الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
تحاور العلماء مع الشباب يقيهم شر الجماعات المتطرفة غياب العدل ... بيئة خصبة للأفكار الشاذة و المنحرفة

سيدي العالم الجليل الأستاذ الدكتور/ قيس بن محمد آل الشيخ مبارك
أمدكم الله بالعمر المديد لخدمة الإسلام والمسلمين
1. السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
طبتم وطابت أوقاتكم بالصحة والعافية ونفع الله بعلمكم الأمة الإسلامية جمعاء أنه ولي ذلك والقادر عليه يطيب لنا ان نحاور فضيلتكم لكي نضع النقاط علي الحروف ويستفيد من علمكم الواسع ومنهجكم الفياض جمعا غفير من قراء جريدتنا الغراء التي تصدر عن مشيخة الأزهر الشريف تحت رعاية الأمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب وبأشراف الدكتور عباس شومان وكيل الأزهر .
العالم الجليل هذه بعض الأسئلة التي أتفقنا علي أرسالها إلي فضيلتكم اثناء أنعقاد ندوة الحج الكبري ووعدتنا بالرد عليها .
وإلي فضيلتكم الأسئلة ....
يموج العالم الإسلامي بتيارات متطرفة أفرزت فرق وجماعات وأحزاب وتقاتل فيما بينها برأي فضيلتكم ما الأسباب التي أدت إلي هذا التفكك الموجود في الأمة وما السبيل إلي وقف اراقة الدماء ؟
من فترة لأخري يظهر من يطالب بتجديد الخطاب الديني ويرجعون كل ما يحدث من إرهاب وتطرف إلي جمود الفكر فما هو التجديد المأمول لتعم الفائدة علي الأمة الإسلامية ؟
ما دور علماء المسلمين في نهضة الأمة وتجديد الفكر الإسلامي لأنتشالها من حالة الثبات والهوان التي عليها الآن ؟
كيف تري فضيلتكم دور المرجعيات الدينية الكبيرة في السعودية والأزهر الشريف في مصر ومناقشاتهم لقضايا العالم الإسلامي خاصة الأرهاب والتطرف ووضع الأقليات المسلمة في العالم ؟
كيف نحمي شبابنا من الإنجراف والوقوع في براثن الجماعات المتطرفة ؟
المرأة شاركت الرجل الأستخلاف في الأرض وجاء الأسلام ليعطيها حقوق كانت فيما قبله من المحظورات ومع ذلك نجد من يشكك في أخذ حقوقها فما رد فضيلتكم علي هؤلاء ؟
البعض يري أن أغلب مشاكل الأمة الإسلامية سببها غياب العدل الأجتماعي كيف حل هذه القضية ؟
وتفضلوا بقبول فائق الأحترام والتقدير لشخصكم النبيل
وبارك الله في علمكم الغزير
أبنكم المخلص مصطفي هنداوي صحفي بجريدة "صوت الأزهر "
h.01113222563@gmail.com
00201065227500
سؤال١:
يموج العالم الإسلامي بتيارات متطرفة أفرزت فرق وجماعات وأحزاب وتقاتل فيما بينها برأي فضيلتكم ما الأسباب التي أدت إلي هذا التفكك الموجود في الأمة وما السبيل إلي وقف اراقة الدماء ؟
الجواب:
