الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
آمنتُ بالله وكذَّبتُ عَينيَّ - المرءُ مؤاخَذٌ بإقرارِه

الكلمةُ في الإسلام لها حُرمةً، فتُبنَى عليها جميع العقود، كالزواج والطلاق والبيوع والأَيمان والنذور والإسلام والرِّدَّة وجميع العهود والوعود، والأصل في الكلام أنه النُّطق الفصيح الـمُعرِبُ عما يُكنُّه الضمير، وهو من أجلِّ النِّعم، قال تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ) قال الشيخ الإمام محمد الطاهر بن عاشور: (البيان: الإعراب بالكلام عما في الضمير من المقاصد والأغراض) فأظهرُ الأدلَّة هو كلام المرء إقراراً على نفسه، وشريعتُنا تعامل الناس على ما ظهرمن أعمالهم وأقوالهم، ففي الحديث: (إني لم أومر أن أنقِّبَ عن قلوب الناس) وفي الحديث الآخر: (إنكم تختصمون إليَّ، فلعلَّ بعضَكم أن يكون ألْحَنَ بحجَّتِه مِن بعض، فأقضي له على نحو ما أَسمع) فالحكم يكون على ما ظهر، أما الباطن فلا ضبطَ له، لأن الخواطر تتعارض فيه، وقد أجرى الفقهاءُ على هذا كثيراً من القواعد الفقهية، كقولهم (المرءُ مؤاخَذٌ بإقرارِه) (لا عبرةَ بالدلالة في مقابلة التصريح) (الأصل في الكلام الحقيقة) (إعمال الكلام أولى من إهماله) ولخطورة ترك الظاهر غضبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد قَتْلَهُ لرجلٍ من المشركين نطق بالشهادتين حين رأى السيف، وقال له: أقال لا إله إلا الله وقتلْتَه؟ قال أسامةُ: يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفلا شققتَ عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا) فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ، وقد جرَتْ عادة العرب أن يؤكِّدوا كلامَهم بذكر اسمِ ما يُعظِّمونه، مِن أصنامٍ وغيرها، ويُسمَّى هذا يميناً وحَلِفاً، أما اليمين عند المسلمين فهو توكيد الكلام بذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته، ففي اليمين تعظيمٌ لله تعالى وإجلالٌ له، ولذلك ربما أقسم رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه أكثر من مرَّةٍ في المجلس الواحد، فكثرة الحَلِف لا حرج فيه، وكان أكثر حَلِفِه: (والذي نفسُ محمد بيده) وكان كثيرا يقول: (لا ومُقَلِّبَ القلوب) ويقول: (وأيم الله) فاليمين مجمعٌ على جوازه، وربَّما كان مستحبّاً إذا كان فيه تعظيمٌ لأمرٍ من أمور الدِّين، وربَّما كان واجباً إذا ترتَّب عليه تخليصُ نفسٍ من الهلاك، غير أنَّ الشريعةَ نَهتْ عن اليمين إذا كانت لترْك معروفٍ وبِرّ، مثل أن يحلف أحدٌ ألا يصلح بين اثنين، أو ألا يصل رَحِمَه، لأنه جَعَلَ اللهَ عرضةً ليمينه، والله تعالى يقول: (وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ) فهذا ينبغي عليه أن يُكفِّر عن يمينه ويفعل المعروف ويصل رَحِمَه، ففي الحديث: (لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفَّرتُ عن يميني، وأتيت الذي هو خير) وَلِعظيم شأن اليمين كان تصديقُ الحالف خلقاً نبوياً، فمَن حُلِف َله بالله فلْيَرْضَ، فقد رأى سيِّدُنا عيسى ابن مريم عليه السلام رجلا يسرق، فقال له: أسرقت؟ قال: كلا والله الذي لا إله إلا هو، فقال نبيُّ الله عيسى: آمنتُ بالله، وكذَّبت عينيَّ، فنبيُّ الله شاهد بعينيه، والمشاهدةُ أعلا اليقين، فلم يُكذِّبُ ما رأتْهُ عيناه، غير أنَّه مِن باب المبالغة في تصديق الحالف الذي أكَّدَ كلامه بذكر اسم الله، قال: صدَّقتُ مَن حلف بالله، وكذَّبتُ ما ظهر لي مما رأتْهُ عيناي، فلعلَّ الرجلَ أخذ مالاً لهُ فيهِ حقٌّ، ولعلَّ صاحبَ المال أَذِنَ له في أخذه، ولعلَّ ولعلَّ، والمقصود أنَّ الله تعالى أجلُّ عندهُ مِن أن يَحلفَ به أحدٌ كاذباً، والحديث عن الأَيمان طويل جداً، سأشير إلى خلاصةٍ منه في المقال اللاحق إن شاء الله .

