الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
الحريَّةُ صنْوُ العفَّة 1-2

الحريِّة كلمةٌ كانت تطلق ويرادُ بها غير المعنى الذي اصطُلِحَ عليه في هذا العصر، والذي سيكون حديث المقال اللاحق، فكانت هذه الكلمة تُطلَق على المعنى المقابل للعبودية، وهي بهذا المعنى قد جعلها الله وَصْفاً فطريّاً وأصلاً ثابتاً في الإنسان، والعرب تَعُدُّها من أوصاف الكمال، وتراها محلاً لظهور فضائل الأعمال في الإنسان، كالصدق والحلم والسخاء، تسوقُهم إلى عموم مكارم الأخلاق، والبُعدِ عن كلِّ معيب، كما قال مُـخَيْسُ بنُ أرطاةَ التميميُّ:
(فقلتُ لهُ تجنَّبْ كلَّ شيءٍ
يُعابُ عليكَ إنَّ الحرَّ حُرُّ)
أي أنَّه باقٍ على ما عُهِد في الأحرار من عُلُوِّ الهمَّة وزكاة الأخلاق واجتناب مواطن الرِّيَبْ وتَرْكِ كلِّ ما يُعابُ المرء به، وعن كلِّ ما يُحْوِج إلى الاعتذار عنه، غير أن كثيراً من الأمم اعتدَتْ على هذا الأصل، فأهانَ القويُّ فيهم الضعيفَ وأذلَّه، وربما استعبَدَه، فشاعَ الاسترقاق عند كثير من أمم الأرض، حتى صارَ عريقاً فيها، فخوَّلتْ شريعةُ الفراعنة -في القرن العشرين قبل الميلاد- للمسروق منه أنْ يَستَعْبِد السارق، وهي الحيلةُ التي احتالها سيدنا يوسفُ عليه السلام لأخذ أخيه بنيامين مِن إخوتِه، قال تعالى: (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ) فاضطُرَّ إخوتُه إلى تسليمه للعزيز، ظنّاً منهم أنه سارق (قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِن قَبْلُ) وللمُلْتَقِط أنْ يَستَعْبِد الملتَقَطْ، وبهذا استُعْبِدَ سيدُنا يوسفُ عليه السلام، حين التَقَطَه السيَّارةُ مِن البئر، فجعلوه بضاعةً، ثم بِيعَ بثمنٍ يسير: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ) واستَضْعَفَ الأقباطُ اليهودَ في مصر فاستَعْبَدوهم، وهو ما أنكرَهُ نبيُّ الله موسى عليه السلام على فرعون: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ) فليس لفرعونَ أن يَمُنَّ على سيدنا موسى عليه السلام بأنه ربَّاه في قصره، لأن هذا كان بسبب إذلالِهِ لِبني إسرائيل واستئصاله لأطفالهم، ووردَتْ نصوصٌ مُحرَّفة في التوراة تُبيحُ بيعَ الرَّجلِ نفْسَه وبيع أولاده للمُرابي مقابلَ الدَّين، فلما جاء الإسلام، فرضَ التدرُّج في تحرير العبيد، فأبقى منه باب الجهاد فقط، لِحِكَمٍ مِن أهمِّها أن يَرتدِعَ الأعداءُ من مشركي العرب وغيرُهم عن الإساءة لأَسْرَانا لديهم، فكان العربُ يرون الموتَ دون أن يُقادوا للأسْرَ، فحين أغار بنو لَحْيان على ثابتِ بنِ جابر، الملقَّب «تأبَّط شرّاً» في قصَّته الشهيرة قال:
أقول لِلَحْيانٍ وقد صَفِرَتْ لهمْ وِطابي ويومِي ضَيِّقُ الحَجْر مُعْوِرُ
هُـمَا خِـطَّـتا: إمَّـا إسارٌ ومِـنَّـةٌ وإما دَمٌ والموت بالحُـرِّ أجدرُ بمعنى أنهم إن أمسكوا به، فليس إلا واحدةً من خطَّتين: إما الْتِزامُ مِنَّتَهم إنْ عَـفَوا عنه، وإما أن يُقتَل، والقتل أجدرُ به ممَّا يُكسبه ذُّلّ الاستعباد، وأشدُّ ما تخشاه العربُ أَن تُقادَ نساؤها للأسْر، ولذا صارَ أعظمَ رادعٍ لها عن العدوان، كما قال النّابِغةُ الذُّبيانيُّ مشيراً إلى خشيته من أن يُقادَ مع نسائه للأسر:
(حِذاراً على أنْ لا تُنالَ مَقادَتي
ولا نِسْوَتِـي حتى يَمُتْنَ حرائرا)
فحين رخَّصَتْ الشريعةُ في أسْرِ النساءِ -معامَلةً للعدُوِّ بالمثل- فإنها فَرَضَتْ على سيِّد الأسيرة الإحسانَ إليها في المأكل والملبس والمسكن، فجعلَتْ الأسرى إخوةً، ففي البخاري: (إخوانكم خَوَلُكُمْ) والخوَل الذين يَتخوَّلون الأمور ليُصلحوها، وبلغ من الرَّحمة بها أنْ أذِنتْ للسَّـيِّد أنْ تكون الأسيرةُ مِنْهُ بمنزلة الزوجة، ليكونَ في ذلك رِفْعة لقدْرها، وفيه تغذية لفطرتها، وقد تلدُ فيكون لها ولدٌ منه، فضلاً عمَّا دلَّ عليه الشارعُ الحكيم من فضيلة العتق، فحين سمع سيِّدُنا عبدُالله بن عمر هذه الآية: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قال: (ليس عندي أحبُّ إليَّ مِن هذه الجارية) فأَعْتَقَها، أما الحريَّةُ في المعنى الذي اصطَلَح عليه الناسُ اليوم، فإنها تعني أن يكون المرءُ حرّاً في أنْ يقول ما يريد، وفي أن يفعل ما يريد، لا يَحولُ بينه وبين تصرُّفاته أحدٌ، وهذا هو الاختيارُ الذي بسببه كان العبدُ مكلَّفاً، فَشَرْطُ التكليفِ في الإسلام: عِلْمُ المكلَّف وقُدْرَتُه، فلو كان العبدُ مُكْرَهاً غيرَ حُرٍّ في اختيارِه، لكان الأمرُ كما قال سيِّدُنا عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه لمن ناظرَهُ في القَدَر: (لَسقَطَ الوعدُ والوعيد، ولَبطل الثواب والعقاب، ولا أتَتْ لائِمَةٌ مِن الله لِمُذْنِب، ولا مَـحْمدةٌ مِن الله لِمُحسن) وتتمَّة الحديث عن الحريَّةِ التي هي أُختُ العِفَّة، في المقال القادم.

اليوم السعودية - 2014/03/16
http://www.alyaum.com/News/art/126977.html