الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
مَسُّ الجن للإنسان

الجواب وبالله التوفيق :

اختلف الناسُ قديما في تأثير الجن على الإنس بين منكر ومُثبت، فقد قال بإمكان ذلك جماهير علماء أهل السنَّة، وأنكره آخرون كالمعتزلة وغيرهم، وقد استدل الجمهور بقوله تعالى ﴿الَّذيِنَ يَأكُلُونَ الرِّبَواْ لاَ يَقُومُونَ إلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾1.

قال القرطبي في تفسيره{ وفي هذه الآية دليل على فساد إنكار الصرع من جهة الجن، وزَعْم أنه من فعل الطبائع وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس}2.

وقد روى البخاريُّ قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ )3 قال الحافظ ابن حجر عن هذا الحديث : (وفيه إن الله جعل للشيطان قوَّة على التوصُّل إلى باطن الإنسان، وقيل: ورد على سبيل الاستعارة أي أن وسوسته تصل في مسام البدن مثل جري الدم من البدن) .

وروى البخاري ومسلم عن عَطَاء بن أَبِي رَبَاحٍ قَالَ ( قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَلا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْتُ بَلَى قَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي قَالَ إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ فَقَالَتْ أَصْبِرُ فَقَالَتْ إِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ فَدَعَا لَهَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا مَخْلَدٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ رَأَى أُمَّ زُفَرَ تِلْكَ امْرَأَةً طَوِيلَةً سَوْدَاءَ عَلَى سِتْرِ الْكَعْبَةِ )4

وقد ذكر ابن حجر أن ما أصاب المرأة ليس صرعَ أخلاط، بل مسٌّ من الجن مستندا على عدة روايات، قال (وقد يؤخذ من الطرق التي أوردتُها أن الذي كان بأم زفر كان من صرع الجن لا من صرع الخلط )

وفي صحيح مسلم عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إِذَا تَثَاءبَ أَحَدُكُمْ، فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ)

ووردت أحاديث أخرى صريحة في الدلالة على دخول الجن في الإنسان، منها:

ما رواه الإمام أحمد في مسنده :( أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم معها صبي لها به لَمَمْ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخرج عدو الله أنا رسول الله، قال: فبرئ) قال الهيثمي في مجمع الزوائد : (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح )، وهذا نصٌّ صريح، لأن الخروج لا يكون إلا لمن كان داخلا .

ومنها ما رواه ابن ماجة عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ؛ قَالَ: ( لَمَّا اسْتَعْمَلَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الطَّائِفِ، جَعَلَ يَعْرِضُ لِي شَيْءٌ فِي صلاتِي، حَتَّى مَا أَدْرِي مَا أُصَلِّي. فَلَما رَأَيْتُ ذلِكَ، رَحَلْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ:قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ :مَا جَاءَ بِكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ عَرَضَ لِي شَيْءٌ فِي صَلَوَاتِي، حَتَّى مَا أَدْرِي مَا أُصَلِّي . قَالَ : ذَاكَ الشَّيْطَانُ . أدْنُهْ . فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَجَلَسْتُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيَّ. قَالَ، فَضَرَبَ صَدْرِي بِيَدِهِ، وَتَفَلَ فِي فَمِي، وَقَالَ : أخْرُجْ عَدُوَّ اللهِ، فَفَعَلَ ذلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ قَالَ :الْحَقْ بَعَمَلِكَ، قَالَ: فَقَالَ عُثْمَانُ: فَلَعَمْرِي مَا أَحْسِبُهُ خَالَطَنِي بَعْدُ ). في الزوائد: إسناده صحيح، رجاله ثقات. ورواه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد .

ولهذه الأدلة وغيرها ذهب جماهير أهل السنة، إلا من شذ كابن حزم وغيره، إلى أن دخول الجن بالإنسان ممكن، وأغربَ ابنُ تيمية رحمه الله ونقل الاتفاق عليه فقال :(دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة .... وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجن في بدن المصروع)1.

ودخولهم في بدن الإنسان ممكن ومعقول، فليس مستحيلا لا عقلا ولا شرعاً، وقد بين ذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه الله في المقالات فقال: (يجوز للجن أن يدخلوا في الناس، لأن الجن أجسام رقيقة، فليس بمستنكر أن يدخلوا في جوف الإنسان في خروقه كما يدخل الماء والطعام في بطن الإنسان وهو أكثف من أجسام الجن )

ويقول السعد التفتازاني: (الجن أجسام لطيفة هوائية تتشكل بأشكال مختلفة ويظهر منها أحوال عجيبة، والشياطين أجسام نارية، شأنها إلقاء الناس في الفساد والغواية ولكون الهواء والنار في غاية اللطافة والشفيف كانت الملائكة والجن والشياطين بحيث يدخلون المنافذ الضيقة حتى في جوف الإنسان، ولا يُرون بحس البصر إلا إذا اكتسبوا من الممتزجات الأُخر )2

وقال الشيخ محمد الحامد رحمه الله ( إذا كان الجنُّ أجسامًا لطيفة لم يمتنع عقلاً ولا نقلاً سلوكهم في أبدان بني آدم، فإن اللطيف يسلك في الكثيف كالهواء مثلاً فإنه يدخل في أبداننا وكالنار تسلك في الجمر وكالكهرباء تسلك في الأسلاك بل وكالماء في الأتربة والرمال والثياب مع أنه ليس في اللطافة كالهواء والكهرباء )3