الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
ما تفعله المرأةُ المعتدَّةُ من وفاة

بسم الله الرحمن الرحيم
ما تفعله المرأةُ المعتدَّةُ من وفاة
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله ، وعلى آله ، وصحبه ، ومن والاه .
وبعد فيجب على المطلَّقة طلاقا بائناً، وكذا المتوفَّى عنها زوجُها، أن تسكن في بيتها، فلا يجوز لها الانتقال خارج منزلها، إلا إذا كان دفعها لذلك سببٌ قاهر، كالخوف مِن جار سوء ، أو حصول خوفٍ ووَحْشةٍ عليها في بيتها، بسبب انتقال الجيران، أو سقوط منزل، ارتفاع أجرة المنزل، وعجزت عن سدادها، ولها كذلك المبيت في المستشفى إذا احتاجت لجراحة ونحوها .
أما الخروج من المنزل لقضاء حوائجها، فلها أنْ تخرج من بيتها في الوقت الذي ينتشر الناس فيه وهو النهار، أما الليل فلا تخرج فيه،ولها أنْ تخرج في أطراف النهار إذا كانت الطرقات مأمونة، كما هو الحال بعد المغرب، فالمدار على الوقت الذي ينتشر فيه الناس، فتخرج لتحصيل رزقها، ولها الذهاب إلى عملها إنْ كانت موظفة، ولها الخروج لتجارتها مِن بيع وشراء، ولها أن تحضر الأعراس نهارا، كما كانت أعراس الناس في الماضي، أما إذا كان العُرْسُ ليلا، كما هو حال أعراسنا في هذه الأيام، فليس لها الذهاب-فإن كانت في الحداد فلا تتزين-ولها كذلك أنْ تزورَ قراباتها وصديقاتها، وأنْ تذهب للتعزية، ولها حضور الدعوات، والصلاة في المسجد، لكن لا تبيت إلا في بيتها .
أما الإحداد، فهو خاصٌّ بالمتوفَّى عنها زوجها، فلا إحداد على المطلقة ، بائناً كانت أو رجعيَّة ،والإحداد مأخوذ من الحدِّ وهو المنع يقال: حددتَ الرجلَ إذا منعْتَهُ، ومنه الحدود الشرعية، لأنها تَـمنع، ولذا قيل للبَوَّاب حدَّاد ، وهو في اللاصطلاح الشرعيِّ أن تترك المتوفَّى عنها زوجُها الزينةَ، فتترك جميع ما تتزين به النساء ، أما خصالُ الفطرة، فلا تتركها، فيجوز لها تقليم أظفارها وإزالة شعر الإبط والعانة، وكذلك التنظُّف والاغتسال بالماء والصابون والسدر وغيره، وكذلك لها أنْ تمتشط وتدهن جسمها وشعرها بأنواع الزيوت والكريمات، فلا بأس بهذا كلِّه، ما لم يكُنْ فيه طِيبٌ، فيجوز لها كلُّ ما لا زينة فيه .
فالإحدادُ يتضمن الامتناع من كل ما هو زينةفي الملبس:
فتترك الحليَّ، فلا تلبس قرطاً ولا خلخاً ولا سواراً ، ولا خاتما، ولو من حديد .
ولا تلبس ثياباً تتزيَّن بها، كالملابس الملوَّنة، أما التي ليست للزينة، كالملابس البيضاء فيجوز لها لبسها، رقيقها وغليظها، إلا إذا كان الثوب الأبيضُ زينةً، أي إذا لبسَتْهُ تتزين به، فلا يجوز، فالمدارُ في ذلك على عَوَائد الناس،فالعبرة في كونه يُتَّخَذ زينةً في بيئتها، فإذا كان البياضُ زينةَ قومٍ حَرُم عليها لبسه، وكذلك المرأةُ ناصعةُ البياضِ، ليس لها أنْتلبس الملابس السوداء، لأنَّ البياضَ يُبرزُ حُسنها، فهو زينتٌ لها، أما غير البيضاء فيجوز لها لبس الأسود .
غير أنه إذا اضطُرَّتْ إلى لبس ما هو زينةٌ، فلا بأس بذلك، مثل أن يكون الجوُّ شديد البرودة، ولم تجد غيره، جاز لها لبسه .
وكذلك يتضمن الامتناع من كل ما هو زينة في البدن :
فتترك الخضاب والكحل، فلا تكتحل إلا لضرورة، فإنْ اضطُرَّت للتكحُّل بسبب مرضٍ، جاز لها ذلك، على أنْ تضعَهُ في الليل وتمسحْهُ في النهار .
وتجتَنِبُ الحنَّاء والكَتَم ، فهو من الزينة، وقد يكون من الطيب في بعض البلاد .
وكذلك يتضمن الامتناع من كل ما هو طِيْبٌ:
فتجتنب جميع أنواع الطِّيب، مذكَّرَه ومؤنَّثه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن خير طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وخير طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه):
فالطيب المذكَّرهو ما ظهر ريحه وخفي لونه، بحيث لا يَعْلَقُ بما يَـمَسُّه مِن ثوبٍ أوجسد، كالياسمين والورد وأنواع الرياحين، فإن الغالب خفاء لونها، فيقال عنه المذكَّر لأن ظهور الرائحة وانتشارها هي المقصود الأعظم منه وليس اللون .
وكذلك تجتنب المؤنث من الطيب، وهو ماظهر لونه، بحيث يَعلَق بما يَـمَسُّه من جسد وثوب، وخفيت رائحته كالزعفران والمسك والكافور،فإنه يُتمتَّع برائحته، غير أنه يقال عنه المؤنث لأن المقصود الأعظم منه ظهور لونه وليس رائحته .
