الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
هل لي أنْ أتَّخذ حب الناس لأهل العلم سلاحاً أحتمي به؟!

ذكرتُ في المقال السابق، أن صحفيّاً سألني عن التبرُّع بالأعضاء، فأجبته بما ملخَّصه، أن للمسلم أن يُؤْثِرَ غيرَه بالأعضاء التي يَدلُّ الطبُّ على أن حياته ستستمر على حالٍ مستقرٍ وَسَويٍّ إذا تبرَّع بها، أما بيعُها والمتاجرةُ فيها فلا يجوز؛ لأن الإنسانَ لا يملكُ أعضاءَه، وإنما يملك الانتفاعَ بها. وقد تمَّ نشر هذا الجواب بجريدة الحياة، يوم الجمعة قبل الماضي، غير أنّ المحرِّرَ رَبَطَ كلامي بحادثة تتعلَّق بفقيرٍ اضطرَّتْهُ الدُّيون إلى التبرُّع بكِلْيَته؛ ليحصل على مكافأةٍ ماليَّةٍ يَسدُّ بها ديونه، رغم أن حديثي كان بمعزلٍ عن هذه الحادثة. فأرسل لي صديقٌ رسالةً، ذكر فيها اعتراضاً من بعض القراء، خلاصتُه: أنَّ كلامي يدلُّ على تدنِّي الحسِّ الإنساني عندي! لأنني حين ذكرتُ جواز ذلك، فأنا عنده بمنزلة مَن يدعو المستشفيات إلى استغلال فَقْرِ الفقراء؛ للحصول على أعضائهم!
فأجبتُ صاحبي بأنَّ مَن يخالط الناس ويَكتُب، فقد عرَّضَ نفسه للنقد، فواجبُه أنْ يصبر على ما يصيبه مِن سوء ظنٍّ ومِن أَذَى، وأنْ يتَّخذ مِن نقد الناقدين سبباً لتقويم كتاباته والتَّرَقِّي بها للأفضل، وأنَّ غايةَ ما ينبغي أن نقولَه في حقِّ هذا القارئ، إنْ أسأْنا الظنَّ به -وأعوذ بالله مِن إساءة الظن بمسلم- أنه أخطأ وأساء، وكلُّنا خطَّاءٌ ومُسيء.
لقد كان يسيراً عليَّ -إن غلبَتْني نفسي وتَحكَّم فيَّ هوايَ- أنْ أتَّهم هذا القارئ بسوء النِّـيَّة، وأن أتَّخذ حبَّ الناس لأهل العلم والدِّين سلاحاً أضرب به مَن يَنتقدني، بأنه أساء إليَّ؛ كيداً للإسلام، غير أنَّ لسان الشرع يأبَى عليَّ ذلك، مهما أخطأ في حقِّي وقوَّلَني ما لم أَقُلْ.
