الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
هل يمكن اعتماد الحساب لدخول الشهر

فضيلة الدكتور قيس بن محمد ال الشيخ مبارك
هل يمكن اعتماد الحساب لدخول الشهر

سير القمر دقيقٌ جداً، فلا ينخرمُ أبدًا كما قال تعالى: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) والشارع الحكيم عوَّل في ثبوت دخول الشهر على رؤية الهلال، فالرؤيةُ أمرٌ مشهود محسوس، وصورته واحدة وهي المشاهَدة، وهي يسيرةٌ على عموم الناس، ولم يأمرنا الشرع الشريف بالحساب، لأن الأخذ به غير ممكن، لتعدُّد صُوَرِه، فاختيارُ صورةٍ منه دون غيرها تَـحَكُّمٌ لا يُصارُ إليه إلا بمرجِّح، فاختيار طريقة من هذه الطرق دون غيرها لن يكون محل اتفاق، فهل يَدخل الشهر استناداً إلى عمر القمر، أو استناداً إلى مكث القمر، أواستناداً إلى عمر الاستطالة، وكلها صورٌ حسابية دقيقة، لكنْ بِأَيِّها نأخذ؟ هذا ما يجعل الأخذ بالحساب غير ممكن، ومن صور الحساب كذلك ما أخذت به ليبيا أيام القذافي، وهو أنه إذا حدث المحاق قبل الفجر، كان اليوم التالي هو بداية الشهر، وإلا كان هو اليوم المتَمِّم للشهر، والأخذ بهذه الصورة لا يزيل لبساً ولا يرفع خلافاً، بل يورثُ إشكالاً آخر، ففجر أي مدينةٍ نعتمد؟ إذا حدث المحاقُ آخر شعبان، وكان الوقتُ قبيل الفجر في العاصمة طرابلس، فإنه يجب الصيام على مَن كان فيها ومن كان في غربها، ولا يصح الصيامُ لِمَن كان شرقها كبنغازي ومِصْرَاتَة، لأن المحاق حدث بعد طلوع الفجر عندهم، وبذلك يصوم مَن كان في طرابلس أوغربا عنها في يوم، ويصوم مَن كان شرق طرابلس في اليوم الذي يليه، ويصوم مَن كان شرق بنغازي في اليوم الذي يليه، فكان من حكمة الشرع الشريف أن اختار لنا طريقة غايةً في الوضوح والدقة، فيدخل الشهر في الشرع من لحظة الرؤية، ورخَّصَ في قبول عدلين يشهدان على رؤية الهلال، لكن جعلَ شَرْطَ قبول شهادتهما أنْ يُرى في الزمن الذي يمكن أنْ يُرى فيه في موضعه، ذلك أنَّ من واجبات القاضي أنْ يَتثبَّت مِن نظر الشاهد وحدَّة بصره، ومن معرفته بمطالع القمر ودرجة ارتفاعه فوق الأفق وانحرافه في الأُفق، فيُشترط فيمن يشهد أن تخلو الشهادة عمَّا يوجب اسقاطها، فيشترط فيها ما يشترط في عموم الشهادات، كما قال أبو الوليد الباجي:(فَيُعتبر فيه من صفات الشهود ما يُعتبر في سائر الشهادات) ومن الشروط ألا تُخالفُ الشهادةُ المقطوعَ به، فلا تقبل شهادة مَن رأى الهلال قبل ولادته فلكياً، وكذلك يجب أن تخلوا الشهادة عمَّا يوجب إسقاطَها من موجبات إسقاط الشهادة، وهذا يعني أنه يقدحُ في شهادة الشاهد كلُّ أمرٍ تَسقط به الشهادة، فتُردُّ الشهادةُ إذا فَقدَتْ صفةً من الصفات الواجبة فيها، وتُردُّ الشهادة كذلك إذا خالَفَت المشهودَ المحسوس، فَشَرْطُ المشهودِ به إمكانُه شرعاً