هل يُغسَّل الميِّت بسبب حُمَّى الآيبولا؟

تغسيل الميِّت وتكفينه خلقٌ شرعه الله للمسلمين، وحقيقةُ الغسل هو إمرارُ الماء مع تدليك الجلد برفق، غير أنَّ غسله ليس بسبب نجاسته، فالمؤمنُ لا ينجُسُ كما في الحديث، فقد غُسِّلَ أفضلُ الخلق صلوات ربي وسلامه عليه، وهو الطاهر المطهَّر، فيجب غسلُ الميِّت لِمَا قد يكون عَلَقَ بجسمه مما يقتضي غَسْلُه منه، غير أن الغسل يَسقط إذا أفضى إلى ضرر بجسد الميِّت، ومن باب أولى إذا أفضى إلى ضرر بالمغسِّل، فإنْ خيفَ أنْ يُفضي الغسل إلى تَزلُّع الجلد وتشقُّقه، فلا يجوز غسلُ الميِّت لألا يتأذَّى جلْدُه، بل يكفي أنْ يُصبَّ الماءُ عليه صبّاً رقيقاً مِن غير دَلْكٍ كما قال الإمامُ مالكٌ رحمه الله، ولا يُشترط اليقين بحصول الضرر، بل يَكفي الظنُّ أو الشكُّ في حصول الضرر، فإن خيفَ أن يُفضي مجرَّدُ صبِّ الماء إلى ضرر، حَرُمَ الصَّبُّ كذلك، والذي يَحكم بمظنَّة حصول الضرر هم أهلُ الخبرة، أي الأطبَّاء، هذا فيما إذا كان الضَّرَرُ بجسد الميِّت، والأمرُ يكون أَولَى وآكدُ فيمَن يُفضي غسلُه إلى انتقال العدْوى إلى المغسِّل، وهذا ما سئلتُ عنه قبل أيام، فيمن توفِّي بسبب إصابته بمرض إيبُولا، وهو مرضٌ يُفضي إلى الموت، وقد ذكرت منظمة الصحَّة العالمية أنَّ أكثر الناس عرضةً لانتقال العدوى إليهم، هم العاملون في مجال الرعاية الصحية لهؤلاء المرضى، وقد ثبت -بقول الأطباء- انتقال العدوى لبعض الممرِّضات أثناء تغسيل المصابين بهذا المرض، وأن الاحتياط باستعمال وسائل الوقاية لَـمْ تؤدِّ إلى الحماية من انتقال العدوى، فكان الواجب ألا يتمَّ تغسيل المصابين بهذا المرض، فقد روى البخاريُّ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: (فِـرَّ مِن المجذوم كما تفرُّ من الأسد) وقد روى الإمام مالك في الموطأ أنَّ سيدنا عمرَ رضي الله عنه مر بامرأة مجذومةٍ، وهي تطوف بالبيت، فقال لها: يا أَمَةَ الله، لا تؤذي الناس، لو جَلَسْتِ في بيتك، فَجَلَسَتْ، قال ابن عبد البر: (فيه أنه يُحالُ بين المجذوم ومخالطة الناس لما فيه من الأذى، وهو لا يجوز، وإذا مُنع آكِلُ الثوم مِن المسجد، وكان ربَّما أُخرج إلى البقيع في العهد النبويِّ، فما ظَنُّك بالجذام؟) وههنا مسألةٌ من مسائل الاعتقاد، وهي أن العرب كانت في جاهليتها تقول أنه إذا اتَّصل شيءٌ بشيءٍ أَعْدَاهُ، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اعتقادهم هذا باطلٌ، بقوله: (لا عدوى، ولا هام، ولا صفر، وَلاَ يَحُلَّ المُمْرِضُ على المُصِحِّ) فبيَّن صلَّى الله عليه وسلم أنَّ الأشياءَ أسبابٌ لا تُعدي بذاتِها، وإنما أَجرى اللهُ العادةَ بذلك، وأنه سبحانه هو الخالقُ للأسباب بقوله: (لا عدوى، ولا هام، ولا صفر) وبيَّن حقيقة ذلك بقوله: (فمن أعْدَى الأوَّل) ثم نهى ذُو الماشية المريضَةِ أنْ يُورِدَ إبِلَهُ على ذي الماشية الصّحيحة، فقال: (وَلاَ يَحُلَّ المُمْرِضُ على المُصِحِّ) لألا تنتقل العدوى بحكم العادة التي أجراها الله في الأشياء بسبب المخالطة، فيَظنَّ أحدٌ أن الأشياء تُعْدِي بذاتِها، وقد نصَّ فقهاءُ المالكية على أنَّه إذا كثُرَ الموتَى، وحصلَتْ مشقَّةُ في غسلِهم، فلا يجبُ تغسيلهم، والأمر آكدُ إذا ذكر الأطباءُ أن الغسلَ مظنَّةُ الإصابة بمرضٍ خطير، ومن فِقْهِ سيِّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه حين أنكر عليه سيِّدُنا أبو عبيدةَ الخروج من الشام فراراً من الطاعون بقوله: تَفِرُّ مِن قدر الله؟ فقال عمرُ: (نعم أفرُّ من قدر الله إلى قدر الله)