إن المعاناة التي تعيشها الأمةُ الإسلامية كبيرة، ويزيدها اشتداداً أن نتقاذف التُّهم في أسباب هذه الحال التي نحن فيها، ويزيدها اشتداداً كذلك هذا الاستقطاب الحادّ بين أطياف المجتمع، وهو استقطابٌ يعاني منه عالمُنا الإسلاميُّ كلُّه، من أقصاه إلى أدناه، استقطابٌ يتنافَى مع الأخوَّة بين المسلمين، والتي هي أصلٌ من أصول الدين وعِصمةٌ من عِصم المسلمين، ويؤكِّد أهمِّيَّة التآلف والتَّآخي، إنَّ غياب الحكمة في التعامل بين الفُرَقاء نذيرٌ بفكِّ بُنيان التماسك الاجتماعي، ومفتاحٌ لباب الفتنة، والمأمول أن يتناسى الجميعُ حظوظَ النفس وأنْ لا يكون الانتصارُ للنفس رائداً لهم في تصرُّفاتهم، وأن يُغلِّبوا حقَّ الأخوَّة وحقَّ الجوار وحقَّ المواطَـنَة، وحقَّ حفظ البلاد من الفتن، أما إصرارُ صاحبُ كلِّ رأيٍّ على تخطئة غيره والتَّهجُّم عليه، وعلى الاقتصاص منه أوالإقصاء له، فهو منافٍ للأخوَّة، والله تعالى يقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وشأْنُ الإخوَّة الرحمة، فإنما تُرْجَى الرحمة للمجتمع وتستقيم الأحوال وتصلح، بِنِسْيان الإحن، فنسيان الأحقاد مُرْتقى صعب، لكنه سهلٌ على من جعل خَوْف الله بين عينيه، والعرب تقول: (متى ما يَسُؤْ ظَنُّ امرِءٍ بِصَدِيقِه ** يُصَدِّقْ بلاغاتٍ يَجِئْهُ يَقِينُها) (إذا كان في صَدْرِ ابنِ عمِّكَ إِحْنةٌ ** فلا تسْتَثِرْها سوفَ يَبْدُو دَفِينُها)
سؤال٢:
من فترة لأخري يظهر من يطالب بتجديد الخطاب الديني ويرجعون كل ما يحدث من إرهاب وتطرف إلي جمود الفكر فما هو التجديد المأمول لتعم الفائدة علي الأمة الإسلامية ؟
الجواب:
التجديد المطلوب هو إرجاعُ الناس إلى هَدْيِ النُّبوَّة، ذلك أن الناس مع مرِّ الأيام والليالي تبتعد عن الأخلاق والآداب التي ارتَقى بهم إليها الأنبياء، بسبب غَلَبة الأهواء والشهوات ووساوس الشيطان، فهم بحاجةٍ إلى من يعيدهم إلى الجادَّة والصواب، كلما تقادم بهم الزمان، وما كان هدْيُ الأنبياء جموداً ولا يُبْساً، فقد كانت الأمة الإسلامية في نَماءٍ وازدهار، وكان ارتقاؤها صعودا في العهود الأولى، لأنها كانت أقوى ديناً وأقرب إلى الهدي النبوي، وإنما يجمد الفكر إذا ابتعد الناس عن فهم حقيقة الدين، ومشكلة العالم الإسلامي اليوم هي البُعد عن المعاني الإسلامية العظيمة، فأنت تلاحظ أن المسلمين في الماضي كانوا يُنْزلون الأحكام الفقهية على واقعهم، ذلك أنّ الوقائع والأحداثُ تتنامَى مع الزمن وتَجِدُّ مع الأيام والليالي، فكلَّما نزلتْ نازلةٌ حقَّقوا مَناطَها، أي نزَّلوا حكمَها على الواقع المطابق لها، بل كان سلفُ الأمَّة يَنهَون عن الجمود على المنقولات، ويرونه انحرافاً عن الهدي النبوي كما قال الإمام أبوحامد الغزالي، وقد ذكر الإمام شهاب الدِّين القرافي، أن الفقيهَ إذا جاءَه مَن يستفتيه مِن غير بَلَدِه، أنَّ الواجب عليه ألا يُجْرِيَ الحكمَ على عوائد بَلَده وأعرافه، بل على عُرْف السائل، وهو كلامٌ غايةٌ في الأهميَّة، والنَّاظرُ في كتب المدارس الفقهية المعتبرة يجدها تُراعِي اللغة والأعراف والعوائد، فيُقدِّر المفتِي في الفتوى: الزمان والمكان والأشخاص، كما يقول علماء الأصول، فما