الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله ، وعلى آله ، وصحبه ، ومن والاه .
أما بعد …
فقد فَرَّق الشرعُ بين صلاة الحضر، وصلاة السفر قطعاً، ولم يَرِدْ نصٌّ لا في القرآن الكريم ولا في السنة المطهَّرة، في تحديد السفر الذي به يقع القصر قطعاً .
قال الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى في كتابه “القبس” : ( السفر له أوَّلٌ، وليس له آخر في إنتهائه ، ولكن له آخرٌ فيما يقع عليه اسم السفر من البروز عن المنـزل، فنحن نعلم قطعاً أن مَن برز عن الدور لبعض الأمور أنه لا يكون مسافراً لغةً ولا شرعاً، وأنَّ من مشى مسافراً ثلاثة أيام فإنه مسافر قطعاً ) .
ولذا فقد اتفق جماهير العلماء على أن للقصر مسافةً لا يجوز للمسلم القصرُ في أقلّ منها، وقد روى الإمام مالك في الموطأ: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها) قال ابن عبد البر في التمهيد تعليقا على هذا الحديث: (وفي هذا الحديث أيضا دليل على صحة ما ذهب إليه مالك والشافعي وأصحابهما في تقدير المسافة التي يجوز فيها للمسافر قصر الصلاة وتحديدها لأنهم قالوا: لا تقصر الصلاة في مسافة أقل من يوم وليلة، وقدَّروا ذلك بثمانية وأربعين ميلا وهي أربعة برد وهو قول ابن عباس وابن عمر والأصل في ذلك حديث أبي هريرة هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا واستدلوا من هذا الحديث بأن كل سفر يكون دون يوم وليلة فليس بسفرٍ حقيقةً، وأنَّ حكم من سافر حكم الحاضر لأن في هذا الحديث دليلا على إباحة السفر للمرأة فيما دون هذا المقدار مع غير ذي محرم فكان ذلك في حكم خروج المرأة في حوائجها إلى السوق وما قرب من المواضع المأمون عليها فيها في البادية والحاضرة، وأما اليوم والليلة فظعنٌ وانتفالٌ يكون فيه الانفراد وتعترض فيه الأحوال فكان في حكم الأسفار الطوال لأن كل ما زاد عن اليوم والليلة من المدة في نوع اليوم والليلة وفي حكمها والله أعلم) فمن مشى ثلاثة أيام فإنه يكون مسافرا قطعا، ومن مشى يوما وليلة فإنه مسافر كذلك،
ثم اختلف الجمهور في حدِّ المسافة اختلافاً كبيراً، وأقل ما قيل فيه يوم وليلة، وأكثره ما دام مسافرا عن بلده .
وفي صحيح البخاري: (كان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربع برد وهي ستة عشر فرسخا)
وهذه المسافة تقطع في يوم وليلة، وإنما كان مَن يقطعها مسافراً لحديث مالك في الموطأ : (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها) وروي ثلاثة أيام ، فسمَّى مسيرة يوم وليلة سفراً .
لكن اختلاف الرواية – رُوِيَ يوم وليلة ورُوِيَ ثلاثة أيام – هو الذي دعا الإمام مالكاً رضي الله عنه للتَّعويل على فِعْل عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – فإنه كان يقصر الصلاة إذا خرج إلى ريم وهي أربعة بُرُد، ففي الموطأ عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، أنه (ركب إلى ريم، فقصر الصلاة في مسيره ذلك) قال مالك: (وذلك نحو من أربعة برد)
وفيه عن سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر (ركب إلى ذات النُّصُب فقصر الصلاة في مسيره ذلك) قال مالك: (وبين ذات النصب والمدينة أربعة برد) .
وفي الموطأ عن نافع، أنه كان يسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر الصلاة.
وهو أيضاً قول ابن عباس رضي الله عنه ففي الموطأ أَنَّهُ بلغه أن عبد الله بن عباس كان «يقصر الصلاة في مثل ما بين مكة والطائف، وفي مثل ما بين مكة وعسفان، وفي مثل ما بين مكة وجدة» قال مالك: «وذلك أربعة برد، وذلك أحب ما تقصر إلي فيه الصلاة .
ومسافة أربعة برد تُقْطَع في يوم وليلة، وهو اختيار البخاري في صحيحه حيث جعل عنوان الباب (باب فِي كَمْ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَسَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا وَلَيْلَةً سَفَرًا) .
والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال والميل ألف وثمانمائة وثمان وأربعين مترا، فتكون مسافة القصر في حدود ثمانية وثمانين كيلومتر تقريبا .
ويَعضُد هذا ما رواه ابن أبي شيبة من طريق صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه قال (تقصر الصلاة في مسيرة يوم وليلة) ابن العربي: (فراعى مالك والشافعي وأصحابهما والليث والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث أحمد وإسحاق وغيرهما يوما تاما، وقول مالك يوما وليلة راجع إلى اليوم التام، لأنه لم يرد بقول: مسيرة يوم وليلة أن يسير النهار كله والليل كله، وإنما أراد أن يسير سيرا يبيت فيه بعيدا عن أهله ولا يمكنه الرجوع إليهم.) القاضي عياض: (ولأن مسيرة يوم وليلة أو مسيرة اليوم التام لا يمكن لخارج من منزله الرجوع إليه ويبيت ضرورة عنه فخرج عن القرار إلى السفر وهو قول ابن عمر وابن عباس، وقال الكوفيون: لا يقصر فى أقل من مسيرة ثلاثة أيام، وهو قول عثمان وابن مسعود وحذيفة، وقال الحسن وابن شهاب: يقصر فى مسيرة يومين، وحكاه الخطابى، وتأوله على مالك والشافعى وأحمد وإسحاق، وهذا قريب من القول الأول باليوم التام، وباليوم والليلة)
ويُلاحَظ أنه لا يُشترَط في صحَّة ابتداء القصر قَطْع مسافة ثمانين كيلومتر، فإنَّ ابتداء القصر يكون من مفارقة البلدة، ولو كيلو مترا واحداً، قال ابن عمر رضي الله عنهما: ( لو خرجت ميلاً قصرت الصلاة ) فهو إشارةٌ إلى ابتداء القصر، فلا خلاف أنَّ الميل لا يكون سفراً قطعاً، وإنما المقصودُ ابتداء السفر، وهو رواه ابن أبي شيبة عن محارب قال سمعت ابن عمر – رضي الله عنهما – يقول: (لأسافر الساعة من النهار فأقصر) .
أما أن يَفهم أحدٌ مِن كلام ابن عمر أنَّ مسافة كيلومترٍ واحد يُعدُّ سفراً، فهذا من شواذِّ ابن حزم، وليس هو ممن يُعتدُّ بشذوذه، قال الحافظ أبو بكر بن العربي:( تلاعب قومٌ بالدِّين؛ فقالوا: إنَّ من خرج من البلد إلى ظاهره قصر الصلاة وأكل، وقائل هذا أعجميٌّ لا يعرف السفر عند العرب، أو مستخف بالدين؛ ولولا أن العلماء ذكروه ما رضيت أن ألمحه بمؤخر عيني، ولا أنْ أفكِّر فيه بفضول قلبي)
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وكتبه
قيس بن محمد آل الشيخ مبارك
23/8/1438هـ