الحُرُّ لا يرضى من عرضه بشيء - الكرامُ لا يَفطنون لعَيب جارهم

من بديع ما قالَه سيِّدُنا عمرُ رضي الله عنه: (لا يَحل لامرئٍ مسلمٍ سَمعَ مِن أخيه كلمةً، أنْ يَظُنَّ بها سوءاً، وهو يَجدُ لها في شيءٍ مِن الخير مصدرا) فهذه الكلمةُ البليغةُ دلَّت عليها كثيرٌ من النصوص، والتي منها الحديث الذي رواه الإمامُ مالكٌ في موطَّئِه: (إياكم والظنِّ، فإنِّ الظنَّ أكذب الحديث) والظنُّ المنهيُّ عنه ليس الخواطرَ المجرَّدة، فهذه حديثُ نفسٍ لا يَسلمُ منها أحد، وإنما المنهيُّ عنه هو أن تَركنَ النَّفسُ إلى التُّهمة، أي أنْ يَميلَ القلبُ إليها، من غير بيِّنةٍ تدلُّ عليها دلالةً جليَّةً لا تحتمل التأويل، قال الإمام الغزالي: (وهو حرامٌ كَسُوءِ الظنِّ بالقول) والقول في المجالس أو في مواقع الإنترنت أشدُّ حرمةً من سوء الظن في القلب، لأنه سوء ظنٍّ وغيبة، وربما كان بهتاناً، فقَبْلَ أكثر من عشر سنوات زارني رجلٌ فاضل، وأفضى إليَّ باستيائه مِن وزير التربية وَقْتَها، وهو الدكتور محمد الرشيد رحمه الله، واتَّهمه بأن له أفكاراً وأهدافاً سيِّئةً يخفيها عن الناس، فقلت لمحدِّثي: حدِّثني عن شيءٍ من هذه الأفكار؟ فنظر إليَّ باستغراب قائلاً: إن بعض الناس تتبَّع أقواله، واستخرج مِن متفرِّقاتها ما يُفهم منه سوءُ طويَّتِهِ، قلت في نفسي: مهما أوتي الوزير من البلاغة، فلن يَسلَم من سوء ظنِّكم، وسيُبتلَى بمن لا يَعرف غير سوء الظن، ثم قلت لمحدِّثي: أومَا قرأت نَهْيَ الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) أوَمَا سمعتَ أن سيدَنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أُتيَ إليه برجلٍ فقيل له: هذا فلان تقطرُ لحيتُهُ خمراً، فقال: إنا قد نُهينا عن التجسس، ولكن إنْ يظهر لنا شيءٌ نأخذْ به) ثم قلت له أليس واجبك يا أخي إن رأيت خطأً أنْ تُرشِدَ وتنصح، لا أن تكون قعيداً في بيتك أو في المجالس تعِيبُ وتفضح؟ أطرق صاحبي خجِلاً، وانصرف ولم يُعقِّب، وتمضي الأيام فأقف على مقالٍ كتبه الدكتور محمد الرشيد رحمه الله في جريدة الرياض، فأَرى مِن وراء سطوره شكوى الحُرِّ مِن الضيم الذي أَلَمَّ به، كما قال الأوَّل: (لو كان ما بِيْ هيِّناً لَكَتَمْتُهُ**لكنَّ ما بيْ جلَّ عن كِتمانِ) إن الذبَّ عن أعراض المسلمين واجب، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من ذبَّ عن عرض أخيه ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة) وقد كان مما أوصى به يزيدُ بن المهلَّب ابنَهُ مَخْلَداً: (إياك وأعراض الرجال فإن الحُرَّ لا يرضى مِن عِرضه بشيء) إن النَّظر إلى الناس بنظرة انتقائية، أيّاً كانت أغراضُها وأسبُابها، من شأنه أن يُغيِّبَ عنّا طَرَفاً من الحقيقة، فتَظهرُ الأشياءُ أمامَنا بخلاف ما هي عليه في الواقع، ثم إننا مأمورون بالتماس المعاذير، خصوصاً لأهل العلم والسِّن والفضل، وأن نحمل أقوالَهم وأفعالَهم على أحسن المحامل، لا أنْ نَشُقَّ قلوبهم، فقد صحَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعَ بعضَ الصحابة يُـشكِّكون في إسلام مالك بن الدُّخْشُم رضي الله عنه، فغضب وقال لهم: أليس يشهد أنْ لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله؟ فقالوا: إنه يقول ذلك وما هو في قلبه، فأجابهم تعليما وتأديبا وتهذيباً: ألا تراه قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجهَ الله؟ فكان الصحابةُ الكرام -بسبب هذه التربية- يصدق عليهم قول الشاعر: (لا يَفطِنون لِعيبِ جارِهِمُ ** وهُمُ لِحُسْنِ جوارِهِ فُطُنُ) فأسرار القلوب لا يَعلمها إلا علَّامُ الغيوب، أسأل الله ألا يجعلنا ممن يُحاسبُ الناسَ على ما تُخفيه ضمائرُهم وتُكِنُّه سرائرُهم.

http://www.alyaum.com/article/4019593

إياك أن تشكو الرحمنَ إلى مَن لا يَرحم الطمعُ في المخلوق شجرةٌ لا تُثمرُ إلا الذُّلَّ