ومن هنا، فإني أجدُ لزاماً عليَّ أنْ أُنبِّه إلى أنَّ كثيراً من الدعاةِ والمصلحين يغفل عن هذا المعنى، وأشدُّ من هذه الغفلة، أنْ يجعلَ من أيِّ خلافٍ فقهيٍّ أو ماليٍّ أو اجتماعي، سبباً يُخوِّنُ به غيرَه في دِينه، فتعجبُ من طرفين دخلا برضا وطواعية، في شراكةٍ ماليةٍ أو سياسيةٍ أو غيرها، فإذا اختلفا، ألْقَيا بينهما العداوةَ والبغضاء، وربما جرَّ الشيطانُ المتديِّنَ منهما ليطعن في دِين صاحبه، بأنه ما خاصمَه إلا كُرهاً في الدِّين، فَهَمُّ كلِّ واحدٍ منهما تتبُّعُ زلاتِ صاحبه، وفَضْحُه أمام الملأ، واستعداء الناس عليه بشتَّى الأساليب، ولا يَقبل سماع كلمةٍ تفيدُ حُسنَ ظنٍّ برفيق الأمس، بل ويتَّهمُ مَن لا يُشاركه الرأيَ، بأنه لا يفقَهُ في أمور الناس الاجتماعية أو السياسية، أو أنه ساكتٌ عن الحق، ومُمالئٌ للظالم، وهكذا يتلاعب الشيطانُ بهما غايةَ التلاعب.
فأَخطر ما يُصيب المصلحين غلَبَةُ نفوسهم عليهم، فيغضبُ أحدُهم لنفسه ظَنّاً منه أنَّ غضبَه لله، وكأنه لا يعلم أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُوذيَ بما لم يؤْذَ به أحدٌ قطُّ، فلمْ يَجُرُّهُ الأذى إلى سبابٍ أو شتائم، فلم يكن همُّه كشفَ مؤامرات قريش أو ثقيف أو هوازن، بل كان همُّه أنْ يتثبَّت مِن صحَّة سَيرِهِ إلى الله، وكان حقُّ كلِّ طرفٍ ألا يتَّهم غيرَه، بل يتَّهم نفسَه، لعلَّه أخطأ فعوقب، كان عليه أن يعود إلى نفسه باللوم والتقريع قائلاً: (ياربِّ إنْ لم يكن بكَ عليَّ غضبٌ فلا أُبالي) هذا أدبٌ إسلاميٌّ رفيع، فما أعظم أنْ يُروِّضَ كلٌّ منّا نفسه على نسيان حظِّها، فهذا هو رسوخُ اليقين الذي يُثمرُ أحسنَ الأعمال وأجمَلَها وأكمَلَها، فالنفوس التَّقيَّة لا يزيدها الابتلاءُ إلا إبرازاً لِحُسنها وبَهائِها، فَحُسْنُ الأعمال نتائجُ حُسْنِ الأحوال، قال تعالى: «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً»، وفي أصحاب النفوس الكبار يقال:
لا تَهتدي نُوَبُ الزمانِ إليهِمُ
ولهمْ على الخَطْبِ الشديدِ لِجامُ.