يُفتَى به في زمانٍ قد لا يُفتَى به في زمان آخر، ويُسمِّي الفقهاءُ هذا المعنى “مراعاةُ محلِّ النازلة” ويسمِّيها فقهاء الحنفية “الواقعات” لأن الفقيه يرقُب الواقع في فتاواه، وهذا المعنى مبسوطٌ في كتب أصول الفقه، حيث يذكر الأصوليون أنَّ مِن شروط صحَّة الفتوى وجودَ تطابقٍٍ بين الواقعة التي نزلتْ وبين الحكم، فهذا هو ملاحظة الواقع، أي تحقيق المناط الذي هو تسعةُ أعشار النَّظر الفقهي، كما قال الأصوليين، لأن الحكم الشرعيَّ نَزَل معلَّقاً على واقعٍ مشخَّص، فلا يصحُّ تَنزيل الحكم إلا على الواقع المطابق له، فالشريعة جاءت بعبارات كليَّة ونصوص منحصرة، تتناول جزئيات المسائل التي لا تنحصر، بل تتنامى مع الأيام، والفقيه هو الذي ينظرُ في الواقعة لمعرفة طبيعتها وسِماتها وأوصافها ليُنْزِل الحكم عليها بتطابقٍ تام، والواجب على مَن يتصدَّر للفتوى في هذا الزمان أن يتنبَّه إلى خطورة الجمود واليُبْس على ألفاظٍ دون التفاتٍ للمقاصد والمعاني، ومن أظهر الأمثلة على هذا امتناع سيدُنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قطع يد السارق عام المجاعة، ولم يكن هذا رأيٌ انفرد به الفاروقُ كما يَظنُّ كثير من الباحثين اليوم، وإنما هو الحكم الفقهي في زمن المجاعة، لأن الناس في حال المجاعة تغلب عليهم الفاقة والضرورة، وهي شُبهةٌ تُسقط الحد عن أحدهم إذا سرق، وهذا ما تقتضيه قواعد الشرع .
س ما دور علماء المسلمين في نهضة الأمة وتجديد الفكر الإسلامي لأنتشالها من حالة الثبات والهوان التي عليها الآن ؟
الحال الذي نحن فيه اليوم حالٌ مُؤسف، ويتحمَّل مسؤوليَّته الجميع، غير أنَّ المسؤوليةَ تكون أكبر على المرء إذا كان له شأنٌ وتأثير في المجتمع، فمسؤولية صاحب القرار السياسي كبيرة، وربما كانت مسؤولية العلماء أكبر، لأن الناس تَنزِعُ بطبيعتها إلى التديُّن، فيكون انقيادُها لما يقوله العلماءُ كبيرا، فمن أجل ذلك كان واجبُ العلماء كبيراً، فوظيفتهم بيانُ حقائق الإسلام للناس، ليعرف الناسُ عظمة دينهم وأنَّ به صلاح البشرية، وأنه دين الفطرة الإنسانية، فليس فيه ما يُسْتَحْيى مِنه، ومن وظيفتهم كذلك تبصير الناس بأحكام الشريعة الإسلامية وآدابها، وتحذيرهم من المعاصي والذنوب، رحمةً بهم وشفقةً عليهم، وواجبهم كذلك أن يكونوا نصَحَةً لجميع الخلق، بالحذر من أنْ تُلوِّثهم السياسةُ، فالسياسةُ قد تدفعُ أحدَهم -من حيث يعلم أو لا يعلم- ليكون منحازاً إلى فئةٍ، فتنقسم بسببه الشعوب، فربَّما صار وسيلةَ دعايةٍ انتخابية، وربَّما صار داعيةً لجماعةٍ أو حزب، والحالُ أن الناسَ ينتظرون من الفقيه أن يكون ناصحاً لجميع أفراد المجتمع، المذنب منهم والمطيع، إنْ قَسَى على العاصي، فقسوَةَ المحبِّ المشفق، فخوفُه عليهم خوفُ الأب على أولاده، كما قال أبو تمام: فقسا ليزدجروا ومن يكُ حازماً ... فَلْيقْسُ أحياناً علَى من يرحمُ .

