الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
المعجزة والكرامة

المعجزة والكرامة
د . قيس المبارك
إن الإنسان إذا تأمل في هذا الكون، وجالَ النظر في عجيب صنعه ودقائق حِكَمِه، لَيَرى انسجاماً كبيراً بين أجزائه، وتناسقاً بديعاً في ارتباط ذرَّاتِه بعضها ببعضها، فما مِن ذرَّةٍ من ذرَّات هذا الكون إلا وهي مسبَّبةٌ عن غيرها من جانب، وسببٌ لغيرها من جانب آخر، فالوالدان سببٌ في وجود أولادهما من جهة، وهما من جهة أخرى مُسبَّبان عن والديهم، وهكذا الشأن في جميع المخلوقات، من حيوان أو نبات أو أفلاكٍ نشهدُها تسبح في صفحة السماء، فهذا التناسب والتآلُف بين أجزاء الكون، وارتباط بعضها ببعض هو أعظم دلائل وجود الله تعالى، فوجود المخلوقات ابتداءً دليلٌ قاطع على مَن أوجدها كما قال تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) فضلاً عن دلالة التآلف والانسجام بين أجزائها ضمن ظاهرةِ السَّببية، وهذا وحْدَه كافٍ في الدلالة على أن الإلحادَ تعطيلٌ للعقل عن وظيفتِه، ونزولٌ عن مرتبة الإنسان المكرَّم بالعقل إلى مرتبة العجماوات، ولذا كان الإلحادُ قليلاً في البشر على مرِّ الأزمان، كما نبَّه إلى ذلك القاضي أبوبكر الباقلاني رحمه الله وغيره، فدلائل الإعجاز في الكون أعظمُ مِن أنْ تُحصى، كما قال الشيخ حسن البُورِينِيُّ : (وَرَقُ الغُصُونِ إذا نظَرْتَ دفاتِرٌ *** مَشْحونَةٌ بأدِلَّةِ التَّوْحيدِ) غير أن الشأن في الإنسان أن يَغفل بحكم الإِلفِ والاعتياد، فيتبلَّدُ عقلُه وتَقلُّ فطنتُه، فلا يتنبَّه لكثير من مظاهر الإعجاز في خلق الله، ولذلك ندبنا اللهُ إلى التفكُّر في آياته، وأمرنا بالاعتبار في مخلوقاته في كثير من الآيات، كقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) بل إنَّ مِن مزيد رحمته بعباده، أنْ جاء مع الأنبياء بالمعجزات، من أجل أنْ يزول التبلُّد والغفلة، فيُعملُ الإنسان عقلَه بالتفكُّر والتدبُّر، والمعجزة في اللغة مشتقة من العَجْز وهو الضَّعْف، بمعنى أن يعجزَ الإنسانُ عن أنْ يأتي بمثلها، فهي أمرٌ مخالفٌ لِمَا أَلِفَهُ الناسُ واعتادوا على مشاهدته، ولا تعني مخالفة العقل ومخاصمته، ولا أنَّها ممَّا تُخالف الممكن، فالمعجزةُ بتعريفها المنصوص عليه عند الفقهاء، ليست من جنس المستحيل، فهي: (أمرٌ خارقٌ للعادة، يُجريه اللهُ على يد أحد أنبيائه، على سبيل التحدِّي للمنكرين له، على وجْهٍ يُبيِّنُ صِدْقَ دعواه) وأَضربُ لذلك مثلاً بالقمر، فإنه مخلوق عظيم، ووجودُه يسبحُ في السماء كذلك مظهرٌ عظيم، وحركته في السماء بِسيرٍ منضبط مظهرٌ آخرٌ عظيم، فهو يجري في فلكٍ خاصٍّ به، ويسير سيراً سريعاً في فَلَكِه لِيقطع ثمانيةً وعشرين منزلا في زمنٍ قدَّره الفلكيون بما يقارب ((29)) يوماً، بل ذكروا أنه غايةٌ في الدِّقة، قالوا: هو ((29)) يوما و((12)) ساعة و((44)) دقيقة وثانيتان و((87%)) من الثانية، فدورةُ القمر كما يقول الفلكيون غاية في الدِّقة، غير أنَّ مشاهدتنا للقمر كلَّ ليلة على مرِّ الأيام والليالي، قد تجعلنا نألف هذا المشهد، فلا نرى فيه إبداعاً وإعجازاً، وربَّما قال البعضُ، هذا أمرٌ عاديٌّ، فالقمر بطبْعِه يسير في السماء، أما حين يخرج القمرُ عن مألوفه، أو يضطرب في سيرِه، فإن النفوس تتنبَّه وتتساءل عن سرِّ هذا الخروج عن المعتاد، وقد وقع أنْ سألَ أهلُ مكةَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يُريهم معجزةً، فانشقَّ القمرُ فِلْقَتين، فلقةٌ عن يمين جبل أبي قُبَيْس، وفلقةٌ عن يساره، قال سيِّدُنا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (رأيتُ القمر وقد انشقَّ، فأبصرتُ الجبلَ بين فُرْجَتَي القمر) فاعجب كيف يكون انشقاقُ القمر إلى شقَّين أشدَّ غرابةً في النفوس مِن بديع خَلْقه ودقَّة سيره، وأعجب من ذلك خُذلان المشركين حين لم يَرَوْا في هذا إلا أنه سِحرٌ لأعينهم، كما أنهم لم يَرَوا في المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه سوى يتيم أبي طالب، فنزلت آيةُ: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) فإعراضُهم وشدَّةُ نُفرَتِهم مِن الحق وبغضهم له، أعماهم عن رؤية دلائل التوحيد، فبُغضُك الشيء أو حُبَّكَ له يُعْمِي وَيُصِمُّ، ويُريك الحقَّ باطلا والباطل حقّاً، فصاروا بمنزلة الصُّمِّ العُمْي، (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) وللحديث بقية.


الأحد 6 جمادى الآخرة 1435 - 6 أبريل (نيسان) 2014
اليوم http://www.alyaum.com/News/art/131168.html