وكذلك ليس لها أنْ تُباشر صناعة العطور والطِّيب، ولا تتاجر فيه، لأن صناعته والمتاجرة فيه تقتضي مَسَّه، ومَسُّهُ في معنى التَّطيبِ به، وإنما يجوز لها التجارةُ في الطيب إذا كانت لا تباشر مسَّهُ بنفسها .
وتجتنب الصابون الذي به طيبٌ تبقى رائحته بعد غسله بالماء، أما الصابون الذي لا تفوح منه رائحة عطرية، وتزول رائحته بالغَسل، فالأمر فيه سهل .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .
قيس بن محمد آل الشيخ مبارك

ما جاء في الست من شوال


روى الإمام مسلم في صحيحه عن سعد بن سعيد بن قيس عن عمر بن ثابت بن الحارث الخزرجي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر )
هذا الحديث انفرد به سعد بن سعيد، وهو ممن لا يقوى على الانفراد بالمخالفة فيما يَعُمُّ ويُعلم، فمن أجل أنَّه لم يثبت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصل صيامها برمضان، ولا أحد من أصحابه ولا من التابعين، ولم يُصاحبه عملُ أهل المدينة، والعلماءُ متوافرون في المدينة يومَها، فرأى الإمامُ أبو حنيفة ومالكٌ رحمه الله أن تَرْكَ العمل بوصْل الست برمضان يُقوِّي أنَّ المقصود بِذِكْرِ شوال التمثيل، وليس مقصود الحديث تعيين شوال بالصيام، وحين كانت الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان يعدل ثلاثمِائة يومٍ، وستة أيام تعدل ستين يوماً، فكان ذلك بمنزلة صيام السَّنة كلِّها، يستوي في ذلك أن تُصام السِّتُّ في شوال أو في غيره، فالكراهة ليست في صيامها، وإنما في وَصْلِها بشوال .
قال الإمام مالك في الموطأ: ( إني لم أرَ أحدا مِن أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وأن أهل العلم يكرهون ذلك، ويخافون بدعته، وأنْ يُلحِقَ برمضان ما ليس منه أهلُ الجهالة)
وقال الحافظ أبو الوليد الباجي: ( إنَّ صوم هذه الستة الأيام بعد الفطر لم تكن من الأيام التي كان السلف يتعمدون صومها، وقد كره ذلك مالك وغيرُه من العلماء، وقد أباحه جماعة من الناس ولم يرَوا به بأسا، وإنما كره ذلك مالكٌ لما خاف من إلحاق عوام الناس ذلك برمضان، وأنْ لا يُـميِّزوا بينها وبينه، حتى يعتقدوا جميع ذلك فرضا، والأصل في صيام هذه الأيام الستة ما رواه سعد بن سعيد عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من صام رمضان، ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر. وسعد بن سعيد هذا ممن لا يحتمل الانفراد بمثل هذا، فلما ورد الحديث على مثل هذا، ووجد مالكٌ علماءَ المدينة منكرين العمل بهذا، احتاط بتَرْكِه، لئلا يكون سببا لما قاله)
وقال أبو العباس القرطبي في المفهم شرح صحيح مسلم: (الذي كرهه هو وأهلُ العلم الذين أشار إليهم، إنَّما هو أنْ تُوْصَل تلك الأيام الستة بيوم الفطر، لئلا يظن أهل الجهالة والجفاء أنها بقيَّةٌ مِن صوم رمضان، وأما إذا باعد بينها وبين يوم الفطر فيَبْعُدُ التَّوهُّم، وينقطع ذلك التخيُّل) وقد وقع ذلك قديما وحديثاً مِن العوام، حتى أنَّ بعضهم يُسمِّي ثامن يومٍ مِن شوال: “عيدُ الأبرار” ويُؤكِّد النَّهيَ عن وَصْلها برمضان أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلا تَصُومُوا ) والنهي معلَّلٌ بألا يختلط بصوم رمضان .

الصيام في البلاد لتي نهارها طويل

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين،،، وبعد
فقد فرضَ اللهُ تعالى الصيام على كلِّ مقيمٍ قادرٍ صحيحِ البدَن: ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ورَّخص فيه للمريض والمسافر فقال: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فوَجَبَ على كلِّ مَن حضر الشهر، وكان قادراً على الصيام أنْ يصومه، لا فرْقَ في ذلك بين من يعيش في البلاد التي تقع على خط الاستواء وبين من يعيش في البلاد القطبية .
ثم إنْ لَـحِقَ المرءَ تعبٌ بسبب الصيام، فإنَّ التَّعب نوعان، تعبٌ معتاد، وتعبٌ شديدٌ يُخاف أنْ يُفضي إلى أذَى شديد أو الهلاك، وتفصيل القول فيهما فيما يلي:
النوع الأول وهو التَّعب المعتاد:
كلام الفقهاءِ صريحٌ في أن ما اعتِيدَ من المشاقِّ، لا تُبيح الفطر، وهذا من الأمر الـمُجْمع عليه، لا أعلم خلافا بين الفقهاء فيه، لأن الله كلَّفنا بالصيام، بما فيه مِن مشقَّةٍ وتعب على النفس غالباً، فهي مشقَّةٌ لا تنفكُّ عن الصوم عادةً، كما لا تنفكُّ مشقَّةُ الوضوء والغُسل في اليوم البارد، ولذلك فالأصلُ في صحيح البدن أنه لا يجوز له أن يُبَيِّتَ الفطرَ من الليل، وليس له كذلك إنْ شرع في الصيام، أنْ يُفطر بسبب هذا النوع من التَّعب، وليس له أنْ يَزعم أنَّه قد يَـمرض بسبب هذا التَّعب، فنزولُ المرض بسبب التَّعب المعتاد، وإنْ كان مُـمْكِناً، غير أنه نادرٌ، فلعلَّه لا يَمرض ولا يتضرَّر، وهذا هو الغالب، وأداءُ عبادةِ الصيام آكدُ مِن تفويتِها درءاً لخفيف التَّعب، وهذا الأمر يجري على مَن يعيش في أيِّ بلاد، بما فيها البلاد القريبة من القطب الشمالي والجنوبي، والتي يكون النهارُ فيها طويلاً جداً، فمَن يُقيمون فيها، يجدون في الصيام مشقَّةً أكبر ممَّا يَجدُ غيرُهم، فَلْيعلموا أنَّ شَرَفَ فريضة الصيام أهمُّ عليهم وآكَدُ مِن أنْ يُفطروا بدعْوَى حصول التَّعب، وعليهم أنْ يَحتسبوا الأجر، لأنَّ ثواب العبادات تَعظُم بعِظَم المشقَّة، فنصوص الشريعة صريحةٌ في وجوب الصيام على مَن شهد الشهر، وهو صحيح البدن .
