الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
التحزُّب ضَعْف للكلمة وعي

الأصل في الناس أن يكونوا أمَّة واحدة، لا أن يكونوا جماعات وأحزابًا متفرقين، فقد وُجد الناس في أوّل النشأة متّفقين في أصل الفطرة، قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) فجعل الله المرءَ مدنيًَّا بالجبلَّة كما قال الحافظ أبوبكر بن العربي، فليست طبيعة الإنسان كطبيعة بعض المخلوقات التي تعيش فرادى، بل الشأن فيه أن يعيش ضمن جماعة أو أُمَّة يَنتظمها غرضٌ واحدٌ مقصود، ثم إنه لا حرج في أن ينتظم عددٌ من الأفراد حول غرضٍ من الأغراض الشريفة، أيَّا كان هذا الغرض، اجتماعيًا أو ثقافيًا أو اقتصاديا أو إداريا أو سياسيا، كالتفاف مجموعة حول غرضِ رعاية المعوَّقين، أو رعاية الأيتام، أوبثِّ وعْيٍّ ثقافي، أو نشر سلوكٍ أخلاقي، أو تنشئةٍ اجتماعية، أو نشرٍ للإسلام كما تفعل المراكز الإسلامية في بلاد غير المسلمين، فهذه معانٍ في غايةِ الحُسْن، ففي الحديث (إن الأشعريين إذا أرْمَلوا في الغزْو جمعوا ما كان عندهم، ثم اقتسموه بينهم بالسوِّية فهم منِّي وأنا منهم) فالمواساة في المال وفي الرعاية وفي الدعوة وغيرها من أجلِّ الأعمال وأفضلها عند الله، غير أن هذا التآلف والتعاون على مقصودٍ شريف قد يُفضي في بعض الأحوال إلى ضرر للمجتمع، ومن ذلك أنْ يَظُنَّ المتعاونون على غرضٍ صحيح أنَّ هذا التعاون يبيح لهم أن تكون بينهم أخوة خاصَّة، تجعل بينهم تآزُرًا وتناصُرًا أشدَّ من تآلفهم مع بقية أفراد المجتمع، وبتعبير آخر: تنشأ بينهم وحدةٌ شعورية تعزلهم عن غيرهم، فتُفضي المحبةُ والتآلف بينهم إلى أن يصيروا كجسمٍ منفصلٍ عن شركائهم في الدِّين والوطن، فالتبعيةُ والمناصرةُ بهذه الصفة تُعدُّ صورةً من صُوَر تشتيت الكلمة وإضعاف الوحدة بين الأمَّة، ولنا أنْ نتصوَّر أن أفرادًا تعاونوا على تشكيل جمعية تثقيفية لبثِّ الوعي بين الناس حول خطر التدخين وما شابهه من الأشربة والأطعمة الضارة، فهذا التعاون بهذه الصفة، وإن كان في أصله عملًا جليلا ونبيلا، غير أنه يكون ضِرارًا إذا تحوَّل إلى تكتُّلٍ وتآلف يجعلُ مِن أفرادِهِ كيانًا مستقلا عن الجماعة، بحيث يُفضي إلى أن يكون ولاءُ أفراد هذه الجمعية إلى بعضهم أقْوَى مِن ولائهم إلى البعض الآخر من أفراد أمَّتهم، فالأصل في تعدُّد الجمعيات والمراكز الخيرية والثقافية والفكرية والتربوية والسياسية وغيرها أن تكون عواملَ قوَّةٍ وأسبابَ تَوَحُّد، ومصدرَ إبداعٍ وإثراء، أما أن تُفسِدَ عملَها النبيل ومشروعها النافع بتحزُّبٍ وتبعيَّة وولاءٍ لعموم أفرادها أو لزعيمها، فهذا من شأنه أن يُفضي إلى نقيض ما أُنشِئتْ من أجله، وهو صَلاح المجتمع وتوحُّدُه، لقد كان المأمول من عموم الجمعيات والمراكز والمؤسسات الإسلامية أن تكون جمعيات نفعٍ وإصلاح، وهذا ما نراه منها، ونَشهدُ لها بجهودها المشكورة والمأجورة، غير أنَّ الكثير منها شُغِلَتْ عن غايتها ومقصودها -سواء كان تربويًا أو تحصينا للعقيدة أو تهذيبا للأخلاق أو غير ذلك- فصَرفتْ الكثيرَ من الوقت في مُزاحمة أندادها في أنشطتها، فالكثير من الجمعيات جَعلتْ مِن نفسها خليطًا من الأعمال، فهي جمعية تربوية وهي مشروع فكري، وهي مركز ثقافي، بل وهي حزب سياسي، وغابَ عنها أنَّ الإسلامَ هو حبل الله المتين، وهو الشجرة التي يجبُ على جميعِ الجمعيات أنْ تَتَفَيَّأَ ظلالَها، وهكذا صارَ الإسلامُ مُتَخطَّفًا ومتنازعًا عليه بينها، فركضَتْ جيادُ التنازع والشقاق بين هذه الجمعيات والجماعات والأحزاب، وصار همُّ كلِّ واحدة من هذه الجمعيات تكثيرَ سوادها ونشرَ أتباعها، ومثال ذلك المراكز الإسلامية في الشرق والغرب، نُسَرُّ كثيرًا برؤية ثمرتَها، ونشهَدُ جهودَها في نشر الإسلام، لكنها رضِيَتْ أن تكون أظهرَ أسباب اختلاف المسلمين في العالم كلِّه، فالناس يتطلَّعون من هذه الجمعيات والمراكز والجماعات إلى تنافسٍ محمودٍ، وتسابقٍ في الخيرات مندوب، وإلى إيثار للغير في حظوظ النفس، أما أنْ أُنافس الآخرين في حظِّ نفسي لتكثير سوادي، وفي التأكيد على فضلي وعلى أن منهجي وسلوكي هو الحق الذي خطؤه يسير، فهذا مفتاح باب الفتنة، ولو أنهم تسابقوا في فعل الخيرات، وكانوا متواضعين في تسابقهم، فآثر بعضُهم بعضًا في الإقرار بالخطأ والتقصير، وابتعدوا عن التهارج والتنابز وتبادل التُّهم، لصار بينهم التكامل المنشود، ولأصلحَ كلُّ فريق منهم جانبا غفل عنه غيره، فصلحت بهذا أحوال الأمة.



د. قيس المبارك
الجمعة 02/05/2014
http://www.al-madina.com/node/528531/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D8%B2%D9%8F%D9%91%D8%A8-%D8%B6%D9%8E%D8%B9%D9%92%D9%81.html?risala