الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
الانتحار

تتردَّد بين الحين والآخر في الصحافة أخبارٌ عن حدوث حالات انتحار، تقع مِن بعض أفراد المجتمع، وهي حالاتٌ ليست بكثيرة، ولا قليلة، وإنما هي نادرة، والنَّادر لا حكم له، فإشاعتُه وإبرازُه على أنه ظاهرةٌ ليس من العقل ولا الحكمة، فضلا عن أنه عملٌ معيب، بل وهو منكرٌ من الفعل، وقد حذَّرنا الله تعالى مِن نشر المناكر، فقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) فإذا كان الواحدُ منَّا لا يُحبُّ أنْ يُقال أن أحد أفراد أسرته قد انتحر، ولا يُحبُّ أن يُقال إن أحد أفراد قبيلته قد انتحر، فينبغي أن لا يحبُّ كذلك أن يقال بأن أحد أبناء مجتمعه قد انتحر، فالمؤمن لا يحب أن يُشيع خبر السوء، لا عن نفسه ولا عن بلده، ولا عن أحدٍ من إخوانه المسلمين، فشيوع أخبار السُّوء قد يُخفِّفُ من وَقْعِها على النفوس، فتزول الرَّهبة من الإقدام عليها، بخلاف سَترها، فإنه وازعٌ قد يَزع النفوس عن تذكُّرها، وقد بين الله تعالى لنا في آخر الآية أننا نحسب أنَّ التَّحدُّثَ بأخبار السُّوء أمرٌ هيِّن، لِقلَّة عِلْمنا بخطر نشْر قالةِ السُّوء، فقال لنا: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فلْتَحذر أيها القارئ الكريم من نشر مثل هذه الأخبار، ولْتحذر الصحافة من نشرها كذلك، فضلا عن تضخيمها بعناوين مرعبة، فضلا عن إبرازها وكأنها ظاهرةٌ طبيعية، ثم إن اتِّهام إنسان بالانتحار هو أنْ نحكم على إنسان أنه أقدم على الموت بفعل نفسه قاصداً بذلك إنهاء حياته، ضيقاً من هموم الدنيا وقنوطاً من رحمة الله، وقد أحببت بهذه المناسبة أن أنـبِّـه إلى حقيقتين شرعيَّتين، الأولى أنَّ قصدَ الانتحار، مما يَـصْعُبُ إثباته، والآخر، أنَّ الأصل في المسلم أنه لا يمكن أن يُقدم على هذا العمل ما دام مكتمل الوعي تامَّ الإدراك، أما صعوبة إثبات الانتحار، فلأنَّ القاعدة في الشريعة الإسلامية أن الشيء كلما عَظُمَ قدْرُهُ واشتدَّ خَطَرُهُ بالَغَ الشرعُ في إبعاده وتردَّد في قبول دلائله وبـيِّـناته، احتياطاً لحرمة الأديان والنفوس والأعراض، ولعل أَجْلى مثالٍ لذلك، هو احتياطُ الشرع في إثبات واقعة الزنا، لعظيم قدْرها وشدَّة خطورتها، فهي فضيحةٌ على الرجل، وفضيحة على المرأة، وفضيحةٌ على أولادهما وأهليهما، ولذلك منع الإسلامُ التقوُّل على الآخرين بغير برهان ولا حجَّة، بل شَرَع حدَّ القذف في حق مَن ألصق تهمة الزنا بمسلم، ما لم يُثبت كلامه بـبـَيِّـنةٍ معتبرة، فالتقوُّل على الآخرين شأنه خطير وضرره دائم، كما قال النعمان بن المنذر: (قد قيل ذلك إنْ حقّاً وإن كذِباً***** فما اعتذارُك مِن شيءٍ إذا قيلا) وإنما كان التغليظ في حق القاذف، لأنه قولٌ بالظنِّ غير الجازم، وقديماً قال أكثم بن