النوع الثاني، وهو التَّعب الشديد الذي يُخافُ أنْ يُؤدِّي إلى ضررٍ في الجسم:
ينبغي ملاحظة أنَّه ليس لِصحيح البَدَن، أنْ يُدخلَ نَفْسَه فيما يُتعبُه مِن الأعمال التي تَضطرُّه للفطر، فلا ينبغي أن يُجهِدَ نفسَه في وظيفته، بحيث يُؤدِّي ذلك الإجهاد إلى الخوف مِن إلحاق الضرر به أو المرض والهلاك، فالواجب على القادر الصَّحيح أن يؤدِّي عمَلَهُ على الوَجْه المعتاد، ما لم يكن مضطرّاً إلى ذلك، كما هو حالُ أصحاب المهن الشاقَّة، فإذا صامَ المرءُ، فأَدَّاهُ صيامُه إلى تعبٍ شديد، فخاف على نفسه ضرراً شديداً، إمّا بحدوث عِلَّةٍ، كتَلَفِ حاسَّةٍ مِن حواسِّه، أو منفعة مِن منافعه، كالكبد أو الكُلْيَة، أو يُؤدِّي إلى الهلاك، فيجب عليه أنْ يُبادر بالفطر، ولا يُشتَرَط لإباحة فِطْرِه حصولُ الضَّرر الشديد، فالخوفُ مِن نزول الضَّرر -بقول طبيب عارف- كافٍ في إباحة الفطر له .
وقد ذكر الفقهاءُ أمثلةً كثيرة للمضطر :
فمنها الحصَّاد، فقد كَرِهوا لَهُ أنْ يَحصُد الزَّرْع في نهار رمضان، لألا يُعرِّض نفسه للفطر، لكن إن اضطُرَّ للحَصَاد، بأنْ كان محتاجا إلى العمل، مِن أجل النفقة على مَن يَعُولُه مِن زوجةٍ وأولاد، فإذا أدَّاه العمل إلى تعبٍ شديدٍ فخشيَ على نفسه الضرر، فَلَهُ أن يُفطر، وذكروا كذلك المرأة المحتاجة للعمل، فيجوز لها أنْ تُؤَجِّر نفسها للرضاعة، وإنْ أدَّى الإرضاع إلى مشقَّة توجب الفطر، ويجوز لها أنْ تغزل الكتَّان في رمضان، وإنْ أدَّى الغزلُ إلى مشقَّةٍ توجب الفطر، ويَدخل في هذا المعنى أصحاب المهن الشَّاقَّة، التي تؤدِّي مزاولتها عادةً إلى حدوث شدَّة الأذى أو الهلاك .
وذكروا كذلك صاحب المزرعة، فقد ذكروا أنَّ له أنْ يَخرجَ للوقوف على مزرعته، لأنه ليس له بُدٌّ من رعايتها وتعهُّدها بالسَّقْي والحفظ والحراسة، فإنَّ تَرْكَه لها يؤدِّي إلى نقصانٍ للمحصول وربَّما يَتْلَف، وهذا إتلافٌ للمال، وقد نَهَى الشارع الحكيم عن إضاعة المال، فإنْ كان تعهُّدُه لها يُفضي به إلى ضررٍ شديد بصحَّته، وَجَبَ عليه أن يُفطر، لكن يُشترَط لإباحة الفِطْر له، أنْ يكون مضطراً للخروج لمزرعته، بحيث لا يَجد مَن يَنوبُ عنه في رعاية المزرعة، أو أنْ يجدَ أحداً يَنوبُ عنه، لكن ليس له مالٌ يزيد عن حاجته يمكنه أنْ يستأجر به مَن ينوب عنه .
والذين يُقيمون في البلاد التي يطول فيها النهار يأخذون حُكْمَ أصحاب المهن الشاقَّة، التي يَقْدِرُ على صيامها أكثر الناس، ويعجز البعض الآخر، فكثيرٌ منهم يُـمْكنه أنْ يصوم، وغايةُ الأمر أنه يجد مشقَّةً في الصيام لطول النهار، فهؤلاء يجب عليهم أن يصوموا، ويُلاحَظ أنَّه إذا اشتدَّ بهم التَّعبُ أثناء النهار وخافوا حصول الضَّرر أو الهلاك، جاز لهم الفطر، وعليهم قضاء ما أفطروا من الأيام .