وعقلاً وعادة، قال العلامة شهاب الدين أحمد بن قاسم العبَّادي الشافعي: (إذا دل الحساب القطعي على عدم رؤيته، لم يقبل قول العدل برؤيته، وتُردُّ شهادتهم بها) ذلك أنَّ للقاضي أن يَرُدَّ الشهادة بعلمِه إذا عَلم بُطلانَها أو مخالفتها للحس، قال ابن عبد البر: (وأجمعوا أيضا على أنه إذا عَلِمَ أنَّ ما شَهِدَ به الشهودُ، على غير ما شَهِدوا به، أنَّ القاضي يُنْفِذ عِلْمَه في ردِّ شهادتهم، ولا يقضي بشهادتهم، ويردَّها بعلمه) وقال تعليقا على حديث "فَإِنْ غُمَّ عليكم فأكملوا الْعِدَّةَ ثلاثين": (وفـيه أن الـيقـين لا يزيلـه الشك، ولا يزيلـه إلا يقـينٌ مثلُـه، لأنه أَمَرَ الناسَ ألا يَدَعوا ما هُمْ علـيه مِن يقـينِ شعبان، إلا بـيقـينِ رؤيةٍ واستكمال العدَّة، وهذا أصلٌ عظيم من الفقه، أنْ لا يدع الإِنسانُ ما هو علـيه مِن الـحالِ الـمتـيَقَّنة، إلا بـيقـينٍ مِن انتقالِـها) فلو زعم أحدٌ أنه رأى الهلالَ قريبا من كبد السماء، أو منحرفًا إلى غير جهة المغرب، أو قبل المحاق كاليوم السابع والعشرين، فهذا يُحكم ببطلان شهادته، لأنه واهمٌ قطعاً إنْ كان ثقةً وعدلًا، فمطْلَعُ القمر هو الغرب وليس كبد السماء، كما أن زمن رؤيته بعد المحاق بعدَّة ساعات وليس قبله، فهذا الشاهدُ إنْ كان صادقًا، فقد يكون رأى نجمًا آخر أو كوكبًا غير الهلال، أو شعرةً في عينه، أو غير ذلك، فالعين قد تُري الإنسانَ ما لا حقيقة له، وأذكر هنا حكايةً تلخِّصُ لنا اللغط الذي يكثر مع بداية كلِّ رمضان، ومع إقبال كلِّ عيد، وهي ما حكاه ابنُ خلكان في تاريخه: (تراءى هلالَ شهرِ رمضان جماعةٌ فيهم أنسُ بن مالك رضي الله عنه، وقد قارب المائة، فقال أنسٌ: قد رأيتُه، هو ذاك، وجعل يشير إليه، فلا يَرونه، ونظر إياسٌ إلى أنس، فإذا شعرةٌ مِن حاجبه قد انْثَنتْ، فمسَحها إياسٌ، وسوَّاها بحاجبه، ثم قال له: يا أبا حمزة، أَرِنا موضع الهلال، فجعل سيُّدنا أنسٌ ينظر ويقول: ما أراه! وإلى هذا المعنى أشار القاضي أبوبكر بن العربي رحمه الله بقوله: (إن الشاهدَ إذا قالَ ما قامَ الدليلُ على بطلانه، فلا تُقبل شهادتُهُ) ورؤية الهلال مغرب يوم الجمعة القادم27يوليو، ممكنةٌ حسب كلام الفلكيين، في أمريكا اللاتينية فقط، أما بقية العالم فلن يُرَ الهلال إلا مغرب السبت، واستنادا إمكانية الرؤية فقد أعلن المجلس الأوربي للإفتاء أن أول رمضان هذا العام هو السبت28يوليو، لأن الهلال رؤيَ في جزء من الأرض، استناداً إلى أنه لا عبرة باختلاف المطالع، فالمجلس الأوروبي يكتفي بإمكانية الرؤية وإن لم يَرَ الهلالَ أحدٌ، والاعتماد على إمكانية الرؤية من غير رؤيةٍ ومشاهدة، قولٌ أراهُ شاذّاً ولا يُعوَّل عليه، فالواجب أن نتحرَّى الهلال مع غروب شمس يوم السبت، فإن رآه الناس فقد دخل رمضان الأحد، والله أعلم .