الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
الصيام في البلاد التي ‏يكون النهارُ فيها طويلا ‏كالدول الإسكندنافية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين،،، وبعد
فقد فرضَ اللهُ تعالى الصيام على كلِّ مقيمٍ قادرٍ صحيحِ البدَن: ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ورَّخص فيه للمريض والمسافر فقال: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فوَجَبَ على كلِّ مَن حضر الشهر، وكان قادراً على الصيام أنْ يصومه، لا فرْقَ في ذلك بين من يعيش في البلاد التي تقع على خط الاستواء وبين من يعيش في البلاد القطبية .
ثم إنْ لَـحِقَ المرءَ تعبٌ بسبب الصيام، فإنَّ التَّعب نوعان، تعبٌ معتاد، وتعبٌ شديدٌ يُخاف أنْ يُفضي إلى أذَى شديد أو الهلاك، وتفصيل القول فيهما فيما يلي:
النوع الأول وهو التَّعب المعتاد:
كلام الفقهاءِ صريحٌ في أن ما اعتِيدَ من المشاقِّ، لا تُبيح الفطر، وهذا من الأمر الـمُجْمع عليه، لا أعلم خلافا بين الفقهاء فيه، لأن الله كلَّفنا بالصيام، بما فيه مِن مشقَّةٍ وتعب على النفس غالباً، فهي مشقَّةٌ لا تنفكُّ عن الصوم عادةً، كما لا تنفكُّ مشقَّةُ الوضوء والغُسل في اليوم البارد، ولذلك فالأصلُ في صحيح البدن أنه لا يجوز له أن يُبَيِّتَ الفطرَ من الليل، وليس له كذلك إنْ شرع في الصيام، أنْ يُفطر بسبب هذا النوع من التَّعب، وليس له أنْ يَزعم أنَّه قد يَـمرض بسبب هذا التَّعب، فنزولُ المرض بسبب التَّعب المعتاد، وإنْ كان مُـمْكِناً، غير أنه نادرٌ، فلعلَّه لا يَمرض ولا يتضرَّر، وهذا هو الغالب، وأداءُ عبادةِ الصيام آكدُ مِن تفويتِها درءاً لخفيف التَّعب، وهذا الأمر يجري على مَن يعيش في أيِّ بلاد، بما فيها البلاد القريبة من القطب الشمالي والجنوبي، والتي يكون النهارُ فيها طويلاً جداً، فمَن يُقيمون فيها، يجدون في الصيام مشقَّةً أكبر ممَّا يَجدُ غيرُهم، فَلْيعلموا أنَّ شَرَفَ فريضة الصيام أهمُّ عليهم وآكَدُ مِن أنْ يُفطروا بدعْوَى حصول التَّعب، وعليهم أنْ يَحتسبوا الأجر، لأنَّ ثواب العبادات تَعظُم بعِظَم المشقَّة، فنصوص الشريعة صريحةٌ في وجوب الصيام على مَن شهد الشهر، وهو صحيح البدن .
النوع الثاني، وهو التَّعب الشديد الذي يُخافُ أنْ يُؤدِّي إلى ضررٍ في الجسم:
ينبغي ملاحظة أنَّه ليس لِصحيح البَدَن، أنْ يُدخلَ نَفْسَه فيما يُتعبُه مِن الأعمال التي تَضطرُّه للفطر، فلا ينبغي أن يُجهِدَ نفسَه في وظيفته، بحيث يُؤدِّي ذلك الإجهاد إلى الخوف مِن إلحاق الضرر به أو المرض والهلاك، فالواجب على القادر الصَّحيح أن يؤدِّي عمَلَهُ على الوَجْه المعتاد، ما لم يكن مضطرّاً إلى ذلك، كما هو حالُ أصحاب المهن الشاقَّة، فإذا صامَ المرءُ، فأَدَّاهُ صيامُه إلى تعبٍ شديد، فخاف على نفسه ضرراً شديداً، إمّا بحدوث عِلَّةٍ، كتَلَفِ حاسَّةٍ مِن حواسِّه، أو منفعة مِن منافعه، كالكبد أو الكُلْيَة، أو يُؤدِّي إلى الهلاك، فيجب عليه أنْ يُبادر بالفطر، ولا يُشتَرَط لإباحة فِطْرِه حصولُ الضَّرر الشديد، فالخوفُ مِن نزول الضَّرر -بقول طبيب عارف- كافٍ في إباحة الفطر له .