مرَّ رجلٌ بطالب علمٍ اشتدَّ به الفقرُ، فرآه يشكو الجوع والألم، فتصدَّقَ عليه وقال له: يا فقيه إياك أن تشكو الرحمن إلى من لا يرحم، قال الشيخُ أبو عبد الله الـمَقَّري: (أمرَهُ أن يسألَ عزيزاً بمولاه، ونهاهُ أن يشكو ذليلاً مَن سواه) فالطمعُ في المخلوق شجرةٌ لا تُثمرُ إلا الذُّلَّ، فمن استَنْبَتَها وغرسها في قلبه، فقد سعى في تعظيم ذُلِّه، لأنه بذلَ ماءَ وَجْهِه لمن هُمْ مِثلَه من المخلوقين، الذين لا يملكون حولاً ولا قوَّة، ولأنه صار أسيراً ومُسترَقّاً لِمَا طمع فيه وسعى إليه، فاستِعْبَادُ الأحرار بلاءٌ سببُهُ الأطماع الكاذبة، فهي أوهام وتخييلات تسوقُ للانقياد لِـمَا لا قيمة له، وقد قيل "ما قادَكَ مثلُ الوَهْم" فالعبد حُرٌّ ما قَنِعْ، والحرُّ عبدٌ ما طَمِعْ، وهذا أدبٌ إسلاميٌّ رفيع، وهَدْيٌ نبويٌّ شريف، غرسَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه الكرام، فقد قال يوما لشابٍّ نجيب، وكأنَّه يخاطبُ فيه شباب هذا الجيل الذين كثُرَتْ أمامَهم المغريات الكاذبة، لألا تسوقهم إلى كثيرٍ من المفاسد والمضارِّ، قال لسيِّدنا عبد الله بن العبَّاس رضي الله عنهما: (يا غلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجدْهُ تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعنْ بالله، واعلم أن الأمَّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرُّوك بشيء لمْ يَضرُّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعتْ الأقلام، وجفَّتْ الصُّحف) ما أعظمُه من حديثٍ شريف، اشتمل على كثير من المعاني النبيلة، فالعبدُ إذا أَيِسَ مِن نَفْعِ نفسه لنفسه، فإياسُهُ من نفعِ غيره له، أهمُّ عليه وأَوْلَى، بخلاف طَمَعِهِ ورجائه في مِنَنِ الله ونِعَمه، فإنه إذا كان يرجو الله لنفعِ غيره، فرجاؤه لنفع الله له أهمُّ عليه وأَوْلَى، فما أعظم الإياس عما في أيدي الناس غِنَىً بربِّ الناس، قال الله تعالى:(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) فالطمعُ داءٌ عضال، غايتُه الحرمان، قال بعض الصالحين: (لو قيل للطمع مَن أبوك لقال الشكُّ في المقدور، ولو قيل له ما حِرفتُك لقال اكتساب الذُّل، فلو قيل له ما غايتُك لقال الحِرمان) انتهى وهو عجيب، فكان أشدُّ ما يتعاهَدُه الصالحون أن يُطهِّروا نفوسهم من الطمع، وأن يتفقَّدوا الورع في قلوبهم، وأعظَمُ ما يُورِثُ الورعَ هو أن يرفعوا هِمَمَهُم عالياً، وأن ييأسوا مِن نفع الخلائق، طمعاً لما عند الله، فهذا أعظم رأس مالٍ لابن آدم، فقد رُئِيَ فقيرٌ ينادي في السوق: ارحموا فقيراً ذهب رأسُ ماله، فقيل له: وهل للفقير رأس مال ؟ فقال: نعم، كان لي قلبٌ فَقَدْتُه، ومن بديع ما يُحكى عن سيدِنا عليٍّ رضي الله عنه أنه حين قدم البصرة، كان يطوف في مساجدها، فيجدُ الوعَّاظ يُسمعون الناس ما يُرقِّق القلب، فأقام مَن لا يُحسن منهم ومنعه من الجلوس، حتى وجد شابّاً رأى عليه سَمْتاً وهَدْياً حسناً، فقال يا فَتى إني سائلُكَ عن أمرٍ، فإن أجبتَ عنه أبقيتُك، وإلا أقمتُك كما أقمتُ أصحابَك، فقال الفتى: سَلْ عمَّا شئت، فقال عليٌّ: ما ملاكُ الدِّين قال الفتى: الورع، قال عليٌّ: فما فسادُ الدِّين، قال الفتى: الطمع، قال: اجلسْ فمثلُكَ يَتكلَّمُ على الناس، فكان هذا الفتى هو الحسنُ البصريُّ رضي الله عنه، ومن بديع ما قيل في الطمع أنَّ حروفَهُ (ط مـ ـعـ ) مجوَّفةٌ كلُّها، فصاحبُها بَطْنٌ، فهو دائماً لا يشبع، ومن العجيب كذلك أنَّ تجويفها منغلقٌ من جميع الجوانب، فصاحبُها مؤصَدَةٌ عليه الأبواب، فهو محرومٌ دائماً، فهلّا وَعينا أنَّ مِن عميم رحمة الله بعباده أنْ قَرَنَ الطمع بالذُّلِّ والصَّغار، لنعود إلى مولانا الكريم المنَّان اضطراراً، بعد أنْ شَغَلَتْنا النِّعم وأطغَتْنا الغفلةُ عن الأوبَة إليه طَوعاً واختيارا .