صيفي كلمةً، صارت مثلاً لمن ظهر للناس منه أمرٌ أنكروه عليه، فقال: (رُبَّ مَلومٍ لا ذنب له) فمن الذي يملك أن يثبت أن هذا المتَّهَم بالانتحار قَصَدَ هذا الفعل الذي أدَّى إلى وفاته، ونحن نعلم أن الـقُصُـودَ والنِّيَّات أمرٌ خفِيٌّ لا يُـطَّـلَعُ عليه، ولا يعلمه إلا الله سبحانه، فمن يَملك أنْ يُثبت أنَّ هذا المتَّهَم كان في حالة نفسية صحيحة، وإذا كان في حال نفسيَّة سويَّة، فهل هذا الفعل يفضي إلى الهلاك يقيناً؟ وإذا كان يفضي إلى الهلاك يقيناً فهل يعلم المتوفَّى ذلك، بحيث أقدم على هذا الفعل ليقتل نفسه، أم أنه قصد مجرَّد إلحاق الأذى بنفسه؟ وإلحاق الأذى بالنفس عملٌ محرم شرعاً، غير أنه لا يدل على قنوط صاحبه من رحمة الله، فهذه كلها شُـبـَــهٌ محتملة، فيَحْرُم علينا أن نطلق عليه تهمةَ الانتحار جزافاً، فرحمة الله واسعة، وعفْوُه يشمل ما دَقَّ من الذنوب وما عَظُمَ، فلا يجوز أن نَتَألَّـى على الله ونضـيِّـق رحمته، فهذا التألِّي هو الذنب الذي لا ذنب مثله، فرَبُّ العالمين أَرْأَفُ بعبادِه من الأمِّ بوليدها، وأمَّا أنَّ المسلم لا يفعل مثل هذا العمل، فلأن الانتحار إنما هو مظهرٌ تتجلَّى فيه حقيقةٌ نفسية، وهي إساءة الظن بالله تعالى باعتقاد أنَّ في رحمته سبحانه قصوراً عن أن تَـسَعَ ذنوب العباد، هذا العمل لا يقوم به المسلم لأسباب ثلاثة، بيانها في المقال القادم إن شاء الله .

ما اسْتُرِقَّ الأحرارُ بمثل الدَّين 2-2

ذكرتُ في المقال السابق أن الله لم يمنع عباده من الإقتراض، فرخَّص لأحدنا أن يستدين مِن أخيه، بل إنه حضَّ الأغنياء على الإقراض، فجعل أجْرَه عظيم عنده سبحانه، ففي الإقراض تيسير للمعْسِر، وتفريجٌ لكرْبة مسلم، ومن أجل هذا كان المقرضُ مشمولاً برحمة الله، ثم إذا عجز المقترضُ عن السَّداد، فإنَّ في إنْظارِه ثوابٌ فوق ثواب الإقراض، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن أنظر معسرا، أو وَضَعَ له، أظلَّه الله يوم القيامة تحت ظلِّ عرشه يوم لا ظل إلا ظله) وقد صحَّ أن رجلاً مؤمناً من الأمم السابقة-ممن لم يكن له عملُ خيرٍ قطُّ- كان يُداين الناس، وكان يقول لخادِمِه: (إذا أتيت معسرا فتجاوَزْ عنه، لعل الله أن يتجاوز عنَّا) فحقَّق الله له رغبته، فلقي الله فتجاوزَ اللهُ عنه، فما أعظمَ ثوابَ أصحابِ الأموال إذا قصدوا أصحاب الحاجات ليقرضوهم، فكم في الناس مَن لا يريدون الاقتراض، غير أنَّ مروءاتهم تَضطرُّهم إلى الاقتراض، فيستدينُ الواحدُ منهم مِن أجل أنْ يدفع عن نفسه ذُلَّ المسألة، أخذاً بمكارم الأخلاق التي دعا إليها رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بقوله:(مَن يستعْفِفْ يُعِفَّه الله، ومن يستغْنِ يُغْنِه الله) فكثير من الشباب يريدون السِّتر والعفاف، ويعزُّ على