الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
فقدان العدالة بيئة خصبة للأفكار الشاذة والمتطرفة

الدكتور قيس بن محمد آل شيخ مبارك، أستاذ الفقه في جامعة الملك فيصل بالإحساء، عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، من كبار فقهاء العالم الإسلامي، وهو من أسرة علمية عريقة اشتهرت بالعلم الشرعي وتمتاز بوجود أعراف أخلاقية وعلمية لتبادل الثقافة الإسلامية بين أفراد الأسرة، حيث تظهر جلياً هذه الأعراف في مجلس الأسرة الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى ما قبل عام 1280 للهجرة النبوية الشريفة والذي يعقد يومياً بين صلاتي المغرب والعشاء في مجلس عميد الأسرة ليتم فيه قراءة وشرح الحديث النبوي الشريف.
التقينا الدكتور قيس أثناء زيارته للقاهرة مؤخراً وناقشناه في بعض القضايا التي تؤرق بال المسلمين.. وهذا نص الحوار:

كثر الحديث عن تطوير الخطاب الديني حتى يتلاءم مع مستجدات العصر.. فكيف نرتقي به لكي يحقق أهدافه في حماية المسلمين من موجات التطرف والتكفير؟ وما آليات تجديد الخطاب الديني؟

- واجبنا أن نعود بالناس إلى العهد الأول، ولعلَّ خير معين على ذلك تدريس السيرة النبويَّة، ففيها تتجلَّى أخلاق الصحابة الكرام وتابعيهم، لأن الناس تقرأ الحديث الشريف، وقد يفوتُها الفهم الصحيح له، لأنهم يقرؤونه بعيداً عن مناسبته، والفهم الخطأ لدين الله يوقع في الانحراف والضلال، وقد قال سفيان بن عيينة: (الحديث مَضلَّة، إلا للفقهاء) فالحديث قد يكون عامّاً في لفظه وقد يكون معناه خاصّاً، وقد يكون منسوخاً أو ناسخاً، والعلماءُ ميَّزوا الصحيح من الضعيف والناسخ من المنسوخ، وقد كان العلماءُ فيما مضى يُحذرون من الجهل في فهم الحديث، قال الإمام مالك رحمه الله لابْنَي أخته: (أراكما تحبان الحديث وتطلبانه، قالا: نعم، قال: إن أحببتما أن تنتفعا به وينفع الله بكما، فأقِلا من الحديث وتَفقها).. فالعلوم يكملُ بعضُها بعضاً، فلا يُغني علمٌ عن علم، ولذلك قال الإمام الشافعي: (من حفظ الفقه عَظُمت قيمته، ومن تعلَّم الحديث قويت حجته، ومن تعلم الشعر والعربية رَقَّ طبعه، ومن تعلم الحساب جزل رأيه، ومن لم يَصُن نفسَه لم ينفعْه علمه) فقراءة السيرة النبوية بعرض تصرفات رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ضمن سياقها ومناسبتها، من شأنها تهذيب الأخلاق، وترويض النفوس على الهدْي النبوي الشريف، وهذه أفضل وسيلة لو استغلها الناس لتمكنوا من الإمساك بأهداب الخطاب الديني الراشد.

وسط بين أمرين

الإسلام دين الوسطية.. فما الوسطية؟ وكيف يمكن نشرها في المجتمعات العربية والإسلامية؟