الدنيا مسافةٌ تُطْوَى، وفرقٌ بين طيٍّ وطيّ


غايةُ نظر الإنسان لهذه الدنيا أنه ينظر لما فيها من فائدةٍ حاليَّة ومنفعةٍ آنيَّة، ومن عجيب شأن الإنسان أنه ينظر لهذه الغاية من غير التفاتٍ لِـما يعقبُها من مآلات، وما قد تُفضي إليه من من مفاسد وَمَضَارّ، فيغفل عن أنَّ مآل الشيئ المطلوب هو أصْلُه، بل هو غايته القُصوَى، وهذا معنى قول الصالحين "الدنيا ظاهرُها غِرَّة" فإن مُرادَهم بهذا القول أن الخَلقَ ينشغلون بمنافعها الآنية، اغتراراً بهذه المنافع وانشغالاً بها عن الغاية القصوى مِن ورائها، فالعبرةُ ينبغي أن تكون بمآلات ما في ظواهر الدنيا من منائح وملاذّ، وهذا معنى ما كتبهُ الإمام عليُّ بن أبي طالب إلى سلمان الفارسي رضي الله عنهما: (مَثل الدنيا مَثل الحيَّة، لَيِّنٌ مَسُّها، ويَقتل سُمُّها، فأعْرِضْ عمَّا يُعجبك منها، لِقلَّة ما يَصحبك منها، وضع عنك همومَها بما أيْقَنْتَ مِن فِراقها، وكُنْ أَسَرَّ ما تكون فيها، أحذَرَ ما تكون لها، فإن صاحبَها كلما اطمأنَّ إليها وإلى سرورها، أَشْخَصَتْهُ إلى مكروهها، والسلام ) وهكذا الإنسانُ يغترُّ بظاهر متع الدُّنيا، فيجري وراءها جَرْياً أعمى، غافلاً عن أنَّ تحصيل هذه المُتَعِ مصحوبٌ بالعناء، وأن مآلها يقيناً هو الفناء، وغافلاً عن أنه لم يُخلَق كالدوابِّ، غايتها الأكل والشرب، فالدنيا في حقِّ ابن آدم مسافةٌ بينه وبين آخرته، وطَيُّ هذا المسافة مختلفٌ بين إنسانٍ وآخر، ومطلوبُ الله من عبدِه ألا يكون همُّهُ أن ينشغل بها بالنظر إلى ظاهِر حُسْنها الزائل ولا إلى بَهجتها الفانية، فالعاقل هو مَن يرى أن الآخرةَ أقربُ إليه من وجود الدنيا وملاذِّها، وكما عبَّر بعض الصالحين: "أن تُطوي مسافةُ الدنيا عنك، حتى ترى الآخرةَ أقربَ إليك منك) لأن الآتي يقيناً بمنزلة الموجود في الحالِ، والعاقل يرى الدنيا كأنها لَم تَكُن، لِسرعة فناءِ مُتَعها، ويرى الآخرة كأنها لَم تَزَل، لآنها آتيةٌ قطعاً، وهذا معنى قولهم "الدنيا خطوةُ مؤمنٍ" فيُحصِّل الراحة، فلا يجدُ تعباً في وِجدانها، ويسلَم من تعب القلب في فقدانها، فيَفرَغُ قلبُه ويَصفو عن الأكدار، قال بعضهم "لا تتعجَّبوا ممن يُدخل يدَهُ في جيبه فَيُخرجُ ما يريد، ولكن تعجَّبوا ممن يَضعُ في جيبه شيئاً، ثم يُدخل يَدَهُ في جيبه فلم يَجدْهُ، فلم يتغيَّر" لأنه تحرَّر من رِقِّ الاغترار بالدنيا والطمع فيها، فاستغنى بِربِّهِ، وهذه هي حِلْيَةُ الزهد والوَرَع، وما أعظم وأشرَف أنْ يَتحلَّى بهما العبد، فرَفْعُ الهمَّة عن الخَلق، تعلُّقاً بربِّ الناس، هو عنوان الأياس مما في أيدي الناس، وفي هذا سلامةٌ من نقص الدرجات، وارتفاعٌ إلى كمال المراتب والمقامات، فالنفس تنزِعُ إلى حبِّ مَن أحسن إليها، بل تكون أسيرةً له، ففي وصية سيدنا عليٍّ رضي الله عنه: "لا تجعل بينك وبين الله منعِماً، وَعُدَّ نِعمَةَ غيره عليك مَغرماً" وأنشد: (لَعمرُك مَن أوليتُهُ منك نعمةً ... ومَدَّ لها كفّاً فأنت أميرُهُ) (ومَن كنتَ محتاجاً إليه فإنَّه ... أميرُك تحقيقاً وأنت أسيرُهُ) (ومَن كنت عنهُ ذا غنىً وَهْوَ مالكٌ ... أَزِمَّةَ أهل الدهر أنتَ نظيرُهُ) وهذا المعنى لا تُدركه نفوس الغافلين الشاردة، ولا تطمح إليه إلا أصحاب الهمم العالية، التي لا تغترَّ بظاهر الأشياء، بل تراها على حقيقتها، فترى الدنيا بمآلاتها لا بظواهرها، فالعارفون ربما رأَوْا نعمة الله عليهم فيما زَوَى عنهم من مُتع الدنيا، أتمَّ مِن نعمتِهِ عليهم فيما أعطاهم منها، فهنيئاً لمن أدرك هذه المعاني ووقف على دقائقها ومراميها، وأمكنَهُ الله من طيِّ مسافة الدنيا إلى الآخرة بهذا الخلق الرفيع والهدْي النبويِّ العظيم .

http://www.alyaum.com/article/4015716

الجهاد في الإسلام ليس اعتداءً ولا شهوةً للانتقام فلم يشرعْهُ الله لتقتيل البشر

الجهاد والطاعة والخروج والإمامة، تلك هي القضايا التي تشغل فكر الكثير من شباب اليوم، حتى أولئك القاعدين على سررهم، فهذه هو حديثهم، يتحدثون حول هذه المواضيع ليس من منطلق رغبة في المخالفة، وإنما قد يكون رغبة في معرفة الحق من الباطل.