الأحد 26 رجب 1435 - 25 مايو (أيار) 2014
http://www.alyaum.com/News/art/141303.html

تتبُّع المؤمن لزلّاته أحبُّ إليه من تتبُّع زلّات المذنبين

خلق الله الخلق، وكان من حكمته تعالى ألا يكونوا معصومين، ففي الحديث الصحيح: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم»، ولا ينبغي أن يُفهم من هذا الحديث أنه دعوةٌ للعصيان، أو تسلية للعصاة في عصيانهم، بل المقصود منه بيانُ عظيم عَفْوِ الله تعالى وعميم مغفرته، ترغيباً للتائبين أن يبادروا بالتوبة، وقد وصف اللهُ المؤمنين بقوله: «وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ»، والأصلُ في المؤمن أنه ينظر إلى نفسه، ويتشوَّفُ إلى معرفة ذنوبه وعيوبه، ويرى هذا أهمَّ عليه من عُجْبِهِ بنفسه، وتبختُرِه اغتراراً بأعماله، فهمُّ المؤمن تصفيةُ نفسه مِن عيوبها: كالحسد والكِبْر وحبِّ الزعامة والشهرة؛ تخليصاً لنفسه من هذه الآفات، وقد قيل: "تَشوُّفك إلى ما بطن فيك من العيوب خيرٌ مِن تشوُّفك إلى ما حجب عنك من الغيوب» فتتبُّعه لزلّاته أحبُّ إليه مِن مخالفة أمْرِ الله بتتبُّع زلّات المذنبين وكشف سوءاتهم وفضح عوراتهم.
وقد قال الشاعر:
إذا أنتَ لَـمْ تَعصِ الهوى قادَكَ الهوى
إلى كلِّ ما فيهِ عليك مقالُ
فغاية المؤمن شهودُ فاقتِه وضَعْفِه وتقصيره، تحقيقاً لعبوديَّته لله، وتعظيماً لشأن الربوبيَّة، فإذا وقع منه ذنبٌ بادر بالتوبة والندم والاعتذار من مولاه، وتذكَّر قولَ الله تعالى: «نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ» وسمعَ قولَ يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله: "إذا أنالهم فَضْلَهُ لم تبق لهم سيئة" فصار نظرُه إلى حِلْمِ الله وعَفوه أكبرَ مِن نظره إلى بطشه وقهرِه.
وقد قال الإمام الشافعي -رحمه الله-:
(فلما قسى قلبي وضاقت مذاهبي
جعلت الرجا مِنِّي لعفوك سُلَّماً
تعاظمَني ذنبي فلما قرنتُه
بعفوك ربي كان عفوك أعظماً
فما زلتَ ذا جودٍ وفضلٍ ومِنَّةٍ
تجود وتعفو مِنَّةً وتكرُّماً)
وبهذا فإنه لن ييأس من رحمة الله، ولن يَعظم الذنبُ عنده عظمةً تصدُّه عن حُسْنِ ظنِّه بالله تعالى، فلا تكون ذنوبُه كبيرةً إذا قابَلَهُ فَضْلُ الله وكرمُه وبرُّه، فإنَّ صفةَ العفْو والمغفرة إذا ظَهَرَتْ، تضاءَلَتْ أمامها جميع السيِّئات، مهما اشتدَّتْ وكَبُرَتْ، وقد قيل: (اللهم اجعل سيئاتنا سيئات مَن أحببت، ولا تجعل حسناتنا حسنات من أبْغَضْتَ) ولله درُّ القائل:
(ذنوبيَ إنْ فكَّرتُ فيها كثيرةٌ
ورحمة ربي من ذنوبيَ أوسعُ
هو الله مولايَ الذي هو خالقيْ
وإنِّي له عبدٌ أَذُلُّ وأخضعُ).
إذاً فالمؤمنُ يعلم أنه مقصِّرٌ، وأنه قد يعصي ويذنب، وأنه لا معصوم إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، واستناداً إلى هذه المعرفة، فإنه سيحترم عموم المؤمنين مهما وقع منهم من تقصير ومهما كبُرَتْ ذنوبهم وكثُرَتْ، وأذكر بهذه المناسبة حادثةً وقعَت الآن، وأنا أكتب هذا المقال، حيث أرسل إليَّ أحدُ المحبِّين، أنَّ أحد القرَّاء أنكر عليَّ حين قرأ كلاماً لي نُشر يوم الجمعة 17رجب، ذكرتُ فيه جواز التبرُّع بالأعضاء، وأنَّ وَجْهَ إنكاره أني لم أحذِّر المستشفيات من استغلال فقْر الفقراء، فأجبتُ صاحبي بأن مَن يكتب فهو معرَّضٌ للنقد، وأن واجبَ مَن يخالط الناس أنْ يصبر على ما يصيبه مِن أذى، فردَّ علي بأن هذا القارئ..أساء، فأجبته بأن غايةَ ما ينبغي أن نقوله في حقِّ هذا القارئ -إنْ أسأْنا الظنَّ به- وأعوذ بالله من إساءة الظن بمسلم، أن نقول إنه أخطأ في حقِّ نفسه، وبيان هذا سيكون مقال الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى.