ولعلَّ سائلا يسأل هل يجوز لِـمَن يقيم في تلك البلاد التي يطول نهارُها، تبييتُ الفطر، إنْ خاف حدوث شدَّة الأذى أوالهلاك، أم يجب عليه تبييت الصيام، حتَّى إذا اشتدَّ به التَّعبُ أفطر؟ للفقهاء في هذه المسألة قولان:
القول الأول: وهو مشهور المذهب، أنَّه يجب عليه أنْ يَنْوي الصيام، لأنَّه شهدَ الصوم وهو صحيحُ البدن، ولأنَّ سبب الفطر، وهو الهلاك أو التَّعب الشَّديد، لم يَقع بعد، فوَجب عليه أنْ يَشرعَ في الصيام، ثمَّ إذا حصلَ له أثناء الصيام تعبٌ شديد، فخاف حصول ضررٍ شديد أو هلاك، فعليه أنْ يقطع صيامه ويفطر .
وهذا الذي يظهر من قول الشيخ الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير: (لو خاف الصحيحُ أصلَ المرض بصومه، فإنه لا يجوز له الفطر على المشهور، إذْ لعلَّه لا يَنزل به المرضُ إذا صامَ) ونصَّ على هذا الشيخُ مَحمد ميَّارة الفاسي (ت١٠٧٢هـ) في كتابه الدُّر الثمين، والشيخ عبد السلام التاجوري(ت١١٣٩هـ) في تذييل المعيار، والشيخ محمد عليش(ت١٢١٧هـ) في كتابه فتْح العليِّ المالك، فقد اتَّفقتْ أقوالهم على أنَّ التَّعب الشديد قد يقع بسبب الصيام، وقد لا يقع، فلا يُرخَّص الفطرُ لأمرٍ موهومٍ، فحالُ هذا الصحيح كحال المقيم الذي ينوي السَّفر نهاراً، ليس له أنْ يُفطر قبل أن يسافر، لأنه قد يسافر وقد يَعدِلُ عن السَّفر، فيجب عليه تبييت نيَّة الصيام مادام مقيماً، فكذلك الصحيح، يجب عليه تبييت نيَّة الصيام، فإذا صام وحصل له تعبٌ واشتدَّ به، وخاف حصول ضررٍ أو هلاك، فعليه أن يفطر .
القول الثاني: وهو قولٌ في مذهب الإمام مالك، قال الشيخ أحمد الدردير في الشرح الكبير: (وأما الجهدُ الشديد فَيُبيحُ الفطرَ للمريض، قيل والصحيح أيضا) وقال الشيخ محمد بن عَرَفَة الدسوقي: (وقيل يجوز له الفطر) واستناداً إلى هذا القول، فإنَّ صحيحَ البدن، إذا خاف حصولَ ضررٍ، جاز له تبييتُ الفطر مِن الليل، ويَقضي ما فاتَه بعد رمضان .
غير أنَّ بعض الناس يَغلب على ظنِّه-بحكم ضَعْفِ بُنيَته، أو بحكم مشقَّة عَمَلِه- أنَّ صيامه لهذه الساعات الطِّوال يُؤدِّي إلى الهلاك، فهذا لا يصح أنْ نَشُقَّ عليه، فلا نُلزمُهُ بصيامِ معظم النهار، حتَّى إذا اشتدَّ به التَّعبُ في آخر النهار يُفطر، ويستمرُّ حالُه هكذا طيلة شهر رمضان، فهذه مشقةٌ عظيمة، فالذي يظهر لي أنَّ هذا التِّكرارَ، يُعدُّ شدَّةً معتبرةً في التخفيف، فقد ذكر الإمام شهابُ الدِّين القَرافيُّ أنه يُعتبر في التخفيف ما اشتدَّتْ مشقَّتُه، وإنْ بسبب التكرار، قال: وهو الظاهر من مذهب مالك .
غير أن هؤلاء قد يُصادِفوا أياماً ليس فيها عملٌ، كأيام العطلة أو أنْ يكون العمل فيها خفيفاً، فهذه الأيام إذا أَمْكنهم أن يصوموها، فيجب عليهم صيامها، لأنه لا يجوز لمسلمٍ أنْ يَترك صيام يومٍ مِن رمضان وهو قادرٌ على الصيام .
وينبغي ملاحظة أنَّ الخوفَ المبيحَ للفطر ليس الخوف المتوهَّم، وإنما هو الخوفُ المستنِدُ إلى قولِ طبيبٍ ثقةٍ حاذق، ولا بأس من الأخذ بقول طبيبٍ غير مسلمٍ، إذا كان أعرفَ بالطِّبِّ، ولا يُشتَرَط في إباحة الفطر الاستناد على قول الطبيب، بل يَكفي الاستناد إلى العُرْف والعادة، مثل أنْ يكون قد حصلت للصائم تجربةٌ سابقة كادتْ أنْ تُوقِعَه في الهلاك، فيَجبُ عليه حينئذٍ أنْ يُفطر، ولا يجوز له إتمامُ صيامِه، لِأنَّ حِفظَ النَّفس واجبٌ، وفي صيامِه تعرُّضٌ للهلاك، والتعرُّض للهلاك محرَّمٌ، فقد قال الله تعالى (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) فإنْ لم يُفطر مَن خشيَ على نفسه الهلاكَ، فقد عصى اللهَ وخالف أَمْرَه .
أما المريض في هذه البلاد، فحُكمه حكم المريض في غيرها من البلاد، فلَهُ أن يُفطر إنْ شاء، وله أنْ يصوم إن شاء، فوجود المرض يبيح له الفطر بنصِّ كتاب الله تعالى .
