الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
الحريَّةُ صنْوُ العفَّة 2-2

أشرتُ في المقال السابق إلى أن الحريَّة في المعنى الذي اصطَلَح عليه الناسُ اليوم، تعني أن يكون المرءُ حرّاً في أنْ يقول ما يريد، وفي أن يفعل ما يريد، فهي عَطاءٌ من الله تعالى لجميع البشر، قال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) أي بينا له وعرَّفناه طريق الخير وطريق الشر، وتركنا له الحرِّيَّة التامَّة في الاختيار، هذا الاختيارُ هو الذي بسببه كان العبدُ مكلَّفاً، فشَرْطُ التكليفِ: عِلْمُ المكلَّف وقُدْرَتُه: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) قال الإمامُ القرطبيُّ: (وهو كما تقول: قد نَصَحْتُ لك، إن شئت فاقْبَل، وإن شئت فاترك) وقال سبحانه فيمن تمرَّد بِطَوْعِ هواهُ: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) أَمَرَهم بالانضباط بقانون الحياة الذي فرضَه عليهم، فأَبَوْا وتَمرَّدوا، فحقَّ عليهم العذاب، والعربُ تقول: «قد أعذر من أنذر» وهذا معنى قوله تعالى: (لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) ولعلَّ سائلا يسأل: وكيف أكون حرّاً، إذا كنتُ سأُحاسب على قولي وعملي؟ فالجواب أن الإنسان حرٌّ فيما يَملِك، وليس حرّاً في سلب ممتلَكات الآخرين، فالأرضُ جعلها اللهُ موضعاً يَنتفِعُ به عمومُ البشر، وليست ملكاً لفردٍ واحدٍ منهم، فجعلَها ملأَى بالخيرات، فالناس يتواردون ويتزاحمون على خيراتٍ كثيرةٍ، مذلَّلةٍ ومسخَّرةٍ لهم، وجعل لكلِّ واحدٍ منهم أن يبسطَ يدَه على كلِّ ما تسبقُ يَدُه إليه، فيقوم بكلِّ عملٍ يبتغيه، ويمتلك كلَّ ما تَسبقُ يدُه إليه، غير أنَّ تَزاحمَ الناس على هذه الخيرات، مِن شأنه أن يدفع كلَّ واحدٍ منهم إلى أنْ يَكُفَّ يدَه عما سبقتْ يدُ غيره إليه، وأن يُراعي في سعْيِهِ لمصالحه مصلحةَ الآخرين، وإلا لوقع الناسُ في تنازُع وتقاتُل، فاسترسالُ بعض البشر في تحصيل المنافع المبثوثة في الكون، مِن غير التفاتٍ لحريَّة غيرهم هو سبب هذه الخصومات التي تملأ الدنيا، وما أَرسل الله الرسل إلا لوضع قانونٍ يحول دون اعتداء الآدميِّ على أخيه، ودون اعتداء القبائل والدول على بعضها، بوضْعِ القوانين المنظِّمة لتعاملات الناس وتصرُّفاتهم في أموالهم وحقوقهم، ومن بديع ما نبَّه إليه الأصوليون أنَّ الحرية تَتَّسعُ لمن قلَّت التزاماتُه، وتَضيقُ على مَن اتَّسعت سلطَتُه وكثُرَت التزاماتُه، فمَن وَلِـيَ أمراً وأُسنِدَت إليه مسؤوليةٌ تتعلَّق بغيره، فقد قيَّد نفسَه، لأنه مأمورٌ وجوباً بالتصرُّف بما تقتضيه المصلحة العامة،وآثمٌ إن تصرَّف بما ينافيها، فالقاعدة تقول: (التصرُّف على الرَّعيَّةِ منوطٌ بالمصلحة) بخلاف تصرُّفات الفرد فيما يَخصُّه وحدَه، فهو حرٌّ في اختيار الصالح أو الأصلح، ثم إن حُرِّيَّـتَك تعني أن يُحترم قولُك ورأيُك وفعلُك، فضلاً عن الاعتداء على مالك أو نفسك، فَقِوامُ الإساءةِ هو تضييق الحريات، ومنها إشاعةُ المناكر والمفاسد والبَغْيَ والاعتداء على حدود الآخرين، فالاعتداء على الأنفس والأعراض والأموال، من تضييق الخناق على الحريَّات فيُقيِّد الله تعالى الحرية إذا أفضت إلى ضرر عام أو خاص، أو أدَّت إلى تقييد حرية الآخرين، فأعلنت حقوقَ الإنسانِ في الإسلام آيةُ: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)، فالمباحُ هو الأصلُ، والممنوع هو الاستثناء، فلا يصحُّ ادِّعاءُ تحريم أو إيجاب إلا بنصِّ، وأعلن حقوقَ الإنسانِ كذلك الحديثُ الشريف: (إن دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم، عليكم حرامٌ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) وصور الاعتداء على حريَّات الآخرين وكبْحِها كثيرةٌ جداً، ولعل مِن أظهرها وأقربها إلى واقع الناس اليوم، ما نراه على صفحات التواصل الاجتماعي، كالتويتر والفيسبوك والصحافة الورقية، مِن لَمزٍ وتنابزٍ واتِّهامٍ للنيَّات، فما أيسر على الواحد منَّا أنْ يُسفِّهَ رأيَ غيره، ويَتَّهمه بسوء النيَّة وخُبث الطويَّة، يستوي في ذلك الرأي الفقهيَّ، والرأي في قضايا الاقتصاد والسياسة، ولا أحتاج لاستدعاء الأمثلة، فكثرتُها أعظم من أنْ أَذكرَ واحدةً منها، إنَّ السكوت عن الخطأ غير مقبول، غير أن بيان الحقِّ لا يستدعي نبزَ مَن نختلف معه، فالكبير هو الذي يبيِّن الحقِّ ويُقيم البراهين عليه من غير إساءَةٍ لأحد، ورحم الله الحسين بن مُطير الأَسدي حين قال:
أُحِبُّ معاليَ الأخلاق جَهدي
وأَكرهُ أنْ أَعِيبَ وأنْ أُعابا
ومَن هابَ الرِّجالَ تهيَّبوه
ومَن حَقَرَ الرِّجالَ فلن يُهابا


اليوم السعودية - الأحد 22 جمادى الأولى 1435 - 23 مارس (آذار) 2014
http://www.alyaum.com/News/art/128411.html