الأحد 19 رجب 1435 - 18 مايو (أيار) 2014

http://www.alyaum.com/News/art/139984.html

انكسارُ العاصي خيرٌ من صَولة المُطيع

ذكرتُ في المقال السابق، أنَّ الواقع مِن العبد، من تصرُّفات، إما طاعة وإما معصية، ومقال اليوم عما يقع مِن المعاصي، فالعبوديَّة التي يقتضيها الله من العاصي، هي التوبة والاستغفار، فالمؤمن يرى رحمة الله ماثلةً أمامه، وإذا أراد أن يتقوَّى رجاؤه في الله، فما عليه إلا أن يشهدَ حِلمَ الله عليه وجميل إحسانه إليه رغم عصيانه لربِّه، ومن أعظم مِنن الله على عبده، أن فتح له أبواب الندامة والتوبة، بل وحبَّب إليه الأوبة إليه سبحانه، فخيرُ أوقات العبد هو الوقت الذي يَشهد فيه وجودَ ضَعْفِه وفقْرِه إلى مولاه، ففي شهودِهِ هذا المعنى تحقيقٌ لمعنى العبودية، وفيه تعظيمٌ لشأن الربوبية، وهذا شرفٌ ما بعده شرف، فلم يخاطب أشرف خلقه إلا بالعبودية قال سبحانه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ) (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ) (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ) وفي شهود هذا المعنى فائدةٌ أخرى، وهي استنهاض القلوب بالدعاء؛ لاستجلاب رحمة الله، ليكون مستحقّاً للعطاء، قال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ) وقال: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ) ومن دلائل هذا المعنى أنْ جعل اللهُ النصرَ والفتح مقرونين بالفاقة، قال سبحانه: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ)،
وقال : (وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ)، فالمؤمن يلاحظ أعمالَه بعين الاستصغار، وكأنَّه أَلَمَّ بالمعاصي، وشاهِدُ ذلك قولُه تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ). وقد قال الأوَّل: (يتجنّبُ الآثامَ ثم يَخافُها *** فكأنّما حسناتُه آثامُ) بخلاف الاغترار والعجب بالعمل، فحين وقَعَ مِن بعض حديثي الإسلام مِن الصحابة الكرام، شيءٌ من العُجب، أدَّبهم الله فقال: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا) ولم يَخُصَّ بتأديبه مَن أصابه العجب، بل عمَّ الجميع لأن الفتنة تَعمُّ، قال تعالى: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً)، ثم إن في الندامة والتوبة بالاستغفار مِن حلاوة المناداة ولذيذ المناجاة ما تتلاشى عندها جميع الملاذِّ، فيُوردُ الله على قلوب المستغفرين مِن وجود مؤانسته فتوحاً من الفرح والسرور؛ ليشهدوا شيئاً من بِرِّه وكرمِه، وإقبالِه بِوجود لُطْفِه، فإنَّ الذنب إذا أعقبَتْهُ حسرةٌ وندم، وقارنه استصغارٌ للنفس وحُسن اعتذار إلى الله، فقد يكون سبباً في القرب إلى الله، وإلى هذا يشير الصالحون بقولهم: "معصيةٌ أورَثَتْ ذُلاً وافتقاراً، خيرٌ من طاعة أورثت عزاً واستكباراً" فانكسار العاصي إذا أورث توبةً وأوبة خير من صولةِ المطيع إذا أفضَتْ إلى اغترار واستكبار.
وأختم هذه المقالات الأربعة بالتذكير بأنك أيها القارئ الكريم، مهما تأمَّلت في نفسك، فإنك ستجد أن الواقعَ عليك إما نعمة وإما بليَّة، وأن الواقع منك إما طاعةٌ وإما معصية، وأنك لن تخرج عن واحدة من هذه الأحوال الأربعة، فاستفد من جواب أحد الصالحين لمن شكى إليه همومَه: إن كنت في نعمةٍ تتقلَّب، فاشكر الله عليها، وإن كنت في مصيبةٍ، فاصبر لحكم ربِّك ووكِلْ أمرَك إليه، وإن كنت متقلِّبا في طاعة، فاشهد مِنَّةَ الله أنْ أعانك عليها، وإن كنت متلبِّسا بمعصية، فتُبْ إلى الله واستغفره، عندها قال الشاكي: فقُمْتُ مِن عندِه وكأنما كانت الهمومُ والأحزانُ ثوباً نَزَعْتُهُ.
ثم سأل الأستاذُ تلميذَه: كيف حالُك؟ فقال التلميذ: أُفَتِّش عن الهمِّ فلا أجدُ الهمَّ، ولعل هذا العبدَ الصالح استلَّ هذا المعنى من قول مَن أُوتي جوامع الكلم صلوات ربي وسلامه عليه (عجباً لأمر المؤمن إنَّ أمرَهُ كلَّه له خير، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاءُ شكرَ، فكان خيرا له، وإن أصابته ضرَّاءُ صبرَ فكان خيرا له).