سؤال٣: كيف نحمي شبابنا من الإنجراف والوقوع في براثن الجماعات المتطرفة ؟
الجواب:
الجماعات زعامةٌ أو زعاماتٌ تُسيِّر أفراداً، الكثير منهم غايةٌ في الطِّيبة والبساطة، غير أنَّ كثيرا من هذه الزعامات جعلتْ من هؤلاء البُسَطاء وَقوداً لمعركةٍ لا ناقةَ لهم فيها ولا جمل، إنَّ الجلوس مع الشباب هو أوَّلُ سُبل وقايتهم من هذه الزعامات وتحصينهم من هذه الفتن، فيجب على المعلِّمين والمربِّين من أساتذة الجامعات وغيرهم، أن يفتحوا صدورهم للشباب، وأنْ يجلسوا إليهم وأنْ يستمعوا إلى أقوالهم ويُجيبوا على استشكالاتهم وتساؤلاتهم بحلم وعلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما شفاء العيِّ السُّؤال) فأولادنا في المرحلة الثانوية والمرحلة الجامعية، بحاجةٍ ماسَّة لامتصاص نقمتهم بالاستماع إلى همومهم، فقد اختطفَتْهم زعاماتٌ مجهولة، فقد استوقفني وأنا خارجٌ من قاعة افتتاح مؤتمر وسطية الفكر بكلية دار العلوم في جامعة المنيا أحدُ هؤلاء الشباب الطيِّبين، وسألني عن رجلٍ لا أعرفه، فقال لي هل تعرف الشيخ فلان، فقلت له: لا أعرفه، ثم تذكرتُ أني سمعتُ عن هذا الشيخ المسؤول عنه، فقد سمعتُ أنه رجلٌ لا يُعرف في الأوساط العلمية، وإنما عُرف في بعض الأوساط الدعوية والتربوية، وأنه لم يُعرَف بسبب علمٍ اشتهر به، ولا بسبب زُهدٍ وعِفَّة لسان، وإنما عُرِفَ بسبب كثرة وقوعه في العلماء والدعاة في مجالسه، وبتصنيفه لهم، بتبديع بعضهم وتضليل البعض الآخر، وبلغ به الجهل أنه يظنُّ أنه بهذا التصنيف يَقتدي بعلماء الجرح والتعديل، كم تمنَّيتُ أنَّ هذا الشاب الْتَقَى هذا الشيخ وتحدث إليه وسمع منه مباشرة، ليَقف على حقيقة هذا الشيخ الذي لم يَرَه، لا أنْ يُقدِّس أقواله ويقلِّده عن بُعد، ظانَّاً أنه يقلِّد إماماً جليلاً! فالنفوس تتعلَّق عادةً بالمجهول، لأنها ترَى في المجهول ما لا تراه في المعلوم، وتظنُّ أن هذا المجهول شيءٌ عظيم، ولم يكن هذا الشابُّ ليقلِّد هذا الرجل لو وَجَدَ مِن الأساتذة مَن يَفتح قلبَه له، فالمأمول من الأساتذة أنْ يَكُفُّوا عن جَلْد الشباب، بل عليهم أنْ يَنزلوا إليهم، ويعامِلوهم معاملة الأبِ الحاني على أولاده، فعندها لن تجد في أولادنا مَن يُختطَف .
سؤال٤:
البعض يري أن أغلب مشاكل الأمة الإسلامية سببها غياب العدل الأجتماعي كيف حل هذه القضية ؟
الجواب:
غياب العدل بيئةٌ صالحة لظهور الإفراط والتفريط، فهو ليس سببا في ذاته، وإنما هو البيئة الخصبة للأفكار الشاذَّة، المنحرفة يَمْنةً ويَسرة، فالأفكار الشاذَّة لا تنموا إلا إذا قلَّ العلم، والجاهل إذا علمَ أنه جاهل فقد أراح واستراح لأنه أنصَف مِن نفسه، غير أن البلاء في الجاهل الذي لا يدري أنه جاهل، وهؤلاء هم الجُهَّال الذين يشير إليهم الحديث الشريف: (اتَّخذ الناس رؤوساً جهَّالا، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا) فقد زعموا أنهم أعرفُ الناس بالإيمان، وأنهم أشد الناس تمسُّكاً بالقرآن، فإذا فُقِد في المجتمع العدلُ، فقد تهيَّأت البيئة المناسبة للانحراف والضلال، فيصير اختطاف الشباب سهلا وميسوراً، وأنا أضرب لك مثلاً لشابٍّ حماهُ الله بسبب العلم، من الوقوع في الزلل، فقبل ما يقارب تسعين سنة تقريبا، قرَّر عمِّي وشقيق والدي أنْ يلتحق بالثورة الليبية تحت لواء عمر المختار، ثم غادر مدينة الأحساء سرّاً، متوجَّها إلى ميناء العُقَير، أشهر ميناء بالخليج العربي يومها، فحين تسامع الناس بخبره، ذهب إليه بعضهم، فأدرَكوه في الميناء، فقالوا له بأن الجهاد في ليبيا جهادُ دَفْعٍ للعدوِّ، وهو فرضُ عَينٍ على القادرين من أهل البلاد التي اعتُدِيَ عليها، ثم مَن يليهم، وذكروا له أن أُمَّهُ غيرُ راضيةٍ عن ذهابه، فذهابُهُ مباحٌ، وطاعةُ الأمِّ واجبٌ عليه، فامتَثَلَ لحكم الله ورجع، ولم يفعل ما تَدفعه نفسُه إليه، فرحم الله الإمام البوصيري حين قال: (وخالفِ النفسَّ والشيطانَ واعصهما *** وإنْ هُما مَحَّضاكَ النُّصحَ فاتَّهِمِ) وهذا من فقهه رحمه الله وورَعِه، فلو كان قليل الفقه لغَلَبَهُ هواه، وعزَّ عليه القعود، ولَبحث عن أحدٍ يبيحُ له الذهاب، ولو بحث فإنه لن يجد، لأن فقهاءَ ذلك الزمان كانوا ملتزمين بمرجعيَّتنا، وهي فقه الكتاب والسنة الذي حَفِظتْهُ لنا المدارس الفقهية المعتبرة، فاستنبطتْ هذه المدارسُ من نصوص الكتاب والسنَّة أصولاً كلِّيَّة وقواعدَ ضابطة، تنتظم كلَّ مسألةٍ تَجدُّ، وكلَّ نازلةٍ تقع، فليست مرجعيَّتُنا أشخاصاً، تتضاربُ فتاواهم جيلاً بعد جيل، كحال كثير من الفرق قديماً وحديثاً، فكثيرٌ ممن ينتسب لأهل السنة من هذه الجماعات المتطرفة، المسلَّحة منها وغير المسلَّحة، دينُ الله عندها هو ما يقولُهُ مرجعها الأعلى، أي زعيمُها، فهو المرجعية الدينية، فشعارُها "نحن رجالٌ، والأئمَّة السابقون رجال" مرجعيَّاتٌ تتولَّد في كل زمان ومكان، فكلما تولَّى مرجعٌ -بموتِ مَن قَبْلَه، أوبِتَغَلُّبِه- دَفَنَ مَن سبقه، وصار يُشرِّقُ ويُغرِّب، بفتاوى لا خِطامَ لها ولا زِمام، كفتاوى رضاع الكبير وفتاوى استباحة الدماء وفتاوى تكفير المخالِف وغيرها، إنَّ مرجعيَّتَنا أصولٌ متَّفقٌ عليها، هذه الأصول هي المادَّةُ الضابطةُ للاجتهاد، لألا يكون للهوى والميول الشخصيَّة أثرٌ في الاجتهاد، وهو ما تعانيه هذه الجماعات، التي تتكاثر وتتوالد مع الزمن، والتي سمَّاها علماؤنا "أهلُ الأهواء" أما ما عليه سلَفُنا ومَن تَبعهم، فإنه إذا اختلف فقيهان في مسألةٍ عقديَّة أو فقهية، فما أيسر العودة لكتب الفقه والعقيدة المعتبرة، فيُحسَم النزاع، ويرتفع الخلاف .
