الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
الطب علمٌ شريف


علم الطب علمٌ شريف، فهو كما عرَّفه داودُ الأنطاكي: (علمٌ بأحوال بدن الإنسان، يُحفظ به حاصلُ الصحة، ويُستردُّ زائلها) فثمرتُه هي حفظ صحة الإنسان، عن أن يصيبها أذى، ودَفْعُ المرض عنه في هذه الحياة بقدر الإمكان، فالصحَّةُ للإنسان ضرورةٌ في هذه الدُّنيا، وقد قال الإمام الشافعيُّ: (صنفان لا غنى بالناس عنهما، العلماء لأديانهم، والأطباء لأبدانهم) وله رحمه الله كلمة أخرى، في فضْل علم الطب وشرفه وهي قوله: (لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبلَ مِن الطِّبِّ) ومراده بالحلال والحرام علمُ الفقه، وإنما كان علم الفقه أشرف، لأنه يعنى بإصلاح أحوال الناس المعاشية، من بيع وشراء وغيرها، فضلا عن أنَّ به صلاحُ عبادات الناس، أما علم الطبِّ فيعني بإصلاح جسد المريض، وتظهر أهمية علم الطب وفضله لوروده في القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، ولتعلُّقه بحفظ المقصد الثاني من مقاصد الشريعة الإسلامية، وهو حفظُ النَّفس، فمن أجل حفظ الصحَّة أباح اللهُ الفطرَ للمريض، لعذر المرض، كما أباحه للمسافر لعذر مشقة السفر، بقوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وأذن للمريض كذلك بالتيمُّم بالعدول عن الماء إلى التراب، حِمْيَةً له عن أن يصيب جسده ما يؤذيه، فقال:(وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا) وأباح حلق الرأس للحاجِّ إن كان في رأسه أذى، واحتاج للحلق، فقال:(فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) وقد روى الإمام مالك في موطئه، أن رجلاً في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه جرح، فاحتقن الدَّمُ بسبب الجُرح، فطلب الرَّجلُ طبيبين ليستشيرهما في علاجه، فحين جاءا، رآهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فسألهما عن أيِّهما أدْرَى بهذا المرضِ، فقالا: أَوَ في الطبِّ خيرٌ يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنزل الدواءَ الذي أنزل الأدواء) فسؤالُه عليه الصلاة والسلام عن أطبِّهما تنبيهٌ إلى أنَّ الطِّبَّ معنى صحيح، وقد كان عليه الصلاة والسلام يتخيَّر أطايب الطعام، وكان يُستعذَب له الماء، وفكان يراعي صفات الأطعمة وفوائدها، فكان يحبُّ الزبد والتمر، ويحبُّ القِثَّاء بالرُّطب، فيَكسرُ حرارة الرُّطب ببرودة القِثَّاء، كلُّ هذا رعايةً للصحَّة وانتفاعاً بالطيِّبات، فالطبُّ من أشرف العلوم، قال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: (والطبُّ كالشرع، وُضع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام) وبيان ذلك أنَّ علوم الدَّنيا يتميز الممدوح منها من المذموم بارتباطه بالمصالح الدنيوية، فما كانت فيه مصلحةٌ دنيوية، فهو علم ممدوح ومحمود، وما كانت فيه مفسدة دنيوية فلا شك في أنه مذموم، وعلم الطب والحساب والفلك من العلوم الممدوحة، لارتباطها بمصالح دنيوية، وربما سَمَتْ منزلةُ الطبِّ على غيره من الحساب والفلك، لِتعلُّقه بحفظ نفس الإنسان وبدنه، بخلاف الحساب والهندسة وعلوم الإدارة والاقتصاد وغيرها، فأغلب ما يتعلق بها حفظ المال، وهو مقصدٌ أقلُّ مرتبةً مِن مقصد حفظ النفس، وإنما كان علمُ الطبِّ من فروض الكفايات مِن أجْل ما فيه مِن نفعٍ كبير للناس، وصيانةٍ لنفوسهم، وحفظٍ لها عن مشاق الأمراض وآلامها، قال الإمام الغزالي رحمه الله: (أما فرض الكفاية فهو علمٌ لا يُستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب، إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان) وعليه فإن الواجب على كل بلدة، أن تُعلّم مجموعة من أبنائها من يتحقق بهم الاكتفاء، وترتفع بوجودهم الحاجة إلى غيرهم من الأطباء، ولهذا فإن خلوَّ بلدة من بلاد المسلمين، مما تحتاج إليه من الأطباء، يجعلها آثمة عند الله تعالى، ويشترك في الإثم جميعُ أهلها، ما داموا قادرين على دَفْع هذا الإثم عنهم ولم يدفعوه،ثم إنَّ الإثم لا يرتفع عنهم بوجود عدد من الأطباء، وإنما يرتفع بوجود العدد المحتاج إليه من الأطباء، لأن العلَّة التي مِن أجلها كان الطب فرضَ كفايةٍ هي حاجة المجتمع إليه وعدم استغنائه عنه، فَحُكْم الإثم باقٍ ما بقيتْ العلةُ، فإذا زالت زال الحكم وهو وجوب تعلّم بعض أفراد هذه البلدة الطب، وقد ذكر جمْعٌ من الفقهاء أنَّ القيام بفرض الكفاية أعظم ثواباً مِن القيام بفرض العَين، لأنَّ مَن يقوم به يُسقط الإثم عن جميع المكلَّفين، والقارئ لكتب الفقه يجد كلاماً كثيراً عن خطورة الاعتداء على جسد الإنسان، فهذا الشيخ أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله يقول: (جُهَّالُ الأطباء هم الوباءُ في العالَم، وتسليمُ المرضى إلى الطبيعة أحبُّ إليَّ من تسليمهم إلى جُهَّال الأطباء) وهذا الفقيه أبو عبد الله ابن الـمُناصِف القرطبي يقول في كتابه “تنبيه الحكَّام” عن جهلة الأطباء: (فيجب على كلِّ حاكم تَفقُّدُ هؤلاء، وقَمْعُهم، ومَنْعُ مَن يتعاطى علمَ الطب أو نحوه من الجلوس للناس، حتى يَحضرَهُ مع مَن يُوْثَق به من الأطباء، ويختبروه بحضرته، ويَصِحُّ عنده أنه أهلٌ للجلوس في ذلك الشأن) وللحديث بقيَّة .