الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
الاجتهاد بلا أهليَّةٍ بلاء

لقد أكرم الله عبادَه حين هداهم إلى أصولٍ وقواعد للنظر والاستدلال، تَحفظ على الذِّهن صفاءَ التفكير ووضوح النَّظر،من أجل ذلك لم يقع المسلمون فيما وقعتْ فيه الجماعات والفرقُ التي شذَّتْ عن مَهْيع الطريق، حين لم تعتمد أصولاً تضبط لها مَساراً صحيحاً للاستدلال والاجتهاد، فتخطَّفَتْها السُّبل،فالجماعات التي ليس لها طريق واضحة المعالم تهتدي بها، ولا ضوابط تأْطُرُها على الصواب، وتَحُوْلُ دون اختلافها، مظنَّة الانقسام والتَّشظِّي، فالكلام بغير أصولٍ لا يُسمَّى فكراً ولا علماً ولا فقهاً، وإنما هو كلامٌ مجرَّد، يوافقُك عليه زيدٌ ويخالفك عمرو، فلا يحكم بين المختلفَين إلا القوَّةُ والغَلَبَة، وقد سجَّل لنا التاريخ أحداثاً حصلتْ من طائفةٍ تُسمَّى الخوارج، كانوا أغراراً، قليلوا العلم، استهْوَتْهم الألفاظ البرَّاقة، لأنَّها متوافقةٌ مع نزواتهم النفسانيَّة بل وتغذِّيها، فقد كانوا يتَّقِدون نشاطاً وحماساً، والكثير منهم شبابٌ أقوياء وفرسانٌ شجعان، وقد ذكر علماء العقيدة من شعاراتهم البرَّاقة قولهم “لا حكم إلا لله”وشعار “البراءةُ من الظُّلم والظالمين”واستهواهم أنْ يُسمُّوْا أنفسهم “الشُّرَاةُ”لأنهم يزعمون أَنَّهم شَرَوْا أنفسهم من الله بالجهاد، وفارَقوا أئمَّةَ الظُّلم والـضلال،فكانت هذه الشعارات أداةً استباحوا بها دماء المسلمين وغير المسلمين، وقد قال عنهم سيِّدُنا عبد الله بن عمر: (إنهم انطلَقواإلى آيات في الكفار فجعلوها في المؤمنين) وقد وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بأنهم (أحداثُ الأسنان، سُفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البَرَيَّة، يقرؤون القرآن لا يُجاوز حناجرهم) وذكر العلماء أنه رغم ما هم عليه مِن ضيقٍ في الصُّدور ومدافعةٍ للحقِّ، فإنَّ لديهم عشقٌ شديدٌ لِلمُماراةِ والجدل، وفيهم سَفهٌ وطيشٌ وخفَّةٌ في العقول، فلا غرضَ للواحد منهم سوى تقبيح رأي الغير والتَّنقُّص منه، ولذلك تجدهم يُحكمون على الغير بالكفربأدنى الأسباب، من غير تثبُّتٍ من كلامه، وأيسرُ شيءٍ عليهم سفك الدماء، من غير تلمُّسٍ لما يدلُّهم على أنَّه معصومُ الدَّم، فضلاً عن أنْ يتحرَّوا علامات الإيمان في كلامه أو أفعاله، ولا يَقبلون من أحدٍ أنْيدفع التُّهمة عن نفسه،وإنما شأْنهم تتبُّع علامات الكفر في غيرهم، ليستبيحوا تفسيقه وتضليله وتكفيره، ومن أوصافهم المشهورة شدَّةُ تعصُّبهم لآرائهم، فتجدهم لا يُسلِّمون لمن خالفهم ولا يقتنعون برأْيٍمهما قَوِيَ دليلُه واتَّضحتْ حجَّتُه،ومن عجيب أمرهم أنَّهم ربَّما أدَّاهم حرصهم على الانتصار لآرائهم إلى استباحة الكذب، وكانوا يرون أنهم أهلٌ للاجتهاد من غير تأهُّلٍ لذلك، فتجد الواحدَ منهم يستنبط الأحكام من الكتاب والسُّنّة من غير أنْ تكون له مرجعيَّةٌ مِن أصولٍ يستند إليها في الاستنباط، وهذه غايةُ الجهالة،فمن دلائل السَّذاجة فيهم أن مجموعةً منهمأمسكتْ رجلاً مسلماً وآخرَ نصرانياً، فقتلوا المسلم،وأعطَوا النَّصرانيَّ الأمان، وهم يقولون: (احفظوا ذمَّةَ نبيِّكم) استناداً إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أوصَى بأهل الذِّمَّة خيرا، وكأنَّه لم يُوْصِ عليه الصلاة والسلام بالمسلمين خيراً! فمن أجل فَقْدِهم للأصول اضطرَبتْ آراؤهم وكثُرَ تناقضهم،وأجْلى صور هذا التناقض أنهم طلبوا منسيِّدِنا عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه أن يُحكِّم حكمين بينه وبين سيِّدِنا معاوية رضي الله عنه، فحين أخذ بقولهم ووافق على التحكيم رجعوا عن ذلك، بلوأنكروا عليه التحكيم وقالوا له: (شككتَ في أمْرك، وخلعتَ نفسك من الخلافة)ثم رفعوا شعار:“لا حكم إلا لله”فكان يعلِّق على هذا الشعار بقوله: (كلمةُ حقٍّ يُرادُ بها باطل) ومن أجل أنهم اتَّخذوا زعماءهم مرجعيَّاتٍ لهم، فقد تشعَّبوا إلى فِرقٍ وجماعات بعدد مرجعياتهم، فمنهم جماعةٌ يقال لها “الأزارقة”سمِّيَتْ بذلك لأن زعيمهانافع بن الأزرق، وجماعة يقال لها “الصُّفْريَّة”زعيمها زياد بن الأصفر، وجماعة يقال لها “النَّجَدات”زعيمها نَـجْدةُ بن عامر الحنفي، وفرقةٌ يقال له “العَجارِدَة”زعيمهاعبد الكريم بن عَجْرد، ثم انقسمتْ الصُّفريَّة إلى جماعتين، وانقسمت النَّجَدات إلى ثلاث فرق، وانقسمت العجاردة إلى فرقٍ كثيرة، وكلُّ فرقةٍ منهم يصدر منها العجب العجاب من الحكايات، فمنها أنَّ بعضَهمرأَوا عبدَ الله بن خبَّاب بن الأرَتِّ رضي الله عنهمافأشاروا إلى مصحفٍ يحمله معه وقالوا له: (إنَّ هذا الذي تحمله لَيأْمُرنا أنْ نقتلك) ثم قتلوه ذبْحاً،ومن عجيب أمرهم في تناقضاتهم أنَّ أحدهم رأى رُطَبةً فوضعها في فيهِ ليأكلها، فصاحوا به منكرين عليه أنْ يأكل مالاً قد يكون حراما! فلفظها تورُّعاً، وما درَى المسكين أن الورع في الكفِّ عن الدِّماء أعظم منه في الأموال، أسأل الله أن يحفظنا ويحفظ أبناءنا من هذه الفتن التي تجعل الحليم حيرانا .