هذه القضايا وغيرها من القضايا الملحة حري بعلماء الأمة التصدي لها وبيان الحق فيها، ورد الباطل. كل هذا بالدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال ذلك خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله - في أكثر من حديث ولقاء، وآخر ذلك خلال لقائه بالعلماء حيث طالبهم بالتصدي لهذه الأفكار الضالة حماية للأمة من التشرذم والاختطاف من قبل الجماعات الإرهابية.

في هذا الحوار مع فضيلة الشيخ الدكتور قيس بن محمد آل الشيخ مبارك عضو هيئة كبار العلماء في المملكة، نلقي الضوء على بعض هذه القضايا والتي سمح بها وقت فضيلته، حيث جاء هذا الحوار بين يدي انعقاد جلسة هيئة كبار العلماء، وقد أبان فضيلته عن الكثير من أوجه الخلل في عدم فهم بعض النصوص الشرعية، وخطر الانجراف خلف الدعاوى الباطلة، وأكد أن السمع والطاعة ليس أمراً مقصوداً لِذاته، وإنما شرعه اللهُ لألاَّ يكون الناسُ فوضَى لا سَراةَ لهم، فأمَرَ اللهُ بذلك لِمَا في الخروج عن الطاعة من تشتيتٍ للكلمة وتفريقٍ للجماعة، وقال الشيخ قيس إن من يحرض بالقول أو الكتابة يسبب فتنة وفوضى، وإنما الواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليكون بمنزلةِ حمزةَ في الجنة، لا أنْ يَدفع الناس للخروج، وهو هاربٌ أو متخفٍّ، يَفرُّ ويُطالب الناس بالشجاعة.

حوارنا مع فضيلته كان له أن يكون أكثر ثراءً وتنوعاً لولا كما أسلفت ضيق الوقت، وكثرة مراجعات فضيلته العلمية، فإلى الحوار:

* الجهاد في سبيل الله كما فصَّله العلماء ينقسم إلى قسمين:

فرض عين، وفرض كفاية، والملاحظ لدى المحرضين على الخروج للقتال أنهم جعلوا من الدفاع عن الدول الأخرى من باب فرض العين كون بلاد المسلمين بلاد واحدة، كما يقولون، ولذا فإنهم لا يرون إذن الحاكم، ولا إذن الوالدين فما هو رأي فضيلتكم؟

- الجهاد في الإسلام ليس اعتداءً، ولا شهوةً للانتقام، فلم يشرعْهُ الله لتقتيل البشر، فلو شاء سبحانه لأهلك الكفار جميعاً، فمن حكمة الله تعالى أنْ جعلَ الجهادَ خُلُقاً وأدباً إسلاميّاً، شَرَعَهُ سبحانه لدفع الظلم والكفر عن المسلمين، والأصل فيه أنه فرضُ كفاية، فلا يتعيَّن على جميع المسلمين، غير أنه يصيرُ فرضَ عينٍ بتعيين الإمام، فإذا عيَّن السلطانُ أحداً من المسلمين للجهاد صارَ فرضاً عليه أنْ يخرج للجهاد، وكذلك يصير فرضَ عينٍ على أهلِ بلدةٍ إذا فاجأَ العدوُّ بلدتهم، ففي هذا الحال يصير فرضَ عين على كلِّ ذكرٍ مكلَّفٍ قادر مِن أهل تلك البلدة المعتَدَى عليها، فإن لم يكونوا قادرين على ردِّ المعتَدِي، صار فرضَ عينٍ على مَن يليهم. أما في حالِ الجهاد الذي هو فرضُ كفايةٍ، فقد ذكر الفقهاءُ أنَّ الخروجَ فيه من غير رضا الوالدين كبيرةٌ من الكبائر، لأنه عقوقٌ لهما، وهو خلاف ما دلَّ عليه الكتاب والسنَّة، واتفق عليه علماءُ المسلمين، كما قال الحافظُ أبو عمر بن عبد البرَّ: (لا خلاف عَلِمْتُهُ أنَّ الرجلَ لا يجوز له الغَزْوُ، ووالداهُ كارهان أو أحدهما، لأنَّ الخلافَ لهما في أداء الفرائض عقوقٌ، وهو من الكبائر)، وقد روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنه: (جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال عليه الصلاة والسلام: (أحيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد). وفي سنن أبي داوود بسند صحيح: (ارجع فأَضْحِكْهما كما أبْكَيْتَهما)، بل قالوا يجب أن يكون رضاهما بالقول واللسان، فلو أذنا بلسانهما، ولم يكونا راضِيَيْنِ، فلا يجوز الخروج، وكذلك لو أذنَ أحدُهما ولم يأذن الآخر لم يَجُزْ الخروج، فشَرْطُ الخروج رضاهما جميعاً، وأن يكون إذْناً غيرَ مشوبٍ بإكراه، أي عن رضاً بالقلب، بل ذكروا أن مَن له إخوة أو عمٌّ أو عمَّة أو خالٌ أو خالة، وكان هو القائمُ عليهم، ويخافُ ضَيْعَتَهم، فمُقَامُه عندهم أفضلُ عند الله.