والمقصود بالمرض، المرضُ الذي يَخرج بسببه المرءُ عن حدِّ الاعتدال، فيشعر بألمٍ وتعب، وليس وجع الأُصبع الخفيف مرضاً، إلا إذا كان له أثرٌ يَضْعف بسببه البدن، أو يؤدِّي إلى حُمَّى، وإنما المرض ما يَحْصل بسببه مِن الوَهْن ما لا يحصل للصحيح، فمن كان مصاباً بالسُّكَّر أو الضغط أو غيرهما من الأمراض التي يُخاف أنْ يُؤدِّي الصيام معها إلى حصول جهدٍ ومشقَّة، أو يَخاف على نفسه أنْ يَزيدَه الصومُ ضَعفا، فهذا يُباح له الفطر، وقد يُندَبُ له الفطرُ إنْ خاف أن يزيد مَرَضُه، أو يتأخَّر بُرْؤُه، وكذلك إن خشيَ حدوث مرضٍ آخر، فللمريض في جميع هذه الصُّوَر أنْ يفطر، وقد يَجب عليه الفطرُ إنْ خاف على نفسه ضرراً شديداً، مثل تَلَفِ حاسَّةً مِن حواسِّه أو الهلاك، لأن حفظ النفوس واجبٌ، ثم يقضي الأيام التي أفطَرَها .
ويُلحق بالمريض ضعيف البُنْيَة، وإن كان صحيحاً، ومثلُه الشيخ الكبير، فلهما حُكم المريض، هذا تحصيل مذهب الإمام مالك رحمه الله، والله أعلم .

أدبُ الطبيب

للطبيب آداب كثيرة يجب أن يتصف بها وتكون حِلْيَةً له، وهذه الآدابكثيرة، وقد ذكر الشيج جلال الدين الشَّيزَري: (ت590هـ) في كتابه “نهاية الرتبة في طلب الحسبة”فذكرآدابا للصنائع الطبية، حيث وضع فصلا في أدب الطبيب المعالج وآخر في أدب الطبيب الجرَّاح وآخر لطبيب العيون وللبياطرة وللصيادلة وغيرهم، فقال في الطبيب: (وينبغي إذا دخل الطبيبُ على مريض أن يسأله عن سبب مرضه، وعمَّا يَجِدُ من الألم، ويَعرف السببَ والعلامةَ والنَّبضَ والقارورة، ثم يرتِّبُ له قانونا من الأشربة وغيرها، ثم يكتب نسخة بما ذكره له المريض، وبما رتبه له في مقابلة المرض، ويسلم نسخته لأولياء المريض، بشهادة من حضر معه عند المريض، فإذا كان من الغد حضر ونظر إلى دائه، وسأل المريض، ورتب له قانونا على حسب مقتضى الحال، وكتب له نسخة أيضا،وسلمها إليهم، وفي اليوم الثالث كذلك، ثم في اليوم الرابع، وهكذا إلى أن يبرأ المريض) وقال في طبيب العيون: (وأما الكحالون، فيمتحنهم المحتسب بكتاب حَنين بن إسحاق، أعني العشر مقالات في العين، فمَن وجده فيما امتحنه به عارفا بتشريح عدد طبقات العين السبعة، وعدد رطوباتها الثلاثة، وما يتفرع من ذلك من الأمراض، وكان خبيرا بتركيب الأكحال وأمزجة العقاقير، أَذن له المحتسبُ بالتصدِّي لمداواة أعين الناس، ولا ينبغي أن يفرِّط الكحال في شيء من آلات صنعته،وأما كحالو الطُّرُقات فلا يوثق بأكثرهم) إلى غير ذلك من الآداب التي تشتدُّ الحاجة إليها بقدْر شرف الصَّنعة،ولعلَّ آكَد ما يجب أن يتَّصف به الطبيب هو الصدق، وهي الصِّفةَ الغالبة على الأطباء، لكن ربما قَصَدَ بعضهم التغرير بالمريض لتحصيل مزيدٍ من المال، وهذا من أشنع الكذب، ورغم ندرته، فآثاره وخيمة،وهذا شأن الشَّرف الرفيع، لا يَسلم من الأذى، فكم تُقوِّلَ على القضاة والأطباء، فهذا الشاعر عليُّ بن العباس المشهور بابن الرومي،حين لم ينفع معه العلاجُ زعم أن الطبيب غلط عليه في الدواء، فحين دخل عليه إمامُ اللغة إبراهيم الأزدي المعروف بنِفْطَوَيْه وسأله: ما حالك؟ أجابه: (غلَطَ الطبيبُ عليَّ غلطةَ مُورِدٍ *** عَجَزَتْ مواردُهُ عن الإصدار)ويلاحظ أنَّ الطبيب قد يضطرُّ لإخفاء الحقيقةظنّاً منه أن مصلحة المريض تقتضي ذلك، مثل أن يتبيَّن له أن المريضَ مصابٌ بمرض خطير لا يرجى برؤه، فما هو أدبُ المهنة في هذه الحالة؟ أماناقص الأهليَّة كالصغير والمجنون والمريض مرضاً نفسانيا، فإنه لا يملك أمر نفسه، فلا يملك الإذن بالعلاج ابتداءً، فليس للطبيب أنْ يُبْلغه بمعلومةٍ يُؤذيه سماعها، وإنما يجب أن يخبر وليّه الذي أذن في علاجه، فهو أقدر على اتِّخاذ القرار الصائب له، وأما الكبير العاقل الذي يملك أمر نفسه، فليس للطبيب أنْ يكتم عنه أيَّ معلومة تتعلَّق بحالته، مهما حَسُنَتْ نيته، وإنْ رجا تخفيف وقع المصيبة عليه، فالكذب يُفقد ثقة المريض فيه، يستوي في ذلك أن يكون المريضُ رجلاً أو امرأة، فالمرأة هي مَن وَكَلَ إليها الشارعُ الحكيمُ حفظَ صحَّتها، لأنها كاملةُ الأهليَّة، فلا يملك زوجها ولا غيرُه قولاً في علاجها، وقد يستشكل بعض الأطباء قائلا: أخشى أن ينزعج المريض، إذا علم بحقيقة مرضه، فالجواب أنَّ هذا حقٌّ للمريض، لا يجوز كتمانه عنه، لكن على الطبيب أن يترفَّق