاء، وتاريخنا لَمْ يَخْلُ من نساء عالمات جلسن للإقراء والتدريس والتحديث، فمنهنَّ الراويات لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ومنهنَّ الفقيهات، ورأسُهُنَّ أمُّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها، فكم نحن بحاجةٍ إلى فقيهات يتصدَّين للإفتاء، فكم مِن امرأةٍ تبحث عن فقيهةٍ تستفتيها في كثيرٍ من شؤونها فلا تجد، فهذه حاجةٌ ومطلبٌ مهم، وليس بحثاً عن وجاهة، ولا لتفاخر أحد الجنسين على الآخر، إنَّ اللائق بنا أن يكون همُّنا متوجِّها إلى الارتقاء بالمستوى العلمي للمرأة، لنرى من نسائنا العالِمات والباحثات في عموم التخصصات، اللائي يُثْرِين حياتنا العلمية والثقافية، وكذلك الحياة الاجتماعية ليَرتقينَ بأحوال الأُسَر والبيوت، وأشير فيما يتعلَّق بعملَ المرأة إلى أن كثيراً من الناس يتحدَّثون عن عمل المرأة وكأنه خُلُقٌ يجب عليها الأخذُ به، ويغيبُ عنهم أن العمل ليس مفروضاً عليها، فشرْعُ الله لَم يُحْوِج المرأة للعمل ابتداءً، بل ألزم الرجل بالنَّفقة عليها، فلذلك لا تجد المرأةَ في بلادنا -غالباً- مضطرَّةً أن تكون أجيرةً في شركة أو معرض أو مدرسة أو مشفى أو غير ذلك، ومع هذا فقد أباح لها أنْ تعمل، فقد يكون لدى المرأة مالٌ ورثتْهُ مثلاً، وتريدُ تنميته، وقد تكون محتاجة، وليس لها مَن يَعولها، فتريد أنْ تكتسب، وقد يكون المجتمعُ كذلك محتاجاً إليها ككثير من المهن كالطب والتمريض والتعليم وغير ذلك كثير، فلم يمنع شرعُ الله المرأةَ من العمل، فياليت الناس تُنصف المرأة، وليتهم يولُون الارتقاء بها في سُلَّم التعليم والتثقيف اهتماماً، كاهتمامهم بتشغيلها أجيرة في منشأة أو معمل، فبُعداً لأمَّة اختزلت الكيان النسوي في أن يكون أُلعوبة للرجل يَتسلَّى بها ، فجعلت من المرأة بضاعةً للمتاجرة بِـحُـسنها وجمالها ، ودُمـيـة تنشر عليها عروض الأزياء والرشاقة ، ويُـتسلَّى عليها بمسابقات ملكات الجمال، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَهتمُّ بتعليم النساء بجميع شؤونهنَّ، الدينيَّة منها والحياتيَّة، فقد جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت يا رسول الله اجعل لنا منك يوما قال : نعم، فوَعَدَهنَّ يوم كذا وكذا في مكان كذا وكذا، فأتاهن ووعظهنّ وعلَّمهن مما علَّمه الله .

قيس بن محمد آل الشيخ مبارك

معالي الدكتور الشيخ قيس المبارك يشارك في ندوة في المدينة تناقش تطوير الروضة الشريفة .. بينها الجدولة الإلكترونية و حاجز زجاجي

https://youtu.be/3QeM-C28lPE
فيلم وثائقي لتدشين ورشة عمل "تنظيم الصلاة في الروضة الشريفة وزيارة القبر الشريف" والذي عرض في حفل افتتاح الندوة برعاية وتشريف صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة المدينة المنورة حفظه الله



لجنة لدراسة مقترحات تسهيل الصلاة في الروضة http://makkahnewspaper.com/article/134467





https://youtu.be/e7rRO8hOVCY
تقرير مصور عن فعاليات ورشة عمل "تنظيم وتسهيل الصلاة في الروضة الشريفة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضوان الله عليهما"