* شبهة عظيمة يطلقها بعض المغرر بهم، بل يقول بها بعض مدعي العلم، وهي أن الناس يبعثون على نياتهم، فمن خرج للقتال وهو سيريد الجهاد الحق، فإنه على أجره، حتى ولو قتل مسلماً أو معاهداً، كيف لنا أن نرد على هذه الشبهة؟

- غفر الله لك حين جعلْتَها شبهةً عظيمة، ما أقْبَحَهُ مِن عذر أمام الله تعالى، أنْ تخالِف شرع الله، فتفارق الجماعة لتقاتل تحت رايةٍ عُمِّيَّة، فتسفك الدماء بالظِّنَّة، وتقتل الرجالَ وتُيَتِّمَ الأطفال وترمِّل النساء، وترجو لهم بعد ذلك المغفرة، والأقبح أن ترجو لنفسك المثوبة والأجر! أين أنت أيها الشابُّ من حديث الإمام مسلمٍ في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، ماتَ مِيْتَةً جاهلية، ومن قاتل تحت راية عُمِّيّةٍ، يَغضَبُ لِعَصَبةٍ، أو يدعو إلى عَصَبةٍ، أو يَنصُرَ عَصَبةً، فَقُتِلَ، فقِتْلَةٌ جاهلية، ومَن خرج على أمتي، يَضربُ بَرَّها وفاجِرَها، ولا يتحاشى مِن مؤمنها، ولا يَفِي لذي عهدٍ عَهدَهُ، فليس مني ولستُ منه). والراية العُمِّيَّة هي عندما تتعدد الرايات، لا يُدرَى أيها التي ينبغي أنْ يُصار إليها، فَيَحارُ الشابُّ بين راياتٍ متعدِّدة، ويكون اندفاعُه وانضمامُه إلى جماعةٍ من هذه الجماعات، بدوافع نفسانية وميولٍ قلبية، أي بحُكْم أنَّ زميلاً دلَّه عليها، وحسَّنها إليه، فهذا هو الأمر الأعمى الذي لا يَستبين وَجْهُهُ إلا بهوى النَّفس وشهوتِها، قال الإمام النووي: (ومعناها أنه يقاتل لشهوةِ نفسِهِ، وغَضْبَةٍ لها). وقَبْلَه قال القاضي عياض: (وفي معناها الرواية الأخرى، أي أنه إنما يقاتِلُ لشهوةٍ منه، وغَضَبِهِ لنفسِهِ أو لقومِهِ وعصبيَّته، هذا والله أعلم في الخوارج وأشباهِهم من القرامطة). ومن أجل هذا سمَّاهم علماؤنا: «أهل الأهواء» لأنهم يفسِّرون النصوص القرآنية والأحاديث النبوية بما تشتهيه نفوسُهم وأهواؤهم القلبيَّة، ثم قال القاضي عياض: (ومعنى «ولا يتحاشى مِن مُؤمنها» أي لا يَكترثُ بما يفعلُه، ولا يَحذَرُ مِن عقباه). وهذا واقعُ هؤلاء الذين يَقتُلون ثم يُكبِّرون طرَباً بما يظنُّونه نصراً، ولا يكترثون بما أفضَتْ إليه أفعالُهم، من النساء اللائي تَرَمَّلْنَ ولا الأطفال الذين يُتِّموا وشرِّدوا.

* قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تآمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، ما هو تعليقكم؟

- مسألة السمع والطاعة لولي الأمر لدى هؤلاء الذين يدعون إلى القتال في مناطق مختلفة من العالم، أنهم لا يرون وجوبها كون ما يقومون به خارج بلادهم، وأن ولي الأمر طاعته محصورة داخل سلطانه فقط، كيف نرد على مزاعمهم تلك؟

السمع والطاعة ليس أمراً مقصوداً لِذاته، وإنما شرعه اللهُ لألاَّ يكون الناسُ فوضَى لا سَراةَ لهم، فأمَرَ اللهُ بذلك لِمَا في الخروج عن الطاعة من تشتيتٍ للكلمة وتفريقٍ للجماعة، وهذا ما حصل من زعماء هذه الجماعات، الذين غرَّروا بالشباب، بعد أنْ بحثوا عن أرضٍ اضطربَ فيها الأمن، فجعلوها ساحةً للقتال، يستقطبون الشباب من شتَّى البقاع، للزجِّ بهم في قتالٍ قد يمتدُّ إلى سائر البلاد، ثم ما حجَّة هؤلاء أمام الله حين يتسلَّحون ويستبيحون القتال وانتهاكَ حُرُمات المدن والقرى، يدخلونها ولا يحترمون لذي شيبةٍ شيبَته، ولا لذي سنٍّ سنَّه، ولا قَدْرَ عندهم لأعيانِ أيِّ بلدةٍ يدخلونها، وليس لأهل العقل والرأي فيها احترامٌ عندهم، ولا لأئمة المساجد، فضلاً عن العلماء، فأيُّ مروءَةٍ لشبابٍ هذه أخلاقهم.