الأحد 12 رجب 1435 - 11 مايو (أيار) 2014
http://www.alyaum.com/News/art/138429.html

افرحْ بالطاعة من حيث هي منةٌ من الله

ذكرتُ في المقالين السابقين، أن الواحد منّا إذا تأمَّل في نفسه، فسيجدُ أنَّ الواقع عليه حالةٌ من حالتين، النعمة أو الابتلاء، وبيَّنتُ ما لِلَّه على العبد في كلِّ حالةٍ منهما، واليوم سأتحدَّث عن الواقع مِن العبد، فجميع ما يقع من الإنسان من تصرُّفات، إما أن تكون طاعة يتعبَّد الله بها، وإما أن تكون معصية يخالف أمر الله بفعلها.
ومقال اليوم، عما يقع مِن الطاعات، فالعبوديَّة التي يقتضيها الله من الطائع، هي أن يشهدَ فَضلَ الله ومنَّتَهُ عليه بها، فالعارفون يَرونَ مِننَ الله ماثلةً أمام أعينهم في كل شيء، والعبد إذا أراد أن يتقوَّى رجاؤه في الله، فما عليه إلا أن يشهدَ فضلَ الله عليه من جميل الإحسان، ومزيد المبرَّة والامتنان،كما قيل: "فهل عودك إلا حسناً وهل أسدى إليك إلا مننا "، قال صَّفيُّ الدين الحِلِّي: "اللهُ عوَّدك الجميلَ ***فَقِسْ على ما قد مضى" ومن أعظم مِنن الله على عبده، أن يسَّر له سُبُلَ طاعتِه، وحبَّبها إليه، وجعلهُ أهلاً لها، كما قيل: "كفى مِن جزائه إياك على الطاعة أن رضيك لها أهلاً" فللطاعة والمناجاة لذةٌ وحلاوةٌ، تتلاشى عندها جميع الملاذِّ، فيُوردُ الله على قلوب الطائعين مِن وجود مؤانسته فتوحاً من الفرح والسرور، ليشهدوا بِرَّه وكرمَه، وإقبالَه بِوجود لُطْفِه، كما قيل: "متى أعطاك أشهدَكَ بِـرَّه" ثم إن العبد إذا تأمَّل، فإنه يدرك أنَّ الله تعالى إذا قابَلَهُ بعدْلِه سبحانه، فإن جميع ذنوبه التي كان يظنُّها صغائر، هي في حقيقتها كبائر، لِعِظَم مَن يُعصى سبحانه، بخلاف مقابلة الله العبدَ بالفضل والكرم، فإن الكبائر تتضاءل حتَّى لا تُرى، قال يحيى بن معاذ: "إذا أَنالَهم فضلَه، لمْ تبقَ لهم سيئةٌ، وإذا وضع عليهم عدلَه، لم تبق لهم حسنة" وقال بعض الصالحين: "اللهم اجعل سيئاتِنا سيئات مَن أحببتَ، ولا تجعل حسناتِنا حسنات مَن أبغضت".
من أجلِ هذا، فإنَّ أرجى الأعمال للقبول هي الأعمال التي يغيبُ عن الطائعِ شهودُها، ويُحتَقَرُ عندَه وجودُها، وحين سئل بعضُ العارفين: ما علامة قبول العمل؟ قال: "نسيانُك إيَّاه، وانقطاعُ نظرك عنه بالكلِّيَّة" ففرْقٌ بين الطاعة التي يؤدِّها العبدُ وهو مستَعظِمٌ لها، وكأنه متفضِّلٌ بها على مولاه، وبين التي يؤدِّيها وهو مستصغِرٌ لها، ومتَّهمٌ نفسه بالتقصير، فهي العمل الصالح الذي دلَّ عليه قولُه تعالى: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» فالطاعة قد يقترنُ بها مِن قوادح الإخلاص ما يمنع قبولها، فمِن الناس مَن يُعجب بها اعجاباً يجعله يحتقرُ مَن لم يفعلها، فيغترُّ اغتراراً يُحبِطُها، كما قال بعضهم: "ربما فتح لك باب الطاعة، وما فتح لك باب القبول" فالله غنيٌّ عنّا وعن طاعاتنا، فهو أغنى مِن أنْ يَحتاج لمن يطيعه سبحانه، فهو القائل: «وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ» وفي الحديث القدسيِّ: «يا عبادي لو أن أوَّلَكم وآخرَكم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئاً»، وعليه فلْتفرح أيها القارئ الكريم بجميع عباداتك، لكونها برزتْ منه إليك، فتفضَّلَ بها عليك كما قال: «قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ» واحذر من الفرح بها لأجل كونها بَرزتْ منك كاملةً غير معلولة، فهذا عينُ الغفلة، فقد يورثُ عُجْباً يُحبطُ عباداتك، أما الفرحُ بها من حيث هي مِنَّةٌ مِن الله عليك، فهو عينُ الإجلال له سبحانه.