وقد ذكر الفقهاءُ أمثلةً كثيرة للمضطر :
فمنها الحصَّاد، فقد كَرِهوا لَهُ أنْ يَحصُد الزَّرْع في نهار رمضان، لألا يُعرِّض نفسه للفطر، لكن إن اضطُرَّ للحَصَاد، بأنْ كان محتاجا إلى العمل، مِن أجل النفقة على مَن يَعُولُه مِن زوجةٍ وأولاد، فإذا أدَّاه العمل إلى تعبٍ شديدٍ فخشيَ على نفسه الضرر، فَلَهُ أن يُفطر، وذكروا كذلك المرأة المحتاجة للعمل، فيجوز لها أنْ تُؤَجِّر نفسها للرضاعة، وإنْ أدَّى الإرضاع إلى مشقَّة توجب الفطر، ويجوز لها أنْ تغزل الكتَّان في رمضان، وإنْ أدَّى الغزلُ إلى مشقَّةٍ توجب الفطر، ويَدخل في هذا المعنى أصحاب المهن الشَّاقَّة، التي تؤدِّي مزاولتها عادةً إلى حدوث شدَّة الأذى أو الهلاك .
وذكروا كذلك صاحب المزرعة، فقد ذكروا أنَّ له أنْ يَخرجَ للوقوف على مزرعته، لأنه ليس له بُدٌّ من رعايتها وتعهُّدها بالسَّقْي والحفظ والحراسة، فإنَّ تَرْكَه لها يؤدِّي إلى نقصانٍ للمحصول وربَّما يَتْلَف، وهذا إتلافٌ للمال، وقد نَهَى الشارع الحكيم عن إضاعة المال، فإنْ كان تعهُّدُه لها يُفضي به إلى ضررٍ شديد بصحَّته، وَجَبَ عليه أن يُفطر، لكن يُشترَط لإباحة الفِطْر له، أنْ يكون مضطراً للخروج لمزرعته، بحيث لا يَجد مَن يَنوبُ عنه في رعاية المزرعة، أو أنْ يجدَ أحداً يَنوبُ عنه، لكن ليس له مالٌ يزيد عن حاجته يمكنه أنْ يستأجر به مَن ينوب عنه .
والذين يُقيمون في البلاد التي يطول فيها النهار يأخذون حُكْمَ أصحاب المهن الشاقَّة، التي يَقْدِرُ على صيامها أكثر الناس، ويعجز البعض الآخر، فكثيرٌ منهم يُـمْكنه أنْ يصوم، وغايةُ الأمر أنه يجد مشقَّةً في الصيام لطول النهار، فهؤلاء يجب عليهم أن يصوموا، ويُلاحَظ أنَّه إذا اشتدَّ بهم التَّعبُ أثناء النهار وخافوا حصول الضَّرر أو الهلاك، جاز لهم الفطر، وعليهم قضاء ما أفطروا من الأيام .
ولعلَّ سائلا يسأل هل يجوز لِـمَن يقيم في تلك البلاد التي يطول نهارُها، تبييتُ الفطر، إنْ خاف حدوث شدَّة الأذى أوالهلاك، أم يجب عليه تبييت الصيام، حتَّى إذا اشتدَّ به التَّعبُ أفطر؟ للفقهاء في هذه المسألة قولان:
القول الأول: وهو مشهور المذهب، أنَّه يجب عليه أنْ يَنْوي الصيام، لأنَّه شهدَ الصوم وهو صحيحُ البدن، ولأنَّ سبب الفطر، وهو الهلاك أو التَّعب الشَّديد، لم يَقع بعد، فوَجب عليه أنْ يَشرعَ في الصيام، ثمَّ إذا حصلَ له أثناء الصيام تعبٌ شديد، فخاف حصول ضررٍ شديد أو هلاك، فعليه أنْ يقطع صيامه ويفطر .
وهذا الذي يظهر من قول الشيخ الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير: (لو خاف الصحيحُ أصلَ المرض بصومه، فإنه لا يجوز له الفطر على المشهور، إذْ لعلَّه لا يَنزل به المرضُ إذا صامَ) ونصَّ على هذا الشيخُ مَحمد ميَّارة الفاسي (ت١٠٧٢هـ) في كتابه الدُّر الثمين، والشيخ عبد السلام التاجوري(ت١١٣٩هـ) في تذييل المعيار، والشيخ محمد عليش(ت١٢١٧هـ) في كتابه فتْح العليِّ المالك، فقد اتَّفقتْ أقوالهم على أنَّ التَّعب الشديد قد يقع بسبب الصيام، وقد لا يقع، فلا يُرخَّص الفطرُ لأمرٍ موهومٍ، فحالُ هذا الصحيح كحال المقيم الذي ينوي السَّفر نهاراً، ليس له أنْ يُفطر قبل أن يسافر، لأنه قد يسافر وقد يَعدِلُ عن السَّفر، فيجب عليه تبييت نيَّة الصيام مادام مقيماً، فكذلك الصحيح، يجب عليه تبييت نيَّة الصيام، فإذا صام وحصل له تعبٌ واشتدَّ به، وخاف حصول ضررٍ أو هلاك، فعليه أن يفطر .
القول الثاني: وهو قولٌ في مذهب الإمام مالك، قال الشيخ أحمد الدردير في الشرح الكبير: (وأما الجهدُ الشديد فَيُبيحُ الفطرَ للمريض، قيل والصحيح أيضا) وقال الشيخ محمد بن عَرَفَة الدسوقي: (وقيل يجوز له الفطر) واستناداً إلى هذا القول، فإنَّ صحيحَ البدن، إذا خاف حصولَ ضررٍ، جاز له تبييتُ الفطر مِن الليل، ويَقضي ما فاتَه بعد رمضان .
غير أنَّ بعض الناس يَغلب على ظنِّه-بحكم ضَعْفِ بُنيَته، أو بحكم مشقَّة عَمَلِه- أنَّ صيامه لهذه الساعات الطِّوال يُؤدِّي إلى الهلاك، فهذا لا يصح أنْ نَشُقَّ عليه، فلا نُلزمُهُ بصيامِ معظم النهار، حتَّى إذا اشتدَّ به التَّعبُ في آخر النهار يُفطر، ويستمرُّ حالُه هكذا طيلة شهر رمضان، فهذه مشقةٌ عظيمة، فالذي يظهر لي أنَّ هذا التِّكرارَ، يُعدُّ شدَّةً معتبرةً في التخفيف، فقد ذكر الإمام شهابُ الدِّين القَرافيُّ أنه يُعتبر في التخفيف ما اشتدَّتْ مشقَّتُه، وإنْ بسبب التكرار، قال: وهو الظاهر من مذهب مالك .
غير أن هؤلاء قد يُصادِفوا أياماً ليس فيها عملٌ، كأيام العطلة أو أنْ يكون العمل فيها خفيفاً، فهذه الأيام إذا أَمْكنهم أن يصوموها، فيجب عليهم صيامها، لأنه لا يجوز لمسلمٍ أنْ يَترك صيام يومٍ مِن رمضان وهو قادرٌ على الصيام .
وينبغي ملاحظة أنَّ الخوفَ المبيحَ للفطر ليس الخوف المتوهَّم، وإنما هو الخوفُ المستنِدُ إلى قولِ طبيبٍ ثقةٍ حاذق، ولا بأس من الأخذ بقول طبيبٍ غير مسلمٍ، إذا كان أعرفَ بالطِّبِّ، ولا يُشتَرَط في إباحة الفطر الاستناد على قول الطبيب، بل يَكفي الاستناد إلى العُرْف والعادة، مثل أنْ يكون قد حصلت للصائم تجربةٌ سابقة كادتْ أنْ تُوقِعَه في الهلاك، فيَجبُ عليه حينئذٍ أنْ يُفطر، ولا يجوز له إتمامُ صيامِه، لِأنَّ حِفظَ النَّفس واجبٌ، وفي صيامِه تعرُّضٌ للهلاك، والتعرُّض للهلاك محرَّمٌ، فقد قال الله تعالى (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) فإنْ لم يُفطر مَن خشيَ على نفسه الهلاكَ، فقد عصى اللهَ وخالف أَمْرَه .
أما المريض في هذه البلاد، فحُكمه حكم المريض في غيرها من البلاد، فلَهُ أن يُفطر إنْ شاء، وله أنْ يصوم إن شاء، فوجود المرض يبيح له الفطر بنصِّ كتاب الله تعالى .
والمقصود بالمرض، المرضُ الذي يَخرج بسببه المرءُ عن حدِّ الاعتدال، فيشعر بألمٍ وتعب، وليس وجع الأُصبع الخفيف مرضاً، إلا إذا كان له أثرٌ يَضْعف بسببه البدن، أو يؤدِّي إلى حُمَّى، وإنما المرض ما يَحْصل بسببه مِن الوَهْن ما لا يحصل للصحيح، فمن كان مصاباً بالسُّكَّر أو الضغط أو غيرهما من الأمراض التي يُخاف أنْ يُؤدِّي الصيام معها إلى حصول جهدٍ ومشقَّة، أو يَخاف على نفسه أنْ يَزيدَه الصومُ ضَعفا، فهذا يُباح له الفطر، وقد يُندَبُ له الفطرُ إنْ خاف أن يزيد مَرَضُه، أو يتأخَّر بُرْؤُه، وكذلك إن خشيَ حدوث مرضٍ آخر، فللمريض في جميع هذه الصُّوَر أنْ يفطر، وقد يَجب عليه الفطرُ إنْ خاف على نفسه ضرراً شديداً، مثل تَلَفِ حاسَّةً مِن حواسِّه أو الهلاك، لأن حفظ النفوس واجبٌ، ثم يقضي الأيام التي أفطَرَها .
ويُلحق بالمريض ضعيف البُنْيَة، وإن كان صحيحاً، ومثلُه الشيخ الكبير، فلهما حُكم المريض، هذا تحصيل مذهب الإمام مالك رحمه الله، والله أعلم .