الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
حظُّ النفس في المعصية ظاهرٌ جليٌّ، وحظُّها في الطاعة باطنٌ وخفيٌّ 2-2

حظُّ النفس في المعصية ظاهرٌ جليٌّ، وحظُّها في الطاعة باطنٌ وخفيٌّ، ومُداواةُ ما يَخفَى صَعبٌ علاجُه، هذه الكلمات المباركات كانت خاتمة المقال السابق، وهي تلخِّصُ لنا المعنى الذي من أجله مَكَثَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ما يَنيف على اثني عشر عاماً يربِّي فيها أصحابَه على الصبر وقَهْر النفس، ويُبيِّن لهم أن ذلك من عزائم الأمور، وفي هذا نزلَ: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ونزل: (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا) ونزل: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ). وكان -صلى الله عليه وسلم- يكرِّرُ على مسامعهم: (إني أُمِرْتُ بالعفو) حتى إذا ارْتاضَتْ نفوسُهم على نسيان حظوظها وعلى عدم الانتصار لها، وصار العفْوُ ونسيانُ حظِّ النفس سجيَّةً فيها، أَذِنَ اللهُ لهم بالقتال، فشرعَ لهم جهادَ مَن يقاتلونهم، ودفاعاً عن أنفسهم، ودفاعاً عن الدعوة، قال سبحانه: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) وقال: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) فالأصلُ في المسلم أن تكون أقوالُه وأفعالُه في جميع أحوالِه على هَدْي الإسلام وأخلاقه، فهذا الخُلق هو الأصل الذي يلتزم به المسلم حالَ السِّلم وحالَ الحرب، فلا حقدَ ولا ضغينةَ من المسلم على الخَلْق،
ولا أثر لِسَوْرةِ النفس في التعامل مع الآخَر، قال القرطبيُّ: (الجدال بالأحسن والمداراة أبداً مندوبٌ إليها، وكان -عليه الصلاة والسلام- مع الأمر بالقتال، يُوَادِعُ اليهودَ ويداريهم، ويصفح عن المنافقين، وهذا بيِّنٌ).. وكان -عليه الصلاة والسلام- يُوادِعُ نصارى النُّوبة ونصارى الحبشة، وأثنى على ملك الحبشة فقال: (إنَّ بأرض الحبشةِ مَلِكاً لا يُظلم أحدٌ عنده)، وبهذا كان الصحابة الكرام على حالٍ عظيمة من الرضا بالقضاء، والوقوف مع الشرع في الإقبال والإدبار، فإذا نادَى منادي الجهاد لَبَّوا النداء بلا كُرْهٍ خوفاً من الموت، وبلا رغبةٍ في التشفِّي والانتقام، بل امتثالا لأمر الله، وإذا انتهَتْ أسباب الجهاد، ودلَّ واجبُ الوقت على إيقاف القتال، توقَّفُوا غيرَ كارهين لحكم الله، فلا أثر لشهوةِ النفس في إقبالهم أثناء احتدام القتال، ولا حالَ توقُّفِهم أو استفزازهم من العدوِّ، وهذا المعنى هو ما يجعل غايةَ المجاهدِ من القتال دَفعَ الظالم ونُصرةَ الحقِّ، من غير أن تَشوب نيَّتَهُ في جهادِه شائبةُ انتقامٍ أو تَشفٍّ، فالنفس بطبيعتها تدعو صاحبَها إلى الانتقام والتَّشفِّي، ولسانُ الشَّرع يكبحُ جماحها ويُخفِّف مِن غلواء غضبها. يؤكِّد ذلك أن الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- كانوا يرون أن مجاهدة النفس من أعظم صور الجهاد، ولننظر كيف أدَّب اللهُ بهذا الأدب الرَّفيع كبار الصحابة الكرام، فهذا سيدُنا أبو بكر الصدِّيق -رضي الله عنه-، كان ينفقُ على رجلٍ اسمُه مِسْطَحُ بن أُثَاثَةَ، وكان مِسْطَحٌ هذا ممن خاض مع المنافقين بالإفك واتَّهم أمَّنا عائشةَ -رضي الله عنها-، لكن حين برَّأَها الله في القرآن، وثَبت على مِسطَحٍ حدُّ القذف رأى الصدِّيقُ -رضي الله عنه- أنَّ مسطحاً ليس أهلاً للمعروف ولا للبرِّ، لِمَا هو عليه من معصية، فقال: (والله لا أُنفق على مِسطَحٍ شيئاً أبداً بعد الذي قال)، فمِسطحٌ أساءَ وحقَّتْ عليه العقوبة، بل وأُقيمَ عليه حدُّ القذف، غير أن معصيةَ العُصاة وتقصيرَ المقصِّرين لا يجوز أن يكونا سبباً للإساءة إليهم ولا لهجرانهم، بل ولا لِعَدَم البِرِّ بهم، فأنزل الله تعالى أدباً للصحابة الكرام، ليكون هذا الأدبُ شريعةً خالدة: (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)، فما كان من الصدِّيق إلا أنْ قال: (بلى، والله إنِّي لأُحِبُّ أن يغفرَ اللهُ لي)، فأعادَ إلى مِسطَحٍ النَّفقة التي كان ينفقها عليه. ومن أجل هذا المعنى نشأ علمٌ لَمْ تَعرفه أُممُ الأرض مِن قبل، وهو علمُ الجهاد والسِّيَر، هذا العلمُ شأنُه بيان حقوق غير المسلمين وأدب التعامل معهم، فلا غرابة في ألا نجدَ إساءةً إلى غير المسلمين في العصور المتقدِّمة، فقد كان عدد الكنائس في عهد المأمون أحد عشر ألف كنيسة، وفي المقابل لَمْ يبقَ مسجدٌ في الأندلس بعد سقوط غرناطة! هذا تاريخُنا وهذه أخلاقنا، وإنَّ أخشى ما يخشاه المسلم هو أن يأتي مَن يُشوِّهُ هذا التاريخ، والأسوأ أنْ يُغرِّرَ بشبابنا، فيتَّخذَ مِنهم أداةً له.

qmubarak@hotmail.com
اليوم - السعودية - 15-2-2014
http://www.alyaum.com/News/art/121509.html