الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
هل لي أنْ أتَّخذ حب الناس لأهل العلم سلاحاً أحتمي به؟!

ذكرتُ في المقال السابق، أن صحفيّاً سألني عن التبرُّع بالأعضاء، فأجبته بما ملخَّصه، أن للمسلم أن يُؤْثِرَ غيرَه بالأعضاء التي يَدلُّ الطبُّ على أن حياته ستستمر على حالٍ مستقرٍ وَسَويٍّ إذا تبرَّع بها، أما بيعُها والمتاجرةُ فيها فلا يجوز؛ لأن الإنسانَ لا يملكُ أعضاءَه، وإنما يملك الانتفاعَ بها. وقد تمَّ نشر هذا الجواب بجريدة الحياة، يوم الجمعة قبل الماضي، غير أنّ المحرِّرَ رَبَطَ كلامي بحادثة تتعلَّق بفقيرٍ اضطرَّتْهُ الدُّيون إلى التبرُّع بكِلْيَته؛ ليحصل على مكافأةٍ ماليَّةٍ يَسدُّ بها ديونه، رغم أن حديثي كان بمعزلٍ عن هذه الحادثة. فأرسل لي صديقٌ رسالةً، ذكر فيها اعتراضاً من بعض القراء، خلاصتُه: أنَّ كلامي يدلُّ على تدنِّي الحسِّ الإنساني عندي! لأنني حين ذكرتُ جواز ذلك، فأنا عنده بمنزلة مَن يدعو المستشفيات إلى استغلال فَقْرِ الفقراء؛ للحصول على أعضائهم!
فأجبتُ صاحبي بأنَّ مَن يخالط الناس ويَكتُب، فقد عرَّضَ نفسه للنقد، فواجبُه أنْ يصبر على ما يصيبه مِن سوء ظنٍّ ومِن أَذَى، وأنْ يتَّخذ مِن نقد الناقدين سبباً لتقويم كتاباته والتَّرَقِّي بها للأفضل، وأنَّ غايةَ ما ينبغي أن نقولَه في حقِّ هذا القارئ، إنْ أسأْنا الظنَّ به -وأعوذ بالله مِن إساءة الظن بمسلم- أنه أخطأ وأساء، وكلُّنا خطَّاءٌ ومُسيء.
لقد كان يسيراً عليَّ -إن غلبَتْني نفسي وتَحكَّم فيَّ هوايَ- أنْ أتَّهم هذا القارئ بسوء النِّـيَّة، وأن أتَّخذ حبَّ الناس لأهل العلم والدِّين سلاحاً أضرب به مَن يَنتقدني، بأنه أساء إليَّ؛ كيداً للإسلام، غير أنَّ لسان الشرع يأبَى عليَّ ذلك، مهما أخطأ في حقِّي وقوَّلَني ما لم أَقُلْ.
ومن هنا، فإني أجدُ لزاماً عليَّ أنْ أُنبِّه إلى أنَّ كثيراً من الدعاةِ والمصلحين يغفل عن هذا المعنى، وأشدُّ من هذه الغفلة، أنْ يجعلَ من أيِّ خلافٍ فقهيٍّ أو ماليٍّ أو اجتماعي، سبباً يُخوِّنُ به غيرَه في دِينه، فتعجبُ من طرفين دخلا برضا وطواعية، في شراكةٍ ماليةٍ أو سياسيةٍ أو غيرها، فإذا اختلفا، ألْقَيا بينهما العداوةَ والبغضاء، وربما جرَّ الشيطانُ المتديِّنَ منهما ليطعن في دِين صاحبه، بأنه ما خاصمَه إلا كُرهاً في الدِّين، فَهَمُّ كلِّ واحدٍ منهما تتبُّعُ زلاتِ صاحبه، وفَضْحُه أمام الملأ، واستعداء الناس عليه بشتَّى الأساليب، ولا يَقبل سماع كلمةٍ تفيدُ حُسنَ ظنٍّ برفيق الأمس، بل ويتَّهمُ مَن لا يُشاركه الرأيَ، بأنه لا يفقَهُ في أمور الناس الاجتماعية أو السياسية، أو أنه ساكتٌ عن الحق، ومُمالئٌ للظالم، وهكذا يتلاعب الشيطانُ بهما غايةَ التلاعب.
فأَخطر ما يُصيب المصلحين غلَبَةُ نفوسهم عليهم، فيغضبُ أحدُهم لنفسه ظَنّاً منه أنَّ غضبَه لله، وكأنه لا يعلم أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُوذيَ بما لم يؤْذَ به أحدٌ قطُّ، فلمْ يَجُرُّهُ الأذى إلى سبابٍ أو شتائم، فلم يكن همُّه كشفَ مؤامرات قريش أو ثقيف أو هوازن، بل كان همُّه أنْ يتثبَّت مِن صحَّة سَيرِهِ إلى الله، وكان حقُّ كلِّ طرفٍ ألا يتَّهم غيرَه، بل يتَّهم نفسَه، لعلَّه أخطأ فعوقب، كان عليه أن يعود إلى نفسه باللوم والتقريع قائلاً: (ياربِّ إنْ لم يكن بكَ عليَّ غضبٌ فلا أُبالي) هذا أدبٌ إسلاميٌّ رفيع، فما أعظم أنْ يُروِّضَ كلٌّ منّا نفسه على نسيان حظِّها، فهذا هو رسوخُ اليقين الذي يُثمرُ أحسنَ الأعمال وأجمَلَها وأكمَلَها، فالنفوس التَّقيَّة لا يزيدها الابتلاءُ إلا إبرازاً لِحُسنها وبَهائِها، فَحُسْنُ الأعمال نتائجُ حُسْنِ الأحوال، قال تعالى: «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً»، وفي أصحاب النفوس الكبار يقال:
لا تَهتدي نُوَبُ الزمانِ إليهِمُ
ولهمْ على الخَطْبِ الشديدِ لِجامُ.


الأحد 26 رجب 1435 - 25 مايو (أيار) 2014
http://www.alyaum.com/News/art/141303.html