الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
المعجزة والكرامة 2-2

بينت في المقال السابق أن النفوس ترى عظيم خلْق الله، في الأفلاك وفي النبات والحيوانات، فترى ما يبهرُ عقولها، غير أنها إذا رأتْ ما هو مثلهُ في عظيم الخلق، مما لـمْ تألفْه، كان إعظامُها له أشدّ، وتُسمّيه معجزةً إنْ وقع لنبيٍّ وكرامةً إن وقع لولي، فالمعجزةُ ليست مما يُحيل العقل وجوده، بل هي من قبيل الممكن، وأضرب مثالاً آخر بخلق عيسى عليه السلام، فما أشدّ غفلة الإنسان، يعجب من خلق عيسى من أُمٍّ بلا أب، ولا يعجب من خلق آدم بلا أمٍّ ولا أب، بل ولا يعجب من خلق عموم البشر من أمٍّ وأب، وهو يرى كيف يقع الحمل، وكيف ينشأ الجنين في تسعة أشهرٍ يقضيها محفوفاً بالمخاطر، ترعاه ألطاف الله، ثم يخرج وقد أكنّ اللهُ في قلبيْ والديه شفقةً عظيمة عليه، بل في قلوب عموم الخلق،وتستمرُّ الرعاية إلى أن يبلُغ مبلغ الرجال، فخلْقُ الله تعالى كلُّه معجز، غير أن الإلْف قد يُبلّد إحساس البعض، فيرون ما خالف مألوفهم وخرق مُعتادهم، موقظاً لهم من الغفلة، ولعل سائلا يسأل، فما هي الكرامة، والجواب أن الكرامة كالمعجزة، أمرٌ مخالفٌ للعادة، غير أن الله يُجريه على يد أحد أوليائه، تثبيتاً له، أو تكريماً له، أو تأييداً ونصرةً لدينه، فكلُّ ما جاز أن يكون مُعجزةً لنبيٍّ جاز أن يكون كرامةً لوليّ، فالفرق بينهما التحدي، فالكرامة منحةٌ وتكريمٌ ربّاني، ولا تفيدُ عصمة المكرّم من الذنوب، والمعجزة يُجريها الله على يد النبي يتحدّى بها قومه، إظهاراً لصدْقه، وإذا أكرم الله وليّاً، فإنه حين ظهور آيات الله أمامه، يقْوى به يقينه، وحين يرى فضل الله عليه بها، يشتدُّ تواضُعُه، ويزداد التزامُه بالشرع، ولأنه لا يقطع بأنها كرامة، يشتدُّ خوفُه من أنْ تكون استدراجاً، فأرْبابُ البصائر لا يتشوّفون للكرامة، بل يُخْفونها خشية أنْ يُفتنوا بها، قيل: (الكرامةُ كرامةٌ، ما لم يُحدّثْ بها لغير ضرورةٍ أدّتْ إلى ذلك، أو يزْهُو بها) فهمُّهم طلب الاستقامة، فهي الكرامة المعنوية التي دلّ عليها قولُه تعالى: (فاسْتقمْ كما أُمرْت) وقوله صلى الله عليه وسلم: (استقيمُوا ولن تُحصُوا) فالاستقامةُ أعظمُ كرامة بإجماع العارفين، وهي خُلُقُ الأكابر، وهذه الأخلاق قصّر فيها كثيرٌ من الدُّعاة اليوم، غايتها تقوى الله أوّلاً، والعفّةُ عن إيذاء الخلْق ثانياً، قال الجنيد: (ولا يُطيقها إلا فحول الرجال) وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: (إنما هما كرامتان جامعتان: كرامةُ الإيمان بمزيد الإيقان، وكرامةُ العمل على الاقتداء والمتابعة، فمن أُعطيها واشتاق لغيرها، فهو مُغْترٌّ) أما الكرامة الحسّيّة، كتكثير الطعام ونبع الماء، وغيرهما مما خالف المألوف، فلا تتشوّفُ إليها نفوس العارفين، بل كلما كان العبدُ إلى الله أقرب كان انصرافُه عنها أشدّ، وهذا ما يفسّرُ قلّة الكرامات التي نُقلت عن الصحابة الكرام، مقارنةً بما نُقل عن تابعيهم، فلقُوّة يقينهمْ لا يلتفتون إليها، ولا يتداولونها، أما اليوم فيطْربُ الناسُ للكرامة أشدّ الطرب، ويظنُّون أنها تنطوي على أمرٍ عظيم، ويستدلُّون بها على صحّة سلوك من ظهرت على يده، وهو استدلالٌ باطل، فصحّةُ الطريق هو الوقوف عند حدود الشرع، فقد يُرزقُ الكرامة من لم تكتمل له الاستقامة، قال أبو علي الدّقاق: كُن طالب الاستقامة، لا طالب الكرامة، فإن نفسك متحركةٌ في طلب الكرامة، وربُّك يطلب منك الاستقامة.. ففرقٌ بين من همُّه طلبُ نصيبه من كرم مولاه، وبين من همُّه مطالبةُ نفسه بحقوق مولاه، وفي هذا ما فيه من سوء الأدب مع الله، رزقنا الله الفهم عنه.

الأحد 13 جمادى الآخرة 1435 - 13 أبريل (نيسان) 2014
اليوم http://www.alyaum.com/News/art/132631.html