- تنتشر الوسطية بين الناس إذا علموا معناها، وأنه معنى حسن، ووقفوا على قُبْح نقيضها وهو الغلوّ، فالوسطية هي أن يكون الإنسان وسطاً بين أمرين، بين الإفراط والتفريط، لا أن يكون وسطاً بين الحق والباطل، فالوسطية نقيض الغلوِّ، وقد ذكر الله تعالى الغلو وهو تجاوز الحد، وحذر منه في قوله: (قُل يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) فالإفراط سيئة وكذلك التفريط سيئة، وإنما كان تجاوز الحد بالمبالغة سيئة لأنه مظنة الالتباس، فالكثير من الناس يظنون أن المبالغة في الخير خير، فربَّما غَلَوْا في المدح إلى أنْ بلغوا في المحبوب مرتبة الألوهية، ويظن الناس كذلك أن تجاوز الحدِّ في الذَّم خير، فربما غَلَوْا في الذم إلى حد التكفير! وواقع المسلمين اليوم لا يخلو من الغلو، فكثير من الناس يعيشون هذا الغلو، مدحاً وتقديساً، أو ذماً وتقبيحاً، ثم إن الوسطية من حيث العموم معنى عام، فكل إنسان يرى أنه وسط بين الناس، وكل مفكرٍ يرى نفسه وسطياً، وهذا نظر الإنسان في خاصة نفسه، غير أن الناس أدق حُكماً عليك من حكمك على نفسك، فإذا حَكَموا على أحد أنه وسطي فحكمهم أقرب إلى الصواب مِن حُكْم الإنسان على نفسه، والإسلام في عقائده وأحكامه وأخلاقه وسط بين الإفراط والتفريط، فهو يحقق للإنسان ما يصبو إليه، من غير أن يعود ذلك بالضرر عليه ولا على المجتمع.

مواجهة الفكر المتطرف

الفكر المتطرف ينهش في بلادنا العربية في السنوات الأخيرة.. فما السبيل لمواجهته والقضاء عليه؟

- أول ما يواجَهُ به الانحراف والتطرّف إفراطاً كان أو تفريطاً، هو توفير العدل، لأن فقدان العدالة يُعد بيئة خصبة للأفكار الشاذة، فإذا وُجد في هذه البيئة شبابٌ قل علمهم بالشريعة، فما أيسر ما يتلاعب بهم صاحبُ أي فكرةٍ، فاختطاف هؤلاء الشباب سهل وميسور، ذلك أنهم أوعيةٌ فارغة، تَقبلُ ما تُملأ به، ثم يظنون أنهم أعرفُ الناس بالإيمان، وأنهم أشد الناس تمسّكاً بالقرآن، وقد حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اتخاذ الجهّال رؤساء، فقال عما سيحصل آخر الزمان: (اتَّخذ الناس رؤوساً جهَّالاً، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلوا) والداء إذا عُرف وعُرفت أسبابُه، صار علاجه ممكناً.

الإسلام والانتخابات

كيف ترد على الغرب الذي يدعي أن الديمقراطية لا تتفق مع مبادئ الشريعة الإسلامية؟

- الديمقراطية مصطلح حديث، والحكم عليه لا يصحّ من غير معرفة به، فقد علمنا علماؤنا أن الكلام عن الشيء فرع عن تصوّره، وقد اقتضت شريعة الله أن تُبْنَى السياسةُ الشرعية على قواعد عامة، وقد بسط العلماء الكلام فيها، وبيَّنوا أن كثيراً من صورها في دائرة المباح، ومن ذلك أنهم صححوا بعض صور الانتخاب، ولم يُلزموا الناس بصورةٍ منها، فمقصود الشارع ألا تكون مخالفة لقواعد الشرع، فذكروا عدة طرقٍ للانتخاب، كلّها مباحة، ولا حرج في اختيار واحدةٍ منها، فذكروا طريقة انتخاب سيدنا أبي بكر الصديق، بأن يجتمع أهل الحل والعقد، حيث اجتمع كبار المهاجرين والأنصار، ومالوا إلى اختيار الصديق، وهو يمتنع ويأبَى، وحين طال إلحاحهم عليه، وتكرر امتناعُه، قال له عمر ابسط يدك وبايعه، ففرح الصحابة وتزاحموا عليه فبايَعوه، وكان موقفاً عصيباً، واختياراً بإجماع الناس، وذكروا طريقة اختيار عمر، وهو أن أهل الحل والعقد طلبوا من الصديق أن يختار لهم خليفة، فأبى، فألحّوا عليه، فاختار عمر، فوافق الناس عليه وبايعوه طواعية ، وذكروا طريقة عمر، وهو أن أهل الحل والعقد طلبوا منه أن يختار لهم خليفة، فأبى، فألحّوا عليه، فاقترح طريقة ثالثة، هي أن يتولى الاختيار مجلس مكون من ستة أشخاص، فقال: (إنْ أستَخْلِف فقد اسْتخْلَفَ مَن هو خيرٌ مني، وإنْ أترُك فقد ترَك مَن هو خيرٌ مني، إنَّ الأمر أمرُكم، أنتم شهود الأمَّة وأهلُ الشورى، فمَن رَضِيتم به فقد رَضوا به، هل تعلمون أحداً أحقَّ بهذا الأمر من هؤلاء الستة النفر الذين مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض؟ قالوا: لا، قال: فإني أرى أنْ نجعل ذلك لهم، فيؤمِّروا أحدَهم قالوا: فقد رأَيْنَا ذلك وجعلناه إليهم).
ولذلك فعليك أن تعدل السؤال، فما كان من قوانين الشرق والغرب موافقٌ لشريعة العدل والحقّ- وهي شريعة الإسلام- قَبلناه وما خرج عن عدل الإسلام نرفضه ونأباه، فإذا وُضعتْ طريقة لا تُفضي إلى ظلم، ولا إلى حَصر الانتخابات في حزبين ظالمين مثلاً، ولا تُفضي إلى تحكّم الأغنياء في مصالح الفقراء، أو غير ذلك من المظالم، فإن شريعة الله لا تأباها، فالحكمة تُؤخذ من العقلاء والحكماء وأهل الرأي والخبرة، بل ولو لم تكن من حكيم، فقد قال ابن عباس رضي الله عنه: (خذوا الحكمة ممن سمعتموها؛ فإنه قد يقول الحكمة غير الحكيم، وتكون الرمية من غير رام).