د. قيس المبارك
الأحد 5 رجب 1435 - 4 مايو (أيار) 2014
http://www.alyaum.com/News/art/137098.html

التحزُّب ضَعْف للكلمة وعي

الأصل في الناس أن يكونوا أمَّة واحدة، لا أن يكونوا جماعات وأحزابًا متفرقين، فقد وُجد الناس في أوّل النشأة متّفقين في أصل الفطرة، قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) فجعل الله المرءَ مدنيًَّا بالجبلَّة كما قال الحافظ أبوبكر بن العربي، فليست طبيعة الإنسان كطبيعة بعض المخلوقات التي تعيش فرادى، بل الشأن فيه أن يعيش ضمن جماعة أو أُمَّة يَنتظمها غرضٌ واحدٌ مقصود، ثم إنه لا حرج في أن ينتظم عددٌ من الأفراد حول غرضٍ من الأغراض الشريفة، أيَّا كان هذا الغرض، اجتماعيًا أو ثقافيًا أو اقتصاديا أو إداريا أو سياسيا، كالتفاف مجموعة حول غرضِ رعاية المعوَّقين، أو رعاية الأيتام، أوبثِّ وعْيٍّ ثقافي، أو نشر سلوكٍ أخلاقي، أو تنشئةٍ اجتماعية، أو نشرٍ للإسلام كما تفعل المراكز الإسلامية في بلاد غير المسلمين، فهذه معانٍ في غايةِ الحُسْن، ففي الحديث (إن الأشعريين إذا أرْمَلوا في الغزْو جمعوا ما كان عندهم، ثم اقتسموه بينهم بالسوِّية فهم منِّي وأنا منهم) فالمواساة في المال وفي الرعاية وفي الدعوة وغيرها من أجلِّ الأعمال وأفضلها عند الله، غير أن هذا التآلف والتعاون على مقصودٍ شريف قد يُفضي في بعض الأحوال إلى ضرر للمجتمع، ومن ذلك أنْ يَظُنَّ المتعاونون على غرضٍ صحيح أنَّ هذا التعاون يبيح لهم أن تكون بينهم أخوة خاصَّة، تجعل بينهم تآزُرًا وتناصُرًا أشدَّ من تآلفهم مع بقية أفراد المجتمع، وبتعبير آخر: تنشأ بينهم وحدةٌ شعورية تعزلهم عن غيرهم، فتُفضي المحبةُ والتآلف بينهم إلى أن يصيروا كجسمٍ منفصلٍ عن شركائهم في الدِّين والوطن، فالتبعيةُ والمناصرةُ بهذه الصفة تُعدُّ صورةً من صُوَر تشتيت الكلمة وإضعاف الوحدة بين الأمَّة، ولنا أنْ نتصوَّر أن أفرادًا تعاونوا على تشكيل جمعية تثقيفية لبثِّ الوعي بين الناس حول خطر التدخين وما شابهه من الأشربة والأطعمة الضارة، فهذا التعاون بهذه الصفة، وإن كان في أصله عملًا جليلا ونبيلا، غير أنه يكون ضِرارًا إذا تحوَّل إلى تكتُّلٍ وتآلف يجعلُ مِن أفرادِهِ كيانًا مستقلا عن الجماعة، بحيث يُفضي