الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
تتبُّع المؤمن لزلّاته أحبُّ إليه من تتبُّع زلّات المذنبين

خلق الله الخلق، وكان من حكمته تعالى ألا يكونوا معصومين، ففي الحديث الصحيح: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم»، ولا ينبغي أن يُفهم من هذا الحديث أنه دعوةٌ للعصيان، أو تسلية للعصاة في عصيانهم، بل المقصود منه بيانُ عظيم عَفْوِ الله تعالى وعميم مغفرته، ترغيباً للتائبين أن يبادروا بالتوبة، وقد وصف اللهُ المؤمنين بقوله: «وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ»، والأصلُ في المؤمن أنه ينظر إلى نفسه، ويتشوَّفُ إلى معرفة ذنوبه وعيوبه، ويرى هذا أهمَّ عليه من عُجْبِهِ بنفسه، وتبختُرِه اغتراراً بأعماله، فهمُّ المؤمن تصفيةُ نفسه مِن عيوبها: كالحسد والكِبْر وحبِّ الزعامة والشهرة؛ تخليصاً لنفسه من هذه الآفات، وقد قيل: "تَشوُّفك إلى ما بطن فيك من العيوب خيرٌ مِن تشوُّفك إلى ما حجب عنك من الغيوب» فتتبُّعه لزلّاته أحبُّ إليه مِن مخالفة أمْرِ الله بتتبُّع زلّات المذنبين وكشف سوءاتهم وفضح عوراتهم.
وقد قال الشاعر:
إذا أنتَ لَـمْ تَعصِ الهوى قادَكَ الهوى
إلى كلِّ ما فيهِ عليك مقالُ
فغاية المؤمن شهودُ فاقتِه وضَعْفِه وتقصيره، تحقيقاً لعبوديَّته لله، وتعظيماً لشأن الربوبيَّة، فإذا وقع منه ذنبٌ بادر بالتوبة والندم والاعتذار من مولاه، وتذكَّر قولَ الله تعالى: «نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ» وسمعَ قولَ يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله: "إذا أنالهم فَضْلَهُ لم تبق لهم سيئة" فصار نظرُه إلى حِلْمِ الله وعَفوه أكبرَ مِن نظره إلى بطشه وقهرِه.
وقد قال الإمام الشافعي -رحمه الله-:
(فلما قسى قلبي وضاقت مذاهبي
جعلت الرجا مِنِّي لعفوك سُلَّماً
تعاظمَني ذنبي فلما قرنتُه
بعفوك ربي كان عفوك أعظماً
فما زلتَ ذا جودٍ وفضلٍ ومِنَّةٍ
تجود وتعفو مِنَّةً وتكرُّماً)
وبهذا فإنه لن ييأس من رحمة الله، ولن يَعظم الذنبُ عنده عظمةً تصدُّه عن حُسْنِ ظنِّه بالله تعالى، فلا تكون ذنوبُه كبيرةً إذا قابَلَهُ فَضْلُ الله وكرمُه وبرُّه، فإنَّ صفةَ العفْو والمغفرة إذا ظَهَرَتْ، تضاءَلَتْ أمامها جميع السيِّئات، مهما اشتدَّتْ وكَبُرَتْ، وقد قيل: (اللهم اجعل سيئاتنا سيئات مَن أحببت، ولا تجعل حسناتنا حسنات من أبْغَضْتَ) ولله درُّ القائل:
(ذنوبيَ إنْ فكَّرتُ فيها كثيرةٌ
ورحمة ربي من ذنوبيَ أوسعُ
هو الله مولايَ الذي هو خالقيْ
وإنِّي له عبدٌ أَذُلُّ وأخضعُ).
إذاً فالمؤمنُ يعلم أنه مقصِّرٌ، وأنه قد يعصي ويذنب، وأنه لا معصوم إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، واستناداً إلى هذه المعرفة، فإنه سيحترم عموم المؤمنين مهما وقع منهم من تقصير ومهما كبُرَتْ ذنوبهم وكثُرَتْ، وأذكر بهذه المناسبة حادثةً وقعَت الآن، وأنا أكتب هذا المقال، حيث أرسل إليَّ أحدُ المحبِّين، أنَّ أحد القرَّاء أنكر عليَّ حين قرأ كلاماً لي نُشر يوم الجمعة 17رجب، ذكرتُ فيه جواز التبرُّع بالأعضاء، وأنَّ وَجْهَ إنكاره أني لم أحذِّر المستشفيات من استغلال فقْر الفقراء، فأجبتُ صاحبي بأن مَن يكتب فهو معرَّضٌ للنقد، وأن واجبَ مَن يخالط الناس أنْ يصبر على ما يصيبه مِن أذى، فردَّ علي بأن هذا القارئ..أساء، فأجبته بأن غايةَ ما ينبغي أن نقوله في حقِّ هذا القارئ -إنْ أسأْنا الظنَّ به- وأعوذ بالله من إساءة الظن بمسلم، أن نقول إنه أخطأ في حقِّ نفسه، وبيان هذا سيكون مقال الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى.


الأحد 19 رجب 1435 - 18 مايو (أيار) 2014

http://www.alyaum.com/News/art/139984.html