تلاسن محرم

انتشر الباحثون عن الشهرة على ساحات الفضائيات وصوبوا سهامهم تجاه علمائنا الأوائل من السلف الصالح.. كيف ترد على إساءاتهم ونقضي على مثل هذه المهاترات حتى لا تتكرر مرة أخرى؟

- لا يعيبُ غيرَه إلا الجاهل، أما العاقل الذي اهتدَى بهدْي الأنبياء فليست له عداوة مع الأشخاص، وإنما دينُ الله دينٌ يحذِّر من الأفكار الشاذَّة والباطلة، فقد عُلم بالاستقراء في أحكام الشريعة الإسلامية أنها تدور حول رعاية مصالح الناس، كما قال سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إذا سمعتَ الله عز وجل يقول: «يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» فأصْغِ إليها سَمْعَك، فإنَّه خيرٌ توصَى به، أو شَرّ تُصرفُ عنه) فعلى العلماء أن يوجِّهوا الناس إلى الحوار العلمي الهادف، وأن يحذِّروهم من نقل الحوار إلى انتقاص وتحقير، وأن هذا التلاسُن محرم شرعاً، فضلاً عن أنه حجة الضعيف، فإن الضعيف إذا فقد الحجَّة استعان بالتهجّم ورفْع الصوت، ثم إن هذا واجبٌ كذلك على الإعلام والصحافة، فعليهما تضييق دائرة التنابز.

كتب التراث

هل يمكن تنقية كتب التراث من الشوائب العالقة بها أم أن التحدث في هذا الموضوع خط أحمر لا يجب الاقتراب منه؟

- كتب التراث، ككتب الأدب والتاريخ مملوءة بالشوائب بلا ريب، ولذلك لا يُعتمد عليها في حكم شرعي، وأما كتب الفقه والأصول فهي علومٌ صحيحة منضبطة، والدعوة إلى تنقيتها كالدعوة إلى تنقية علم الرياضيات أو الفيزياء أو الطب أو أيِّ علم من الشوائب، فإن كان المقصود بالتنقية أن تحمي العلوم بمزيد من التجلية وربطها بالواقع، فالتنزيل على الواقع هو صنعةُ الفقيه، ويُسميه الفقهاء تنقيح المناط، أي ملاحظة الواقع، وأنْ تحمي العلوم من تدخل غير المتخصصين فيها، فهذا حسن وهو مطلوب الشارع الحكيم، وقد نصَّ العلماءُ على أن الجمود على المنقولات ضلالٌ في الدين، أما تحريف دين الله وهو دين الطهر والعفاف والعدل، فهذا لا يقبله مسلم، فليس في ديننا شيء يُستحى منه، فلا شوائب في ديننا.