إلى أن يكون ولاءُ أفراد هذه الجمعية إلى بعضهم أقْوَى مِن ولائهم إلى البعض الآخر من أفراد أمَّتهم، فالأصل في تعدُّد الجمعيات والمراكز الخيرية والثقافية والفكرية والتربوية والسياسية وغيرها أن تكون عواملَ قوَّةٍ وأسبابَ تَوَحُّد، ومصدرَ إبداعٍ وإثراء، أما أن تُفسِدَ عملَها النبيل ومشروعها النافع بتحزُّبٍ وتبعيَّة وولاءٍ لعموم أفرادها أو لزعيمها، فهذا من شأنه أن يُفضي إلى نقيض ما أُنشِئتْ من أجله، وهو صَلاح المجتمع وتوحُّدُه، لقد كان المأمول من عموم الجمعيات والمراكز والمؤسسات الإسلامية أن تكون جمعيات نفعٍ وإصلاح، وهذا ما نراه منها، ونَشهدُ لها بجهودها المشكورة والمأجورة، غير أنَّ الكثير منها شُغِلَتْ عن غايتها ومقصودها -سواء كان تربويًا أو تحصينا للعقيدة أو تهذيبا للأخلاق أو غير ذلك- فصَرفتْ الكثيرَ من الوقت في مُزاحمة أندادها في أنشطتها، فالكثير من الجمعيات جَعلتْ مِن نفسها خليطًا من الأعمال، فهي جمعية تربوية وهي مشروع فكري، وهي مركز ثقافي، بل وهي حزب سياسي، وغابَ عنها أنَّ الإسلامَ هو حبل الله المتين، وهو الشجرة التي يجبُ على جميعِ الجمعيات أنْ تَتَفَيَّأَ ظلالَها، وهكذا صارَ الإسلامُ مُتَخطَّفًا ومتنازعًا عليه بينها، فركضَتْ جيادُ التنازع والشقاق بين هذه الجمعيات والجماعات والأحزاب، وصار همُّ كلِّ واحدة من هذه الجمعيات تكثيرَ سوادها ونشرَ أتباعها، ومثال ذلك المراكز الإسلامية في الشرق والغرب، نُسَرُّ كثيرًا برؤية ثمرتَها، ونشهَدُ جهودَها في نشر الإسلام، لكنها رضِيَتْ أن تكون أظهرَ أسباب اختلاف المسلمين في العالم كلِّه، فالناس يتطلَّعون من هذه الجمعيات والمراكز والجماعات إلى تنافسٍ محمودٍ، وتسابقٍ في الخيرات مندوب، وإلى إيثار للغير في حظوظ النفس، أما أنْ أُنافس الآخرين في حظِّ نفسي لتكثير سوادي، وفي التأكيد على فضلي وعلى أن منهجي وسلوكي هو الحق الذي خطؤه يسير، فهذا مفتاح باب الفتنة، ولو أنهم تسابقوا في فعل الخيرات، وكانوا متواضعين في تسابقهم، فآثر بعضُهم بعضًا في الإقرار بالخطأ والتقصير، وابتعدوا عن التهارج والتنابز وتبادل التُّهم، لصار بينهم التكامل المنشود، ولأصلحَ كلُّ فريق منهم جانبا غفل عنه غيره، فصلحت بهذا أحوال الأمة.

