الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
التَّعايشُ مِن سنن الله في الخلق

عاش المسلمون في المدينة المنورة، تحيط بهم قبائلُ العرب، بما هي عليه من عصبياتٍ مستحكِمةٍ واعتقاداتٍ خرافية راسخةٍ في عقولهم ، وعاداتٍ متأصلةٍ، وكان المسلمون يمثِّلون أمةً مستقلةٍ، ذاتَ سلوكٍ أخلاقيٍّ متميِّز، وخصوصيةٍ ثقافية مستقلة، وكانوا مع ذلك منفتحين على غيرهم من الأمم،الكتابية منها وغير الكتابية ، غيرَ منغلقين ولا متقوقعين على أنفسهم، وكان اليهود يسكنون بين أظهرهم في المدينةَ المنورة، واليهود أهلُ كتاب، فكانوا يقرؤون ويكتبون، فلديهم علمٌ وثقافة مقارنةً بالعرب،فكانوا يشعرون بالاستعلاءعلى سائر مَن يحيط بهم مِن العرب، فقد كان الرجلان من الأوس أوالخزرج إذا تنازعا في قضية، يحتكمان إلى الطبقة المثقَّفة وهي اليهود، وكانت لليهود كذلك غَلَبةٌ اقتصادية، وهي سلاح للهيمنة الفكرية، وكانوا يخالطون المسلمين في الطرقات والبساتين والأسواق والمنتديات، أخذا وعطاء وبيعا وشراء، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفِّي ودِرْعُهُ مرهونةٌ عند يهودي، كل ذلك لم يمنع المسلمين من التعايش معهم، ولم يُبِحْ للمسلمين أن ينقضُّوا على أموال اليهود بالسَّلب، ولا على أعراضهم بالثَّلْب، فقد كان الصحابة يدركون أنهم ليسوا نقمةً على أحدٍ، وأنهم رحمةٌ للناس، فلم تكن صدورهم مشحونةً بالحقد على الخلق، بل كانت تفيضُ شفقةً ورحمة للناس، كيف ورسولُهم عليه الصلاة والسلام رحمةٌ للعالَمين، فلا تجد عند المسلمين هِياجاً ولا تشنُّجاً تجاه غيرهم من اليهود ومشركي العرب الذين كادوا ويكيدون المكائد، بل كانوا يَصِلونهم، فقد أهدى سيدُنا عمر رضي الله عنه إلى أخٍ له كافرٍ حُلَّةً مِن حرير، بل إنَّ البرَّوالصِّلة بالوالدين المشركين واجبٌ، وهو وصيَّةُ الله: ( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ) وقال سبحانه: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا، وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) فحين سألتْ أسماءُ بنت أبي بكر رضي الله عنهما النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عن والدتها الكافرة:(أأصِلُهَا؟) قَالَ: (نعم) فلا غرابة أن نجد الصحابةَ الكرامَ لم يَـمْنعوا اليهودَ مِن البقاء على يهوديَّتهموأعرافهم وعوا ئدِهم الاجتماعية، بل كانت المدينةُالمنورةُ مفتوحةً لسائر المحيطين بها، فتراهم يدخلون المدينة بأموالهم ويعرضون سِلَعَهم للبيع ويستبدلونها بسِلَعٍ أخرى، ويعودون إلى بلادهم من غير نكير ولا اعتراض، وكانت الوفودُ تَفِدُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فيستقبلُهم ويُدْنيهم إليه، ويعطي كبيرَهم وسيِّدَهم حقَّه، فيُنزلُه المنزل اللائق به، وربما استقبلهم داخل المسجد، كما فعل مع وفد ثقيف، وهكذا كان شأنُ الخليةِ الأولى لأمِّتنا، حيث لم تشتعلْ جذوتُها ولم يَشتدَّ أُوارها خارج نفق التعايش، بل كانت الأفكارُ الشاذَّةُ تَعصف بها من كل صوب، بتيارات فكريةٍ جاهليةٍ مناقضةٍ لها، إن الذي هيأ لهذه الأمَّةِ الحفاظَ على استقلالها، أن لها كيانا مستقلا تتشخَّصُ فيه ذاتيَّتُها، ولها معالمُ واضحةٌ تنضبط بها حدودُها، فكانت هذه الضوابطُ والحدودُ المرسومةُ بمنزلة السياجِ الذي تتحصَّنُ فيه، وتتمثل هذه المعالم في عقيدةٍتَبني تصوراً صحيحا، وعاطفةٍ وجدانيةٍ تخدم ذلك التصور العقلي، وشريعةٍ ترسم مِنهاجاً حياتيّاًوَفْقَ فطرة الإنسان، فالعقيدة كانت واضحةً في الأذهان، ارتضاها المسلمون سلطانا يحكم تصوُّراتِهم، وهذا أمرٌ واضحٌ وجليٌّ باعتبار أنَّ مصدرَها خالقُ الإنسان والمكوَّناتِ التي تطوف من حوله، ولذلك تجد جميع مسائل العقيدة الإسلامية مما تقبله العقول الصحيحة، فهي خطابٌ لأُلي العقولِ، والنُّصوصُ الآمرةُ بالـتَّـدبُّـر والـتَّـفـكُّر والـنَّـظـر في آيات الله كثيرةٌ، أما العاطفة فهي أن يكون هوى القلبِِ انعكاسا لما يُـقَـرِّرُه نداءُ العقل، فتصير تصرُّفاتُ الإنسان موافقةً لما تدلُّ عليه الشريعة، لا لما تنزع إليه النفوسُ مما ينافرُ فطرتَها ويُضادُّ الطِّباع منالشَّهوات الفاسدةوالأهواء الشَّاذَّة، التي تورثُ التغيُّرَ والاضطراب والنُّفور، كما قال ابن الحسين:(وأسرعُ مفعولٍ فعلتَ تغـيُّـراً ***تكلُّفُ شيءٍ في طباعك ضدُّه) أما الشريعة فهي السِّـكَّةُ التي تهدي الناس لضبط تصرفاتهم الحياتيةِ، وأمورِهم المعاشية، وِفق مِنهاجٍ بيِّن ميسورِ التطبيق، تندفع بسببه أسبابُ الخصومات والمنازعاتِ بين الناس، وقد عُلم بالاستقراء أنَّ أحكام الشريعة الإسلامية دائرةٌ حول رعاية مصالح الناس، وهذه المصالحُ التي جاءت من أجلها الشرائع السماويةُ،تحصلبحفظ خمسةِ مقاصدَ ذكرها العلماء، أعلاها حفظُ الدين ويليه حفظُ النفس فالعقلِ فالنسلِ فالمال، إذا تبيَّن لنا ذلك أدركنا أنَّ فرارَنا من التعايشبالبقاء على هامش الدول والشعوب، أحطُّ مرتبة وأدنى درجةً من الذوبان في النظام العالمي، كيف والحال أننا نملك ما يعصمنا من الذَّوبان في المجتمعات الأخرى، فدينُنا يدفع المجتمعات الأخرى للأخذ به والانقياد له، لأننا نملك قيماً وأفكاراً صحيحةً وواضحةً ومنضبطةَ المعالم،فعلينا التنوُّرَ وتتبُّعَ الحكمةَ متى وُجدتْ ومن أيِّ مكان أقبلت، ومقارعةِ الفكرَ بالفكر، إن الثمرة المرجوَّة من التعايش لن تكون سيطرةَ النموذجِ الشَّاذِّ والمنحرف، وإنما ستكون بإذن الله انفتاحُ العالم واتصال بعضه ببعض، لينقادَ الناسُ لدين الله، فالدِّين الخالص هو الذييتوافق مع مقتضيات العلم، ويرفض الخرافةوالجهل، لأنه من عند الله، وهو سبحانه أدْرَى بما خلق:(أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) وهذه الثمرةُ هي عمارةُ الأرض التي مِن أَجْلها أنزل الُله الكتبَ وأرسلَ الرسلَ، وهي قوله سبحانه: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) .