الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
انكسارُ العاصي خيرٌ من صَولة المُطيع

ذكرتُ في المقال السابق، أنَّ الواقع مِن العبد، من تصرُّفات، إما طاعة وإما معصية، ومقال اليوم عما يقع مِن المعاصي، فالعبوديَّة التي يقتضيها الله من العاصي، هي التوبة والاستغفار، فالمؤمن يرى رحمة الله ماثلةً أمامه، وإذا أراد أن يتقوَّى رجاؤه في الله، فما عليه إلا أن يشهدَ حِلمَ الله عليه وجميل إحسانه إليه رغم عصيانه لربِّه، ومن أعظم مِنن الله على عبده، أن فتح له أبواب الندامة والتوبة، بل وحبَّب إليه الأوبة إليه سبحانه، فخيرُ أوقات العبد هو الوقت الذي يَشهد فيه وجودَ ضَعْفِه وفقْرِه إلى مولاه، ففي شهودِهِ هذا المعنى تحقيقٌ لمعنى العبودية، وفيه تعظيمٌ لشأن الربوبية، وهذا شرفٌ ما بعده شرف، فلم يخاطب أشرف خلقه إلا بالعبودية قال سبحانه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ) (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ) (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ) وفي شهود هذا المعنى فائدةٌ أخرى، وهي استنهاض القلوب بالدعاء؛ لاستجلاب رحمة الله، ليكون مستحقّاً للعطاء، قال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ) وقال: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ) ومن دلائل هذا المعنى أنْ جعل اللهُ النصرَ والفتح مقرونين بالفاقة، قال سبحانه: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ)،
وقال : (وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ)، فالمؤمن يلاحظ أعمالَه بعين الاستصغار، وكأنَّه أَلَمَّ بالمعاصي، وشاهِدُ ذلك قولُه تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ). وقد قال الأوَّل: (يتجنّبُ الآثامَ ثم يَخافُها *** فكأنّما حسناتُه آثامُ) بخلاف الاغترار والعجب بالعمل، فحين وقَعَ مِن بعض حديثي الإسلام مِن الصحابة الكرام، شيءٌ من العُجب، أدَّبهم الله فقال: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا) ولم يَخُصَّ بتأديبه مَن أصابه العجب، بل عمَّ الجميع لأن الفتنة تَعمُّ، قال تعالى: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً)، ثم إن في الندامة والتوبة بالاستغفار مِن حلاوة المناداة ولذيذ المناجاة ما تتلاشى عندها جميع الملاذِّ، فيُوردُ الله على قلوب المستغفرين مِن وجود مؤانسته فتوحاً من الفرح والسرور؛ ليشهدوا شيئاً من بِرِّه وكرمِه، وإقبالِه بِوجود لُطْفِه، فإنَّ الذنب إذا أعقبَتْهُ حسرةٌ وندم، وقارنه استصغارٌ للنفس وحُسن اعتذار إلى الله، فقد يكون سبباً في القرب إلى الله، وإلى هذا يشير الصالحون بقولهم: "معصيةٌ أورَثَتْ ذُلاً وافتقاراً، خيرٌ من طاعة أورثت عزاً واستكباراً" فانكسار العاصي إذا أورث توبةً وأوبة خير من صولةِ المطيع إذا أفضَتْ إلى اغترار واستكبار.
وأختم هذه المقالات الأربعة بالتذكير بأنك أيها القارئ الكريم، مهما تأمَّلت في نفسك، فإنك ستجد أن الواقعَ عليك إما نعمة وإما بليَّة، وأن الواقع منك إما طاعةٌ وإما معصية، وأنك لن تخرج عن واحدة من هذه الأحوال الأربعة، فاستفد من جواب أحد الصالحين لمن شكى إليه همومَه: إن كنت في نعمةٍ تتقلَّب، فاشكر الله عليها، وإن كنت في مصيبةٍ، فاصبر لحكم ربِّك ووكِلْ أمرَك إليه، وإن كنت متقلِّبا في طاعة، فاشهد مِنَّةَ الله أنْ أعانك عليها، وإن كنت متلبِّسا بمعصية، فتُبْ إلى الله واستغفره، عندها قال الشاكي: فقُمْتُ مِن عندِه وكأنما كانت الهمومُ والأحزانُ ثوباً نَزَعْتُهُ.
ثم سأل الأستاذُ تلميذَه: كيف حالُك؟ فقال التلميذ: أُفَتِّش عن الهمِّ فلا أجدُ الهمَّ، ولعل هذا العبدَ الصالح استلَّ هذا المعنى من قول مَن أُوتي جوامع الكلم صلوات ربي وسلامه عليه (عجباً لأمر المؤمن إنَّ أمرَهُ كلَّه له خير، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاءُ شكرَ، فكان خيرا له، وإن أصابته ضرَّاءُ صبرَ فكان خيرا له).


الأحد 12 رجب 1435 - 11 مايو (أيار) 2014
http://www.alyaum.com/News/art/138429.html