في إبلاغه،فيختار التعبير المناسب، ولا بأس أن يخبر بعض أهله وأقاربه، فهم أقدر على إبلاغه برفق، لنَّ ترْويعَ المريض حرام، ذكر الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله في باب “خطأ الطبيب”من كتابه “الأمّ”أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضمَّن مَن روَّع امرأةً فسقط حَمْلُها، فما كان الرِّفقُ في شيءٍ إلا زانَه، قال الشيخ تاج الدين بن السبكي رحمه الله تعالى:(وإذا رأى علامات الموت، لم يُكره أنْ يُنبِّه على الوصية بلطفٍ من القول) ومن أدب الطبيب بذل النصح للمريض، والنصيحة للمريض باب واسع تدخل تحته معان كثيرة، منها أن يبدأ بالأسهل من طرق العلاج فما فوقه، فلا يعدل عن الغذاء إلى الدواء إلا عند تعذُّر الشفاء بالغذاء،ومنها كذلك أن يكون رفيقاً بالمريض ليّناً معه، قال الشيخُ أبو عبد الله ابن الحاج (ت: 737هـ) رحمه الله تعالى: (وينبغي للطبيب، بل يتعين عليه، أنه إذا جلس عند المريض، أن يُؤْنسه ببشاشة الوجه وطلاقته، ويهوِّن عليه ما هو فيه من المرض) ومن النُّصح للمريض ألا يَستقبله الطبيبُ في الأحوال التي يتغير فيها خُلُقُه ويتشتَّت فيها تفكيرُه، فلا يعالج وهو منزعج الجنان، ما لم تكن حالة المريض تستدعي المبادرة بالعلاج، ومن أدب الطبيب أن يكون حسن المظهر، فإذا جبلت النفوس على التعلق بمن أحسن إليها، فإنها كذلك قد جبلت على التعلق بمظهر الحسن والجمال، وخير لباس الطبيب الأبيض، ومن أدب الطبيب اجتناب ما لا يليق، فخيرُ الأطبَّاء مَن لا يُحبُّ أنْ يَرى من عورات المرضى إلا القدْر الذي تقتضيه الحاجة، ويأذن فيه المريض، والسِّتر على النِّساء آكد، فعيبٌ على الطبيب أن يخلوا بامرأة، فالحياء خيرٌ كلُّه، ولا خير فيمن لا يستَحْيِي، ولعظيم شأن الطبِّ تحدَّث العلماءُ في كتبهم عن آداب الأطباء، وألَّفوا فيه كتبا مستقلَّة .

الطب علمٌ شريف


علم الطب علمٌ شريف، فهو كما عرَّفه داودُ الأنطاكي: (علمٌ بأحوال بدن الإنسان، يُحفظ به حاصلُ الصحة، ويُستردُّ زائلها) فثمرتُه هي حفظ صحة الإنسان، عن أن يصيبها أذى، ودَفْعُ المرض عنه في هذه الحياة بقدر الإمكان، فالصحَّةُ للإنسان ضرورةٌ في هذه الدُّنيا، وقد قال الإمام الشافعيُّ: (صنفان لا غنى بالناس عنهما، العلماء لأديانهم، والأطباء لأبدانهم) وله رحمه الله كلمة أخرى، في فضْل علم الطب وشرفه وهي قوله: (لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبلَ مِن الطِّبِّ) ومراده بالحلال والحرام علمُ الفقه، وإنما كان علم الفقه أشرف، لأنه يعنى بإصلاح أحوال الناس المعاشية، من بيع وشراء وغيرها، فضلا عن أنَّ به صلاحُ عبادات الناس، أما علم الطبِّ فيعني بإصلاح جسد المريض، وتظهر أهمية علم الطب وفضله لوروده في القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، ولتعلُّقه بحفظ المقصد الثاني من مقاصد الشريعة الإسلامية، وهو حفظُ النَّفس، فمن أجل حفظ الصحَّة أباح اللهُ الفطرَ للمريض، لعذر المرض، كما أباحه للمسافر لعذر مشقة السفر، بقوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وأذن للمريض كذلك بالتيمُّم بالعدول عن الماء إلى التراب، حِمْيَةً له عن أن يصيب جسده ما يؤذيه، فقال:(وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا) وأباح حلق الرأس للحاجِّ إن كان في رأسه أذى، واحتاج للحلق، فقال:(فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) وقد روى الإمام مالك في موطئه، أن رجلاً في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه جرح، فاحتقن الدَّمُ بسبب الجُرح، فطلب الرَّجلُ طبيبين ليستشيرهما في علاجه، فحين جاءا، رآهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فسألهما عن أيِّهما أدْرَى بهذا المرضِ، فقالا: أَوَ في الطبِّ خيرٌ يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنزل الدواءَ الذي أنزل الأدواء) فسؤالُه عليه الصلاة والسلام عن أطبِّهما تنبيهٌ إلى أنَّ الطِّبَّ معنى صحيح، وقد كان عليه الصلاة والسلام يتخيَّر أطايب الطعام، وكان يُستعذَب له الماء، وفكان يراعي صفات الأطعمة وفوائدها، فكان يحبُّ الزبد والتمر، ويحبُّ القِثَّاء بالرُّطب، فيَكسرُ حرارة الرُّطب ببرودة القِثَّاء، كلُّ هذا رعايةً للصحَّة وانتفاعاً