الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
النَّصيحة بِرٌّ لا فتنة

النصيحة وصفٌ جميلٌ وجليل، فهو جبلَّةٌ بشريَّة، فقد جبل اللهُ الناسَ على حبِّ التناصح، وجعلَه من البِرِّ الذي يزيد التوادَّ والتآلف بين البشر، غير أن الناس لو تركوا وشأنهم فقد ينصحون بلا حكمة، فتصير النَّصيحةُ هجوماً على المنصوح، وكثيراً ما أدَّتْ إلى التَّباغض والمعاداة، ومن أجل هذا حاطتْ الشريعةُ النصيحةَ بآدابٍ تَـحُول دون انقلاب النَّصيحة إلى فضيحة، ودون انقلاب المودَّة إلى معاداة، وحيث كانت هذه الآداب ثقيلةً على نفس الناصح سمِّيَتْ النصيحةُ “حُسبةً”وسُمِّيَ الناصح “محتسباً”فإن لم يلتزم بهذه الآداب صار احتسابُهُ فتنةً للناس، وأهمُّ هذه الآداب العلم والبصيرة التي هي سبيل الأنبياء، قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) ولا يشترط أن يكون الناصحُ ضليعاً في الفقه، بل يكفي أنْ يكون فقيهاً فيما يأمر به وفيما ينهى عنه،لألا يفضي به الجهلُ أن يكون ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قوم يهدون بغير هديي، ويستنّون بغير سنّتي) فضلا عن أنَّ الأمر بالمعروف يجب أن يكون بمعروفٍ من القول، والنهي عن المنكر يجب أن يكون كذلك بمعروفٍ من القول، قال العلماء: فُحْش القول ممجوجٌ في الأسماع، ومن أدب المحتسب أن يكون النُّصحُ مضمَّخاً بالمحبَّة للخلق والشَّفقة عليهم، فإنْ قسا المحتسب فقسوةَ الوالد على ولده، لا ضغن فيها ولا حقد، ومن أدب المحتسب حُسن الخلق، لألا يفضي به الغضبُ إلى الانتصار لحظِّ نفسه وهواها، فقد يحمله عدم امتثال المنصوح لأمره على الغضب، فكم من محتسبٍ عَزَّ عليه ألا يُسمَع قوْلُه، وهاجت نفسه واندفع للثَّأر لها، ناسياً أو متناسياً أنه داعيةٌ إلى الله، فإذا به يعجز عن قمع هواه، وكأنه لم يسمع قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) وأين هذا مما جاء عن عبد الله بن محمد بن عائشة رحمه الله، ذلك أنه خرج في ليلة يريد منزله، وإذا به يرى في طريقه شابّاًسكراناً،قد قَبَضَ على امرأةٍ فجذبها، فاستغاثتْ، فاجتمع الناس عليه يضربونه، فقال ابنُ عائشة للناس: تَنحَّوْا عن ابن أخي، ثم قال: إليَّ يا ابن أخي، امْضِ معي، فمضى معه حتى صار إلى منزله فأدخله الدار،فحين أفاق الشابُّ مِن سُكْره، أعْلَمَهُ بما حصل مِنْه، فاستحيا الشابُّ مما صدر منه، فقال له ابنُ عائشة:(أما استحييت لنفسك؟ أما استحييت لشرفك؟ فاتق الله واترك ما أنت فيه) فبكى الغلام ثم رفع رأسه وقال: عاهدتُ اللَه تعالى عهداً يسألني عنه يوم القيامة أني لا أعود لشربشيء مما كنت فيه وأنا تائب،فقال له ابنُ عائشة: ادْنُ منِّي، فقبل رأسه وقال: أحسنتَ يا بُنَيَّ،ومن عجيب ما وقع للإمام الزاهد بشرٍ الحافي، أنَّ رجلا تعلَّق بامرأة وتعرض لها وبيده سكِّين، لا يدنو منه أحدٌخوفاً منه، وكان الرجلُ شديدَ البدن؛ فبينا الناس كذلك والمرأةُ تصيح في يده، إذْ مَرَّ بِشْرٌ الحافي، فدنا منه وحكَّ كتفه بكتف الرجل ثم مضَى وتركه، فضعف الرجل وخارَتْ قواه،فمضت المرأةُ لحالها، فدنا الناسُ من الرجل وسألوه: ما حالك؟ فقال: ما أدري! ولكن قال لي ذلك الشيخُ: (إن الله عز وجل ناظر إليك وإلى ما تعمل) فضعفتْ لقوله قَدَمايَ وهِبْتُه هيبةً شديدة، وقد روى الإمام أحمد في مسنده أنَّ شابا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! فأقبل الصحابةُ عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال عليه الصلاة والسلام: ادنه، فدنا الشابُّ منه صلى الله عليه وسلم، فقال له: أتحبُّه لأمِّك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبُّونه لأمَّهاتهم، قال: أفتحبُّه لابنتك؟ قال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبُّونه لبناتهم، قال: أفتحبُّه لأختك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبُّونه لأخواتهم، قال: أفتحبُّه لعمتك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبُّونه لعمَّاتهم، قال: فوضع يده عليه وقال: اللَّهمّ اغفر ذنبه وطهِّر قلبه، وحصِّنفرْجه، فخرج الشابُّ ولا شيء أبغض إلى نفسه من هذه الفاحشة، ولنا في الرَّحمة المهداة أسوة، فما أعظمه من دين يترفَّق بالناس للأخذ بأيديهم إلى ما فيه مصلحتهم .