الشكر فَرَحُ القلب بالمنعم لأجْل نعمته

يجري على المرء في حياته حالان، فهو إما في نعمةٍ يتقلَّبُ فيها، أو في ابتلاءٍ واختبارٍ يمتحنُه اللهُ به، وإذا تأمَّل الواحدُ منَّا في نفسه، فإنه سيجدُ أنَّه لا تمرُّ به لحظةٌ إلا وهو في حالةٍ من حالتين، ولِلَّه عليه في كلِّ حالةٍ منها عبوديَّةٌ خاصَّة، ففي حال إكرام الله العبدَ بالنِّعم، فالواجب عليه الشُّكر، وفي حال ابتلائه بنوع من البلاء، فالواجب عليه الصَّبر، فالنِّعَم تتفاوت، منها اليسير في أعين الناس، مثل أن يوفَّقَ أحدُنا في تجارةٍ بربحٍ يسير، ومن النِّعم ما هو أجلُّ وأعظم، مثل أن يُرزق بمولود، أو أن يُبارَك له في ماله، فيتضاعَف أضعافاً مضاعفة، ومن النِّعم ما يظهرُ فنراهُ ويراه الناس كذلك، غير أن من النِّعم ما تَحجُبُه غفلتنا، فيَخفَى على الكثير منَّا رغم شدَّة ظهوره، ولعلَّ أقرب مثالٍ لهذا سِتْرُ الله لنا، فكلُّ واحدٍمنَّا إذا نظر في نفسه رأى أنه غارقٌ في كثير من العيوب، ومتلبِّسٌ بكثيرٍ من الذُّنوب، ثم إن الناسَ أمام هذه النعم منقسمون إلى فريقين، فمنهم مَن يَعْمَى عنها فلا يَشهدها، ولا يُقابلها بالشكر، فهَمُّهُ النظر إلى عيوب الخلق، ولسان حالِه وقالِهِ: الناسُ هَلْكَى والناسُ ظلَمَة والناسُ لا تَرحَم، وكأنه لم يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتَ الرَّجلَ يقول هَلَكَ الناسُ، فهو أَهْلَكُهُمْ) فما أبْأَسَ مَن يَحتقر الناس ويزدريهم، فيَرَى أنهم مذنبون وهَلْكَى، وكأنه خيرٌ منهم، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الناس في الجاهليَّة كانوا يُنزلون مصائبهم على الدهر، فيقولون «يا خيبةَ الدهر» وهذه غاية البطالة والجهالة، أنْ يُحمِّلَ المرءُ كَسَلَه وتقصيرَه على غيره، قال مسلم بن يَسار: «وكفى بالمسلم من الشَّرِّ أن يَرى أنه أفضلُ مِن أخيه» غير أن مِن الناس مَن يرى في هذه النِّعم إكراماً من الله له، وأن واجبه أن يَلهجَ بِشُكْرِ المنعِم، فيستحضر في قلبه عميم فضْلِ الله عليه، وينطق لسانُه بذكر الله وشكره، فمثلُ هذا سيكون في غاية السعادة، فهذا الشكرُ تَسعدُ به في الدنيا قبل أن تسعد به في الآخرة، فإن من سعادة الإنسان أنه إذا أسدَى إليه أحدٌ معروفاً، أنْ يسعى لردِّ الجميل، فيتوجَّه للمُسْدِي بالشُّكر، أي بإظهار الفرح بالمعروف، وهو ما نبَّه إليه الحديث الشريف: (مَن أسدى إليكم معروفا فكافئوه، فإنْ لم تجدوا فادعوا له) فكيف إذا كان المُعطِي هو الله، فالعطاء من الخَلق قد يكون حرماناً، فقد يرى البعضُ أن المخلوقَ هو المعطي، وقد جاء في وصية سيدنا عليٍّ كرم الله وجهه: «لا تجعل بينك وبين الله مُنعماً، وعُدَّ نعمةَ غيره عليك مَغرماً» فلَأنْ يصابَ المرءُ في بدنه خيرٌ من أنْ يُصابَ في دِينه،
أما العطاءُ من الله، فهو بذاتِه إحسان، لأنه بعطائه سبحانه، يُشهِدُكَ الغِنَى به عن الناس، فقد قيل: «إنْ اعتززتَ بالله دامَ عزُّك، وإن اعتززتَ بغير الله فلا بقاء لعزِّك، إذْ لا بقاء لمن أنتَ به متعزِّز» قال تعالى: (أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا) ثم إنَّ عطاءَه سبحانه يُشهِدُك أيضاً بِـرَّهُ وفضْلَه، ويزيدك فرحاً وتعلُّقاً بما عنده، فحقيقةُ الشكرِ فرحُ القلب بالمنعِم لأجْلِ نعمته (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ) (وقال أبو العباس المرسي رضي الله عنه «والله ما رأيت العزَّ إلا في رفع الهمَّة عن الخلق» أسأل الله أن يجبرَ صدْعَ قلوبنا بالإقبال عليه، وأن يَمُنَّ علينا بالخضوع بين يديه، وأن يحول بيننا وبين كلِّ مَا يحول بيننا وبينه.

اليوم http://www.alyaum.com/News/art/134238.html
الأحد 20 جمادى الآخرة 1435 - 20 أبريل (نيسان) 2014