الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
افرحْ بالطاعة من حيث هي منةٌ من الله

ذكرتُ في المقالين السابقين، أن الواحد منّا إذا تأمَّل في نفسه، فسيجدُ أنَّ الواقع عليه حالةٌ من حالتين، النعمة أو الابتلاء، وبيَّنتُ ما لِلَّه على العبد في كلِّ حالةٍ منهما، واليوم سأتحدَّث عن الواقع مِن العبد، فجميع ما يقع من الإنسان من تصرُّفات، إما أن تكون طاعة يتعبَّد الله بها، وإما أن تكون معصية يخالف أمر الله بفعلها.
ومقال اليوم، عما يقع مِن الطاعات، فالعبوديَّة التي يقتضيها الله من الطائع، هي أن يشهدَ فَضلَ الله ومنَّتَهُ عليه بها، فالعارفون يَرونَ مِننَ الله ماثلةً أمام أعينهم في كل شيء، والعبد إذا أراد أن يتقوَّى رجاؤه في الله، فما عليه إلا أن يشهدَ فضلَ الله عليه من جميل الإحسان، ومزيد المبرَّة والامتنان،كما قيل: "فهل عودك إلا حسناً وهل أسدى إليك إلا مننا "، قال صَّفيُّ الدين الحِلِّي: "اللهُ عوَّدك الجميلَ ***فَقِسْ على ما قد مضى" ومن أعظم مِنن الله على عبده، أن يسَّر له سُبُلَ طاعتِه، وحبَّبها إليه، وجعلهُ أهلاً لها، كما قيل: "كفى مِن جزائه إياك على الطاعة أن رضيك لها أهلاً" فللطاعة والمناجاة لذةٌ وحلاوةٌ، تتلاشى عندها جميع الملاذِّ، فيُوردُ الله على قلوب الطائعين مِن وجود مؤانسته فتوحاً من الفرح والسرور، ليشهدوا بِرَّه وكرمَه، وإقبالَه بِوجود لُطْفِه، كما قيل: "متى أعطاك أشهدَكَ بِـرَّه" ثم إن العبد إذا تأمَّل، فإنه يدرك أنَّ الله تعالى إذا قابَلَهُ بعدْلِه سبحانه، فإن جميع ذنوبه التي كان يظنُّها صغائر، هي في حقيقتها كبائر، لِعِظَم مَن يُعصى سبحانه، بخلاف مقابلة الله العبدَ بالفضل والكرم، فإن الكبائر تتضاءل حتَّى لا تُرى، قال يحيى بن معاذ: "إذا أَنالَهم فضلَه، لمْ تبقَ لهم سيئةٌ، وإذا وضع عليهم عدلَه، لم تبق لهم حسنة" وقال بعض الصالحين: "اللهم اجعل سيئاتِنا سيئات مَن أحببتَ، ولا تجعل حسناتِنا حسنات مَن أبغضت".
من أجلِ هذا، فإنَّ أرجى الأعمال للقبول هي الأعمال التي يغيبُ عن الطائعِ شهودُها، ويُحتَقَرُ عندَه وجودُها، وحين سئل بعضُ العارفين: ما علامة قبول العمل؟ قال: "نسيانُك إيَّاه، وانقطاعُ نظرك عنه بالكلِّيَّة" ففرْقٌ بين الطاعة التي يؤدِّها العبدُ وهو مستَعظِمٌ لها، وكأنه متفضِّلٌ بها على مولاه، وبين التي يؤدِّيها وهو مستصغِرٌ لها، ومتَّهمٌ نفسه بالتقصير، فهي العمل الصالح الذي دلَّ عليه قولُه تعالى: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» فالطاعة قد يقترنُ بها مِن قوادح الإخلاص ما يمنع قبولها، فمِن الناس مَن يُعجب بها اعجاباً يجعله يحتقرُ مَن لم يفعلها، فيغترُّ اغتراراً يُحبِطُها، كما قال بعضهم: "ربما فتح لك باب الطاعة، وما فتح لك باب القبول" فالله غنيٌّ عنّا وعن طاعاتنا، فهو أغنى مِن أنْ يَحتاج لمن يطيعه سبحانه، فهو القائل: «وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ» وفي الحديث القدسيِّ: «يا عبادي لو أن أوَّلَكم وآخرَكم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئاً»، وعليه فلْتفرح أيها القارئ الكريم بجميع عباداتك، لكونها برزتْ منه إليك، فتفضَّلَ بها عليك كما قال: «قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ» واحذر من الفرح بها لأجل كونها بَرزتْ منك كاملةً غير معلولة، فهذا عينُ الغفلة، فقد يورثُ عُجْباً يُحبطُ عباداتك، أما الفرحُ بها من حيث هي مِنَّةٌ مِن الله عليك، فهو عينُ الإجلال له سبحانه.


د. قيس المبارك
الأحد 5 رجب 1435 - 4 مايو (أيار) 2014
http://www.alyaum.com/News/art/137098.html