المسؤولية الطبية

لكم مؤلف عن المسؤولية الطبية في الشريعة الإسلامية.. فما حدود هذه المسؤولية؟

- الطب في الإسلام مهنة شريفة، فأشرف العلوم ما كان متعلقاً بدين الناس واعتقاداتهم، ويليه ما كان متعلقاً بحفظ صحتهم، قال الإمام الشافعي (لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنْبل من الطب) وقد كان كثير من علماء الشريعة أطباء، ومنهم الإمام الشافعي وكان الإمام أبو عبد الله المازري - أول من شرح صحيح مسلم - يفتي في الطب كما كان يفتي في الفقه. قال العلامة ابن عقيل: «جُهال الأطباء هم الوباءُ في العالَم، وتسليم المرضى إلى الطبيعة أحب إلي من تسليمهم إلى جهال الأطباء»، وكما حذر الفقهاء من جهلة الأطباء، فإنهم نبهوا كذلك إلى أهمية ألا يتصدى للجراحة إلا من اشتهرت معرفته وأمانته، وجودة علمه بتشريح الأعضاء والعروق، وقد بسط الفقهاء القول في مسؤولية الأطباء وأخطائهم، وفرَّقوا في العقوبة بين صور الأخطاء الطبية، فذكروا الخطأ المحض، والتقصير والإهمال، والجهل بأصول المهنة، ومخالفة أصول المهنة، ومخالفة ما أذن فيه المريض، فجعلوا لكلِّ نوع عقوبة تتناسب مع خطره، ومن أدق ما بينوه أنهم جعلوا العلاقة بين الطبيب والمريض علاقة تعاقدية، فوضعوا لها ضوابط، ووضعوا منهجاً للتداعي بينهما.

ثبوت الأهلة

ثبوت الأهلة قضية تثار مع مطلع كل شهر هجري خاصة رمضان والعيدين.. فكيف يمكن توحيد الرؤى بين دول العالم الإسلامي؟

- الشهر في الشرع يبدأ من لحظة رؤية الهلال، وليس من لحظة المحاق، وهي لحظة محاذاة الشمس للقمر واقترانه بها، بحيث يصير القمر بينها وبين الأرض على خط مستقيم، وتسمى لحظة الاقتران، لأن وجهَ القمر المقابل لجهة الشمس يصير منيراً، لانعكاس أشعة الشمس عليه، ووجهه المقابل لجهة الأرض مظلماً، فيقال: انمحق الهلال، فهذه اللحظة تتم بدقة عالية، فتتم كل تسعة وعشرين يوماً واثنتي عشرة ساعة وأربعة وأربعين دقيقة وثانيتين وسبع وثمانين في المئة من الثانية، فهي دورة لا يختلف فيها شهر عن شهر، ولهذا كان الشهر مختلفاً، فأحياناً يُقدر بتسعة وعشرين يوماً، وأحياناً بثلاثين يوماً، بخلاف لحظة الرؤية، فإن الفلكيين متفقون على أنها غير منضبطة، لأسباب عديدة، منها وجود غيمٍ أو غبار أو شعاع أو بسبب بعد القمر عن مركز الأرض وارتفاعه فوق الأفق، وغيرها من العلامات التي يعرفها الفلكيون، فالشرع الشريف لا ينكر علم الفلك، وإنما لم يأخذ به هنا لأن معرفة لحظة إمكانية الرؤية مُحال بلا خلاف بين الفلكيين، ومن رحمة الله بعباده أنْ يسر الأمر علينا، فرخص في قبول عدلين يشهدان على رؤية الهلال، ومن شرط قبول شهادتهما أن يشهدا برؤيته في الزمن الذي يمكن أنْ يُرى فيه في موضعه عادة، ذلك أن من واجبات القاضي أنْ يتثبت من نظر الشاهد وحدة بصره ومن معرفته بمطالع القمر ودرجة ارتفاعه فوق الأفق وانحرافه في الأفق، فيُعتَبر في من يشهد في رؤية الهلال ما يُعتبر في سائر الشهادات.

http://www.alkhaleej.ae/supplements/page/933e4414-9317-47d0-ab59-4004fbd2e787