بالطيِّبات، فالطبُّ من أشرف العلوم، قال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: (والطبُّ كالشرع، وُضع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام) وبيان ذلك أنَّ علوم الدَّنيا يتميز الممدوح منها من المذموم بارتباطه بالمصالح الدنيوية، فما كانت فيه مصلحةٌ دنيوية، فهو علم ممدوح ومحمود، وما كانت فيه مفسدة دنيوية فلا شك في أنه مذموم، وعلم الطب والحساب والفلك من العلوم الممدوحة، لارتباطها بمصالح دنيوية، وربما سَمَتْ منزلةُ الطبِّ على غيره من الحساب والفلك، لِتعلُّقه بحفظ نفس الإنسان وبدنه، بخلاف الحساب والهندسة وعلوم الإدارة والاقتصاد وغيرها، فأغلب ما يتعلق بها حفظ المال، وهو مقصدٌ أقلُّ مرتبةً مِن مقصد حفظ النفس، وإنما كان علمُ الطبِّ من فروض الكفايات مِن أجْل ما فيه مِن نفعٍ كبير للناس، وصيانةٍ لنفوسهم، وحفظٍ لها عن مشاق الأمراض وآلامها، قال الإمام الغزالي رحمه الله: (أما فرض الكفاية فهو علمٌ لا يُستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب، إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان) وعليه فإن الواجب على كل بلدة، أن تُعلّم مجموعة من أبنائها من يتحقق بهم الاكتفاء، وترتفع بوجودهم الحاجة إلى غيرهم من الأطباء، ولهذا فإن خلوَّ بلدة من بلاد المسلمين، مما تحتاج إليه من الأطباء، يجعلها آثمة عند الله تعالى، ويشترك في الإثم جميعُ أهلها، ما داموا قادرين على دَفْع هذا الإثم عنهم ولم يدفعوه،ثم إنَّ الإثم لا يرتفع عنهم بوجود عدد من الأطباء، وإنما يرتفع بوجود العدد المحتاج إليه من الأطباء، لأن العلَّة التي مِن أجلها كان الطب فرضَ كفايةٍ هي حاجة المجتمع إليه وعدم استغنائه عنه، فَحُكْم الإثم باقٍ ما بقيتْ العلةُ، فإذا زالت زال الحكم وهو وجوب تعلّم بعض أفراد هذه البلدة الطب، وقد ذكر جمْعٌ من الفقهاء أنَّ القيام بفرض الكفاية أعظم ثواباً مِن القيام بفرض العَين، لأنَّ مَن يقوم به يُسقط الإثم عن جميع المكلَّفين، والقارئ لكتب الفقه يجد كلاماً كثيراً عن خطورة الاعتداء على جسد الإنسان، فهذا الشيخ أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله يقول: (جُهَّالُ الأطباء هم الوباءُ في العالَم، وتسليمُ المرضى إلى الطبيعة أحبُّ إليَّ من تسليمهم إلى جُهَّال الأطباء) وهذا الفقيه أبو عبد الله ابن الـمُناصِف القرطبي يقول في كتابه “تنبيه الحكَّام” عن جهلة الأطباء: (فيجب على كلِّ حاكم تَفقُّدُ هؤلاء، وقَمْعُهم، ومَنْعُ مَن يتعاطى علمَ الطب أو نحوه من الجلوس للناس، حتى يَحضرَهُ مع مَن يُوْثَق به من الأطباء، ويختبروه بحضرته، ويَصِحُّ عنده أنه أهلٌ للجلوس في ذلك الشأن) وللحديث بقيَّة .

التَّعايشُ مِن سنن الله في الخلق

عاش المسلمون في المدينة المنورة، تحيط بهم قبائلُ العرب، بما هي عليه من عصبياتٍ مستحكِمةٍ واعتقاداتٍ خرافية راسخةٍ في عقولهم ، وعاداتٍ متأصلةٍ، وكان المسلمون يمثِّلون أمةً مستقلةٍ، ذاتَ سلوكٍ أخلاقيٍّ متميِّز، وخصوصيةٍ ثقافية مستقلة، وكانوا مع ذلك منفتحين على غيرهم من الأمم،الكتابية منها وغير الكتابية ، غيرَ منغلقين ولا متقوقعين على أنفسهم، وكان اليهود يسكنون بين أظهرهم في المدينةَ المنورة، واليهود أهلُ كتاب، فكانوا يقرؤون ويكتبون، فلديهم علمٌ وثقافة مقارنةً بالعرب،فكانوا يشعرون بالاستعلاءعلى سائر مَن يحيط بهم مِن العرب، فقد كان الرجلان من الأوس أوالخزرج إذا تنازعا في قضية، يحتكمان إلى الطبقة المثقَّفة وهي اليهود، وكانت لليهود كذلك غَلَبةٌ اقتصادية، وهي سلاح للهيمنة الفكرية، وكانوا يخالطون المسلمين في الطرقات والبساتين والأسواق والمنتديات، أخذا وعطاء وبيعا وشراء، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفِّي ودِرْعُهُ مرهونةٌ عند يهودي، كل ذلك لم يمنع المسلمين من التعايش معهم، ولم يُبِحْ للمسلمين أن ينقضُّوا على أموال اليهود بالسَّلب، ولا على أعراضهم بالثَّلْب، فقد كان الصحابة يدركون أنهم ليسوا نقمةً على أحدٍ، وأنهم رحمةٌ للناس، فلم تكن صدورهم مشحونةً بالحقد على الخلق، بل كانت تفيضُ شفقةً ورحمة للناس، كيف ورسولُهم عليه الصلاة والسلام رحمةٌ للعالَمين، فلا تجد عند المسلمين هِياجاً ولا تشنُّجاً تجاه غيرهم من اليهود