الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
ضوابط التفكير 1-2

قرأ سيدنا أبوبكر الصديق رضي الله عنه قولَه تعالى: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) ، فقيل له: ما الأبُّ؟ فقال: (إنَّ هذا له التكلُّف، أيُّ أرض تُقلُّني أو أيُّ سماءٍ تُظلُّني إذا قلتُ في كتاب الله بما لا أَعلم) والأبُّ يطلق على الكلأ، وعلى كلِّ ما نبت على الأرض، وعلى ما كان للبهائم كالفاكهة لبني آدم، فلم يكن الصِّدِّيقُ يجهل ذلك، غير أنه لم يَرْضَ أن يجزم بمراد الله تعالى بغير علم، وهذا من تمام العقل وكماله، وهكذا كان الصحابة الكرام لا يتكلَّمون بغير علم ويرون الكلام بغير علمٍ تكلُّفاً، قال سيدنا عبد الله بن مسعود: ( من كان عنده علم فلْيقل به ، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم، فإنَّ الله قال لنبيه: ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) فما لا يعمونه يجيبون عنه بلا أدري، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من فاته لا أدري أصيبت مقاتله) فالتخوُّف من التعجُّل في الفتْوى شأن العالم العاقل، ومن أجل هذا فإنَّك إنْ ألقيتَ سؤالاً في أحد المجالس، فإنَّك سترى أنَّ آخرَ مَن يجيبُ هو أعلمُ الحاضرين وأكملهم عقلاً، وربَّما كان أقلُّهم علماً أسرعهم في الإجابة، فيسهل عليه التَّهجُّم على الفتوى حَدْساً وتخميناً، والعرب تقول لمثل هذا: (لا تَهرف بما لا تعرف) فهذا الرأيُ هو الرأي المذموم، لأنه غير مستندٍ إلى علم، بخلاف الرأي الحسن، فهو ما كان مستنداً إلى علمٍ، وقد دلَّنا عليها كتاب ربِّنا وسنَّة نبيِّنا صلوات الله وسلامه عليه إلى أصولٍ هي قواعد وضوابط للنَّظر والاستدلال، استنبطها العلماء وسمَّوها “علم أصول الفقه” فالرأي الصحيح هو المستند إلى معرفة العلل والأشباه والنَّظائر، كما قال سيدنا عمر في كتابه إلى أبي موسى: (الفهمَ الفهمَ فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب والسنة، اعرف الأشباه والأمثال ثم قِس الأمور عند ذلك، فاعمدْ إلى أحبِّها إلى الله وأشبَهَها بالحق فيما ترى) وقد قايَسَ سيدُنا عليٌّ وابن عباس وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وهذا الرأي هو ما قاله معاذ بن جبل حين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال معاذٌ: أقضي بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال : فبسنة رسول الله ، قال : فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله ؟ قال : (أَجتهدُ رأيي ، ولا آلو) فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ، وقال : (الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لِـمَا يُرضِي رسول الله) وهذا الرأي هو الاجتهاد الذي قاله أبوبكر الصديق حين سُئلَ عن الكَلالة، أي عن الرَّجل يموت و ليس له ولدٌ يرثُه ولا والد: (أقول فيها برأيي فإن يك صوابا فمن الله ، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان) ومن عظيم فقه عليٍّ رضي الله عنه أنه حين سئل عن مسيرِه إلى صفِّي: هل كان بعهدٍ عَهِدَه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أم هو رأيٌ رآه؟، لمْ يدَّعِ أنَّه الحقَّ الذي لا شيء سواه، وإنما قال: (بل هو رأيٌ رأيتُه) وهذه غاية الأدب والتواضع والخوف من أنْ يقول على الله ما لا يعلم، وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، جاءه رجلٌ فسأله عن حكم مسألةٍ، فأمَرَه أن يذهب إلى عليِّ بن أبي طالب وزيد بن ثابت، فذهب إليهما فأفتياه، ثم رأى عمرُ الرَّجلَ صاحبَ المسألة، فسأله عن قضاء عليٍّ وزيد، فأخبره الرَّجلُ بما أفتياه به، فقال عمر: (لو كنتُ أنا لقضيتُ بكذا) فقال الرجل: فما يمنعك والأمر إليك؟ قال عمر: (لو كنت أردُّك إلى كتاب الله أو سُنَّة نبيه لفعلتُ، ولكني أردُّك إلى رأيٍ، والرأيُ مشترَك) فمن حكمة التشريع أنَّ الوقائع والحوادث تتنامَى وتجدُّ مع الأيام والليالي، أما النصوص فثابتةٌ لا تزيد، ومن أجل ذلك وضع العلماء أصولاً وضوابطاً للتفكير والاستدلال، بها يُجاب عن كلِّ حادثةٍ تقع، وبها ميَّزوا صحيح الرأي مِن فاسِدِه، وكانت هذه الأصول حاضرةً في أذهان الصحابة والتابعين في استدلالاتهم، وعمل بها الأئمَّةُ بعدهم، فتجدها جليَّةً في فقه الإمام أبي حنيفة، ونبَّه على مُعظمها الإمام مالكٌ رحمه الله في الموطَّأ، حتى جاء الإمام الشافعي فجمعها وأحسن صياغها في كتابه الرسالة، وتعاقب الأئمة على تفصيل القول فيها والتفريع عليها، فانتفعوا بتوفيق الله لهم بهذه الأصول، وللحديث بقية .