الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
الفاقات بُسُطُ المواهب

عجيب أمر ابن آدم، فبينما تراه يمشي قويَّاً لا بأس عليه، وإذا بمرضٍ يباغتُه فجأة من غير إعلامٍ ولا ترقُّب، فينتقل من حال نشاطٍ وقوة إلى حال ضعف ومسكنة، وقد يكون في حالِ غنى ونعمة، فإذا بمصيبة تنزل بمالِه، فيصير إلى حالِ فقرٍ ومَسكنةٍ، بعد أن كان في حال يُسْرٍ وتَرَف، فكلَّ هذه أقدارٌ كتبها الله عليك، فهي غيوبٌ اقتضت حكمةُ الله أنْ يخفيها عن عباده، فلا يعلمون بها إلا حين وقوعها، ثم إنه سبحانه قد كلَّفهم بجملةٍ من الأوامر والنواهي، هي تكليفٌ في الظاهر، غير أنها إكرامٌ وتشريفٌ في الحقيقة ونفس الأمر، فلم يأمرنا الله إلا بما فيه مصلحةٌ لنا، ولم يَنهنا إلا عن ما فيه مضرَّةٌعلينا، وإلى هذا أشار سيِّدُنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوله: (إذا سمعتَ اللهَ عز وجل يقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ"فأصْغِ إليها سَمْعَك، فإنَّه خيرٌ تُوصَى به، أو شَرٌّ تُصرفُ عنه) ومن عظيم رحمة الله وفضله على عباده أنه كما أمرهم بهذه التكاليف، فجعل تأديتهم لها سبيلا إلى مرضاته، فهي أعمال بدنية يقدِّمونها بين يديهم رجاء تحصيل تجارةٍ لن تبور، فإنه سبحانه قد واجههم بما يوجب لهم مِن الثواب أضعاف ما يرجونه من أدائهم لتلك الأعمال البدنية، يواجههم بها ليتعرَّفوا على ضعفهم وعجزهم وافتقارهم إليه، فأورد عليهم ما ينبههم إلى أنهم لا يملكون لأنفسهم ضَرًّا ولا نفعا ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشورا، وبهذا صار ما يواجهه العبدُ من بلاءٍ خيرا له، وهذا مما لا يعرفه إلا من فتح الله بصيرته،لأنه يعلم أن الله يختار لعباده ما يشاء، ويفعل بهم ما يريد، فلا يبسط لك الرزق إنْ كان الغِنَى يُطغيك، ولا يَبتليك بالفقر إنْ كان الفقرُ أَضَرُّ بك، فيواجهك من هذا وذاك بقدر ما يكون أصلح لك، كما قال سبحانه: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)وأين مرادات البشر لأنفسهم من مراد الله لهم، فأهواؤهم مختلفة ورغباتهم متنوعة، فاختيارهم لأنفسهم وصفُ نقصٍ وقصورٍ، ونهايته بلاء، لأنه موضع اختلاف وفتنة كما قال سبحانه: (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) وإنك إذا تأملتَ في الناس، فإنه ستجد منهم مَن يَأْلَمُ لِـمَا قد يَفوتُهُ مِن الأعمال البدنية، التي يمكنه أن يؤديها في حالِ الفراغ والصحة والغنى، فتجد هذا قد حالَ الفقرُ بينه وبين تأديته للصدقات والتبرعات، وذاك فوَّتالمرضُ عليه القيامَ والصيامَ، والآخرُ شُغل عن نَفْعِ الخلق، إما برعاية ولدٍ مريض، أو بخدمة والديه الكبيرين، ولو تأمَّل الواحد منهم لعلم أنَّ كلَّ ما يواجهه الُله به إنما هو مواهب تعريفية، فكان مقتضَى الأدب مع الله عدم منازعته في تقديره، فالعارفونمهما واجهتهم أقدارُ الله بما يؤلم النفس من أوجاع أو أمراض أوشدائد،أو بما تكرهه النفس ويَثقلُ عليها كالابتلاء بإذاية الخلق أو الفقر، فمقتضى العبودية عليه لله أنْ يقابلوا ذلك بالتسليم والرضا، فلا تَرِدُ عليهم الأكْدارُ، كما قيل: (لا تهتدي نُوَبُ الزمان إليهِمُ *** ولهم على الـخَطْبِ الشديد لِـجامُ) وبهذا يدرك العبدُ أنَّ ثوابَ تسليمه ورضاه أضعافُ ثواب ما قام به من الأعمال البدنية، فما الأعمال البدنية إلا وسيلة للأعمال القلبية،ألا يكفي أن تعلم أن فرقاً كبيراً بين ما تقدمه بين يدي الله من طاعات بدنية مدخولة ومعلولة، وبين ما هو مهديه إليك مما أورده عليك من بُسُط المواهب، فأورد عليك الفقر لتشهد غناه فتقول يا غني، وأورد عليك الذل لتشهد ذلتك فتقول يا عزيز، وأورد عليك العجز لتشهد قوته فتقول يا قوي، فما أورده عليك بساطُ كمالٍ لا نقص فيه، وما أهديت إليه أعمالٌ منقوصةٌ لا كمال فيها، كما قال: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ ۗ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)ولقد مرض أحد الصالحين يوماً، فلما شفاه الله تعالى قال:(مَثَّلتُ في نفسي ما دبَّرَ اللُه تعالى لي مِن هذه العلَّة في مقدار هذه المدَّة، وبين عبادة الثَّقلين في قَدْر أيام علَّتي، فقلت: لو خُيِّرْتُ بين هذه العلَّة وبين أن تكون لي عبادةُ الثقلين في مقدار مدَّتها، إلى أيِّهما يميل اختياري؟ فتيقَّنْتُ أن مختارَ اللهِ تعالى أكثرُ شَرَفا وأنفعُ عاقبةً، فشتَّان بين فعْلِه بك لتنجو به، وبين فعلك لتنجو به) واعلم أيها القارئ الحصيف أنَّ البلاء إنْ أورثجزعاً وقلَّة صبرٍ، صار البلاءُ عقوبة، وإن أدَّى إلى الصبر، صار البلاء تكفيراًللسَّيِّئات، وإن أدَّى إلى الرضا والطمأنينة، صار البلاءرفع درجات، فاختر لنفسك .