س٥: المرأة شاركت الرجل الأستخلاف في الأرض وجاء الأسلام ليعطيها حقوق كانت فيما قبله من المحظورات ومع ذلك نجد من يشكك في أخذ حقوقها فما رد فضيلتكم علي هؤلاء ؟
الجواب:
الأصل في الرجل والمرأة أنهم سواءٌ في الدِّين، وسواء في الحُرمة، كما كانوا سواسية في أصل الخِلقة والجِبِلَّة، وهم إخوة كما قال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وهم سواء أمام خطاب الشارع، لا فرق في ذلك بين رجل ورجل، ولا بين رجل وامرأة، فخطاب الشارع متعلِّق بالجميع، وقد نبَّه العلماءُ إلى أن الخطاب إذا جاء بصيغة التذكير، فإنه شاملٌ للنساء، فلَمْ يُفرِّق الشارع بين الرجل والمرأة إلا إذا وُجِدَتْ أحوالٌ وعوارض تستدعي الخروج عن أصل المساواة، كمنْع مساواة المرأة للرجل في ولاية الجيش ورآسة الأركان، وآكد منها الولاية العظمى، ومثل منْع مساواة الرجل للمرأة في حقِّ كفالة الأولاد حالَ كونهم صغارا، فالحضانة حقٌّ للمرأة، ومثل منْعِ مساواة الرجل أيضا للمرأة في وجوب النفقة الزوجية، فالنَّفقة واجبةٌ على الرجل، أما سائر الأحوال فكلاهما سواء، كالإفتاء فهو من الأحوال التي لا يُفرَّقُ فيه بين رجل وامرأة، فليسَت الأنوثة مانعاً للمرأة من التعلُّم والتعليم والتَّصدِّي للإفتاء، وتاريخنا لَمْ يَخْلُ من نساء عالمات جلسن للإقراء والتدريس والتحديث، فمنهنَّ الراويات لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ومنهنَّ الفقيهات، ورأسُهُنَّ أمُّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها، فكم نحن بحاجةٍ إلى فقيهات يتصدَّين للإفتاء، فكم مِن امرأةٍ تبحث عن فقيهةٍ تستفتيها في كثيرٍ من شؤونها فلا تجد، فهذه حاجةٌ ومطلبٌ مهم، وليس بحثاً عن وجاهة، ولا لتفاخر أحد الجنسين على الآخر، إنَّ اللائق بنا أن يكون همُّنا متوجِّها إلى الارتقاء بالمستوى العلمي للمرأة، لنرى من نسائنا العالِمات والباحثات في عموم التخصصات، اللائي يُثْرِين حياتنا العلمية والثقافية، وكذلك الحياة الاجتماعية ليَرتقينَ بأحوال الأُسَر والبيوت، وأشير فيما يتعلَّق بعملَ المرأة إلى أن كثيراً من الناس يتحدَّثون عن عمل المرأة وكأنه خُلُقٌ يجب عليها الأخذُ به، ويغيبُ عنهم أن العمل ليس مفروضاً عليها، فشرْعُ الله لَم يُحْوِج المرأة للعمل ابتداءً، بل ألزم الرجل بالنَّفقة عليها، فلذلك لا تجد المرأةَ في بلادنا -غالباً- مضطرَّةً أن تكون أجيرةً في شركة أو معرض أو مدرسة أو مشفى أو غير ذلك، ومع هذا فقد أباح لها أنْ تعمل، فقد يكون لدى المرأة مالٌ ورثتْهُ مثلاً، وتريدُ تنميته، وقد تكون محتاجة، وليس لها مَن يَعولها، فتريد أنْ تكتسب، وقد يكون المجتمعُ كذلك محتاجاً إليها ككثير من المهن كالطب والتمريض والتعليم وغير ذلك كثير، فلم يمنع شرعُ الله المرأةَ من العمل، فياليت الناس تُنصف المرأة، وليتهم يولُون الارتقاء بها في سُلَّم التعليم والتثقيف اهتماماً، كاهتمامهم بتشغيلها أجيرة في منشأة أو معمل، فبُعداً لأمَّة اختزلت الكيان النسوي في أن يكون أُلعوبة للرجل يَتسلَّى بها ، فجعلت من المرأة بضاعةً للمتاجرة بِـحُـسنها وجمالها ، ودُمـيـة تنشر عليها عروض الأزياء والرشاقة ، ويُـتسلَّى عليها بمسابقات ملكات الجمال، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَهتمُّ بتعليم النساء بجميع شؤونهنَّ، الدينيَّة منها والحياتيَّة، فقد جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت يا رسول الله اجعل لنا منك يوما قال : نعم، فوَعَدَهنَّ يوم كذا وكذا في مكان كذا وكذا، فأتاهن ووعظهنّ وعلَّمهن مما علَّمه الله .

قيس بن محمد آل الشيخ مبارك