* يقول البعض إذا حلَّ بالأمة كما هو حاصل الآن من تقاتل في أكثر من مكان من عالمنا الإسلامي فإن الجهاد لا يشترط له ولاية ولا راية، ما موقف الشريعة من مثل هذه الأقوال؟

- أغلبُ بلاد المسلمين حالها مستقر، والناس تقوم بأعمالها وتقضي حوائجها بأمان، وهؤلاء الجماعات عندما يرفضون الراية والولاية، فإنهم يدفعون الأمَّة إلى ما هو أسوأ، وهو الزجُّ بالبلاد الإسلامية في صراعات وفِتَن، يتزعَّمها زعماءٌ يَصدُقُ عليهم قول الشاعر:

فبكلِّ دارٍ منبرٌ وخليفةٌ
يدعو لبيعته على أوضاع
وكأنهم لم يَرَوا حالَ الصومال اليوم، أسأل الله أن يعيدهم إلى صوابهم.

* قصة أبي بصير رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قام به منفرداً ضد المشركين، يتكئ عليها البعض في مسألة جواز الجهاد دون ولاية ولا راية، كيف نرد على هذه الشبهة؟

- قصة أبي بصير بن أسيدٍ الثَّقَفِيِّ رضي الله عنه، لا دلالة فيها على ذلك، وأنا أُوجزُها بما يناسب هذا الحوار، ذلك أنه كان من بين شروط صلح الحديبية أن مَن جاء من المشركين مسلماً، أنْ يُردَّ عليهم، فكان أنْ أسلمَ أبا بصير، فقدِمَ مهاجراً فارّاً بِدِينه، فأرسل المشركون رجلين منهم يطلبونه، فوفَّى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم العهد، وسلَّمَه لهما، فخَرجا به، ثم إنه وقد علمَ أنهم سيؤذونه، احتالَ ليدْرَأ عن نفسه التعذيب والقتل، فقتل أحدَهما، وهرب الآخر، ثم رجع إلى المدينة المنورة، فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلم كلاماً فَهِمَ منه أنه سيردُّه إليهم لو طلبوه، فخرج إلى ساحل البحر، فصارَ كلُّ مَن يُسلمُ يَلتحق بأبي بصير، حتى اجتمع عددٌ يزيد على الأربعين، فكانوا يعترضون عِيرَ قريش إلى الشام، من أجل أن تتأذَّى قريشٌ من ذلك، فتُلغي هذا الشرط، وهذا ما حصل، فأرسلتْ قريشٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ مَن أتاه فهو آمن، وقد ذكر الفقهاءُ كالخطَّابي وغيرُه، أن أبا بصيرٍ ومَن معه لم يكونوا تحت حكم المسلمين، فلا سُلطانَ للمسلمين عليهم، وإنما هم جماعة فَرُّوا بدينهم من المشركين، فإن لَجؤوا للمدينة فليس أمام المسلمين إلا تسليمهم للمشركين إنْ طلبوهم، التزاماً بالمعاهدة، وإن أمسك بهم المشركون عذَّبوهم وربَّما قتلوهم، فلم يكن لهم سبيلٌ لتخليصِ أنفُسِهم من المشركين إلا بهذا العمل، فكان لهم أنْ يَتخلَّصوا من إذايةِ المشركين، إما بأخْذِ أموالهم، أو بإحراق دورهم، أو بقتلهم، فبهذا الحديث وغيره استدلَّ الفقهاءُ على أنَّ للأسير أنْ يَخدع المشركين أو يقتلهم، حتى يتخلَّص منهم وينجو، وأن تصرُّفه هذا ليس فيه نقضٌ للمعاهدة، لأنه ليس تحت حكم المسلمين.

* حديث البخاري: (إنما الإمام جُنَّة يقاتل من ورائه ويتقى به)، أليس هذا دليلاً على وجوب - وجود إمام ورأيه؟

- حديث (إنما الإمام جُنَّة يقاتَلُ مِن ورائِهِ ويُتَّقى به) يفيد أن الإمام كالسَّاتِر الذي يمنع العدوَّ مِن إذاية المسلمين، ويَحمي الناسَ، لألاَّ يُخطئ بعضُهم على بعض، لأن الناس يخافون سَطْوَتَه، فلا يَعتدِي بعضُهم على بعض، ولا يتعارضُ هذا مع وجوب إنكار المنكر، بمراتبه المعروفة، شريطةَ ألاَّ يؤدِّي النُّصحُ والإنكار إلى دَفْع البلاد إلى فوضى، بشقِّ العصا وتفريق الجماعة.

* من يحرض على ولي الأمر بالقول أو بالكتابة، هل يُعد في ميزان الشرع خارجاً على ولي الأمر؟

- هذا التحريض مخالفٌ للهَدْي النبويّ الشريف، فضلاً عن أنه لا يُؤدَّي إلى مصلحةٍ تُرجَى، فواجب المسلم أن يكون ناصحاً لجميع الخَلق، فينصح الحاكم والمحكوم، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ليكون بمنزلةِ حمزةَ في الجنة، لا أنْ يَدفع الناس للخروج، وهو هاربٌ أو متخفٍّ، يَفرُّ ويُطالب الناس بالشجاعة، فهذا من الجناية على المجتمع، لأنه يدخل البلاد في فتنةٍ وفوضى، قال ابن بطَّال: (فمَن قام عليه -أي على الإمام- مِن الناس متأوِّلاً، بمذهبٍ خالفَ فيه السنَّة، أو لِجَوْرٍ، أو لاختيارِ إمامٍ غيرِهِ، سُمِّىَ فاسقاً ظالماً غاصباً في خروجه، لتفريقه جماعة المسلمين، ولِمَا يكون في ذلك من سفكِ الدماء).

http://pda.al-jazirah.com/2014/20140916/jo1.htm