الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
أين ذهب المعتزلة؟


أكرم الله هذه الأمَّة حين دلَّها عبر النُّصوص إلى أصولٍ وقواعد للنظر والاستدلال، والشأن في هذه الأصول أنها تَهَبُ الذِّهن صفاء التفكير ووضوحه، فوضع المسلمون لكلِّ دعوَى سبيلاً للتحقُّق من صحَّتها، فالدعاوى المتعلِّقة بالأمور التجريبية، كالطبِّ والكيمياء، سبيل التحقُّق منها الملاحظةُ والتجربة، والدعاوى المتعلِّقة بالمجرَّدات كعلم الرياضيات وعلم النفس وكثيرٍ من علوم التربية، سبيلُ التَّحقُّقِ من صحَّتها القياس والدلالات، والدَّعاوَى المتعلِّقة بالقضايا التاريخية والغيبية، سبيل التحقُّق الخبر والصادق، وتفصيل القول في ذلك ليس مجال هذا المقال الموجز، من أجل ذلك لم يقع المسلمون فيما وقعتْ فيه الفرقُ التي شذَّتْ، حين لم تعتمد على أصولٍ تضبط مَسار التفكير، فتخطَّفَتْها السُّبل، وربَّما تأثَّرتْ بما عند الأمم الأخرى مِن فلسفاتٍ موهومة، فحين أنشأ المأمون بيت الحكمة، وترجم العلوم، انتفع بهذه الكتب قومٌ وتضرَّر بها آخرون، انتفع بها مَن اهتدَى بأصول النظر والاستدلال، فقبلوا ما فيها من علوم نافعة، واستغنوا عما فيها من أوهام، غير أن ما تُرجِمَ كان فتنةً على قلَّةٍ ممن لم يلتزموا بتلك الأصول التي يتنخَّل منها الرأيُ الصحيح، فقبلوا ما في كتب اليونان من أغاليط، ومن هؤلاء أفرادٌ كانوا قد اعتزلوا العلماءَ مِن قبل فسُمُّوا بالمعتزلة، وكان مبدأ أمرهم أنْ قالوا بنفْي الإيمان عن مرتكب المعصية الكبيرة، ولم يكن لآرائهم قَبول فكانوا قلَّةً لا يُؤْبَه لهم، حتى إذا كانت خلافة المأمون وكان أحدُهم وهو أحمد بن أبي دؤاد ممن يحضر مجلس المأمون، فأَعجَب المأمونَ بحُسْن مَنْطقه فقرَّبه إليه وجعله مستشاراً له، فكان مما أشار عليه أنْ يُلزم الناس بالقول بآراء المعتزلة، لأنها لم تَلْقَ قبولاً في المجتمع، فظنَّ أنَّ أيسر سبيلٍ لنشْرها هو فَرْضها بالقوَّة، فاستحسن المأمون هذه المشورة، فألزمَ الناس بالأخْذ برأيه، استناداً إلى أنَّه فكَّر نيابةً عنهم، ولو عقلَ المأمونُ ومستشارُه لَعلِما أنَّ الإسلام يفرضُ على المسلمين التَّجرُّد في البحث عن الحقيقة، ولذلك لم يكن بحثُ المسلمين عن الحقيقة استكشافاً للمعرفةِ حُبّاً في الاطلاع، بل كان دِيناً يَتديَّنون به، للسلامة مِن الوقوع في الظنون والأوهام، فالآيات القرآنية تحضُّ المسلمين حضَّاً على ألا يقبلوا دعوَى من غير حجَّة ولا برهان، فمن ذلك قوله تعالى: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) وقوله: ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) فهذه الآيات الكريمات هي التي دفعتْ المسلمين لاستخراج منهج علميٍّ دقيق، قِوامُه أنْ لا تَعارضَ بين النَّقل الصحيح والعقل الصريح، ومن أجل لذلك لا تجد أحداً من علماء المسلمين يتخوَّف من نتائج البحث العلمي، فليس لديه خوفٌ من بيان جميع الحقائق، وهذا معنى ما قاله تلميذُ الإمام مالكٍ عبدُ الرحمن بن مهدي: (أهلُ العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهلُ الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم) لأنهم على يقين أنَّ الإسلام ليس فيه ما يُصادم العقول ولا ما ينافر الفطرة، فليس فيه شيءٌ يُستَحْيَى منه، فاعْجَبْ لبعض المعاصرين حين يتوهَّمون أن المعتزلةَ رُعاةٌ لتحرير العقل، وهم يعلمون أنهم فرضوا آراءَهم على الغير بقوَّة السلطان، وهكذا مكث الناسُ في محنةٍ لسنوات طوال، يُحْرَمون من إعْمال عقولهم، وامتُحن الإمام أحمدُ رحمه الله في ذلك امتحاناً عظيماً، فإما أنْ يُلغي عقله ويقول بأنَّ القرآن حادثٌ مخلوقٌ وإمَّا أن يُسجن، فرفض أن يقول برأْي المأمون فسجَنَه، ومَنعه الواثق من التدريس لألا يسمع الناسُ كلامَه! إلى أن جاء المتوكل فترك الناسَ أحراراً، فما هي إلا سنواتٍ معدودة وإذا بآراء المعتزلة تتهاوَى وتنحسر، بعد أنْ رُفِعَ السيفُ الذي يحميها، وما كانت لتنحسر لو كانت تستند إلى نقلٍ صريح أو إلى عقلٍ صحيح، واليوم صارتْ آراء المعتزلة تاريخاً يُحكى، فلا نجدها إلا في كتب الفِرَق المندثرة، وبيان ذلك أن المتوكِّل ومَن جاء بعده لم يفرضوا على الناس رأياً، فكان الحوار في المحافل والمساجد هو السائد، وكانت المساجد تَعِجُّ بالحِلَق العلميَّة في جميع الفنون، وهذا الجو العلمي المعرفي الحرُّ هو الضامن لبقاء الحق وزوال الباطل، فإنَّ الأفكار الشَّاذَّة لا تَقْوى على الظهور في العَلَن، لضَعْف حُججها، فأنسب مكانٍ تعيش فيه وتنمو هو الزوايا الخفيَّة التي لا يدخلها الهواء، وهذا الشأن في جميع الفِرق والجماعات الشَّاذَّة، لا َتنبت بعامل حوار، إنما تُستَنبتُ في حال التَّخفِّي والانعزال، وأيسر سبيل لإماتتها هو إدخال الهواء النَّقيِّ عليها، فلا تقوَى على الصمود أمام البحث العلمي، فكلُّ رأيٍ شاذٍّ إذا انكشف زَيْفُه نَبَذَهُ الناس .