ومشركي العرب الذين كادوا ويكيدون المكائد، بل كانوا يَصِلونهم، فقد أهدى سيدُنا عمر رضي الله عنه إلى أخٍ له كافرٍ حُلَّةً مِن حرير، بل إنَّ البرَّوالصِّلة بالوالدين المشركين واجبٌ، وهو وصيَّةُ الله: ( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ) وقال سبحانه: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا، وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) فحين سألتْ أسماءُ بنت أبي بكر رضي الله عنهما النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عن والدتها الكافرة:(أأصِلُهَا؟) قَالَ: (نعم) فلا غرابة أن نجد الصحابةَ الكرامَ لم يَـمْنعوا اليهودَ مِن البقاء على يهوديَّتهموأعرافهم وعوا ئدِهم الاجتماعية، بل كانت المدينةُالمنورةُ مفتوحةً لسائر المحيطين بها، فتراهم يدخلون المدينة بأموالهم ويعرضون سِلَعَهم للبيع ويستبدلونها بسِلَعٍ أخرى، ويعودون إلى بلادهم من غير نكير ولا اعتراض، وكانت الوفودُ تَفِدُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فيستقبلُهم ويُدْنيهم إليه، ويعطي كبيرَهم وسيِّدَهم حقَّه، فيُنزلُه المنزل اللائق به، وربما استقبلهم داخل المسجد، كما فعل مع وفد ثقيف، وهكذا كان شأنُ الخليةِ الأولى لأمِّتنا، حيث لم تشتعلْ جذوتُها ولم يَشتدَّ أُوارها خارج نفق التعايش، بل كانت الأفكارُ الشاذَّةُ تَعصف بها من كل صوب، بتيارات فكريةٍ جاهليةٍ مناقضةٍ لها، إن الذي هيأ لهذه الأمَّةِ الحفاظَ على استقلالها، أن لها كيانا مستقلا تتشخَّصُ فيه ذاتيَّتُها، ولها معالمُ واضحةٌ تنضبط بها حدودُها، فكانت هذه الضوابطُ والحدودُ المرسومةُ بمنزلة السياجِ الذي تتحصَّنُ فيه، وتتمثل هذه المعالم في عقيدةٍتَبني تصوراً صحيحا، وعاطفةٍ وجدانيةٍ تخدم ذلك التصور العقلي، وشريعةٍ ترسم مِنهاجاً حياتيّاًوَفْقَ فطرة الإنسان، فالعقيدة كانت واضحةً في الأذهان، ارتضاها المسلمون سلطانا يحكم تصوُّراتِهم، وهذا أمرٌ واضحٌ وجليٌّ باعتبار أنَّ مصدرَها خالقُ الإنسان والمكوَّناتِ التي تطوف من حوله، ولذلك تجد جميع مسائل العقيدة الإسلامية مما تقبله العقول الصحيحة، فهي خطابٌ لأُلي العقولِ، والنُّصوصُ الآمرةُ بالـتَّـدبُّـر والـتَّـفـكُّر والـنَّـظـر في آيات الله كثيرةٌ، أما العاطفة فهي أن يكون هوى القلبِِ انعكاسا لما يُـقَـرِّرُه نداءُ العقل، فتصير تصرُّفاتُ الإنسان موافقةً لما تدلُّ عليه الشريعة، لا لما تنزع إليه النفوسُ مما ينافرُ فطرتَها ويُضادُّ الطِّباع منالشَّهوات الفاسدةوالأهواء الشَّاذَّة، التي تورثُ التغيُّرَ والاضطراب والنُّفور، كما قال ابن الحسين:(وأسرعُ مفعولٍ فعلتَ تغـيُّـراً ***تكلُّفُ شيءٍ في طباعك ضدُّه) أما الشريعة فهي السِّـكَّةُ التي تهدي الناس لضبط تصرفاتهم الحياتيةِ، وأمورِهم المعاشية، وِفق مِنهاجٍ بيِّن ميسورِ التطبيق، تندفع بسببه أسبابُ الخصومات والمنازعاتِ بين الناس، وقد عُلم بالاستقراء أنَّ أحكام الشريعة الإسلامية دائرةٌ حول رعاية مصالح الناس، وهذه المصالحُ التي جاءت من أجلها الشرائع السماويةُ،تحصلبحفظ خمسةِ مقاصدَ ذكرها العلماء، أعلاها حفظُ الدين ويليه حفظُ النفس فالعقلِ فالنسلِ فالمال، إذا تبيَّن لنا ذلك أدركنا أنَّ فرارَنا من التعايشبالبقاء على هامش الدول والشعوب، أحطُّ مرتبة وأدنى درجةً من الذوبان في النظام العالمي، كيف والحال أننا نملك ما يعصمنا من الذَّوبان في المجتمعات الأخرى، فدينُنا يدفع المجتمعات الأخرى للأخذ به والانقياد له، لأننا نملك قيماً وأفكاراً صحيحةً وواضحةً ومنضبطةَ المعالم،فعلينا التنوُّرَ وتتبُّعَ الحكمةَ متى وُجدتْ ومن أيِّ مكان أقبلت، ومقارعةِ الفكرَ بالفكر، إن الثمرة المرجوَّة من التعايش لن تكون سيطرةَ النموذجِ الشَّاذِّ والمنحرف، وإنما ستكون بإذن الله انفتاحُ العالم واتصال بعضه ببعض، لينقادَ الناسُ لدين الله، فالدِّين الخالص هو الذييتوافق مع مقتضيات العلم، ويرفض الخرافةوالجهل، لأنه من عند الله، وهو سبحانه أدْرَى بما خلق:(أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) وهذه الثمرةُ هي عمارةُ الأرض التي مِن أَجْلها أنزل الُله الكتبَ وأرسلَ الرسلَ، وهي قوله سبحانه: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) .