الواحد منهم أنْ يكون عالةً على والدَيْه، فضلاً عنْ أنْ يُضطرَّ لسؤال الخلق، فيرَى أنَّ أخْذَه القرض أهْوَن عليه مِن أخْذ العطيَّة، فيقترض ليأكل من كسبه، ليُكْرم نفسه، ذلك أنَّ التَّعفُّف يَحصل للعبد إذا تعلَّق قلبُه بالله، فاستغنَى بربِّه عن مِنن الناس، فهذا القرضُ الذي يراد به التعفف هو الذي وصفه عمرو بن عبيد بقوله: (داءٌ طالما وفَدَ إلى الكرام) ومن أجل هذا نَدَبَ الفقهاءُ الأغنياءَ إلى إقراض أصحاب الحاجات، لأن أجْرَ هذا الإقراضِ قريبٌ مِن أجر الصدقة، فإنَّ مَن أقرض مرَّتين بمنزلة مَن تصدَّق مرَّةً واحدة، فقد روى ابن حبَّان أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم قال: (مَن أقرض اللهَ مرَّتين، كان له مثل أجر أحدهما لو تصدق به) وربما زاد ثواب المقرض على المتصدق، وذلك إذا كان القرض وَقْفاً، مثل أن يَحْبسَ مالاً ليُقرض به محتاجاً للعمل، فإذا أعاده المقترض، يُعطَى قرضاً لشخصٍ آخر، وهكذا ينتفع الناس به، فيتضاعف أجْرُه إنْ حَسُنتْ نيَّتُه إن شاء الله تعالى، وهذا أفضل مِن صدقةٍ قد تقع في يد شخصٍ غنيٍّ عنها، فيا ليت أغنياءنا يلاحظون هذا المعنى، ويساعدون الشباب في بحثهم عن سُبُل الكسب، وفضل الله واسعٌ، فنيَّةُ المؤمن خير من عمله، وقد قال بعض الصالحين: (لِأَن أُقْرِضَ مَالِي مرَّتَيْنِ أَحَبُّ إليّ من أَنْ أَتصدقَ به مرَّةً واحدَة، لأن الصدقة ربما وقعت في يد غنيٍّ عنها، وصاحب القرض لا يستدين إلا من حاجة وضرورة) ثم إنَّ الإسلام حين أباح عقد المداينة، فإنَّه حاطَه بضوابط وشروط، هي في حقيقتها آدابٌ وأخلاق، ومن شأنها الحيلولةُ دون أنْ تُؤكل أموال الناس بالباطل، والحيلولة دون وقوع التنازع بين المقرِض والمقترض، فإذا اقترض المرءُ مالاً، لِـحاجةٍ عرَضتْ له، وكان عنده مِن المال ما يُمكن أن يبيعه لسداد دينه لو عجز عن السداد، وهو ما يُعبِّر عنه الفقهاءُ بقولهم: أنْ تكون ذمَّتَه تَفِي بما استدانَه مِن مال، فلا حرج عليه إن شاء الله تعالى، ومثال ذلك أنْ يقترضَ شخصٌ مبلغاً من المال قدْرُه مِائة ألف ريال، ويكون عنده أثاثٌ قيمته مِائة ألف ريالٍ أو أكثر، أو أنْ يكون عنده ذهبٌ قيمته مِائة ألف ريالٍ أو أكثر، أو أنْ يكون عنده أرض قيمتها مِائة ألف ريالٍ أو أكثر، فهذا إذا عجز عن السداد، فإنه يمكن أن يبيع الأثاث أو الأرض، ليسدد الدَّين الذي عليه، وبهذا يحفظ للدائن حقَّه، فخطر الدَّين عظيم، وكثيرٌ من الناس يغفلون عن هذا، ويقترض الواحدُ منهم لغير ضرورةٍ ولا حاجةٍ، فيقترض لشراء أغراضٍ كمالية، فيُقرضُه الغنيُّ ظنّاً منه أن المقترضَ محتاجٌ إلى المال، فقد غشَّه، فلْيحذر الواحد منَّا قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو أن رجلا قُتل في سبيل الله، ثم أُحْيِيَ، ثم قُتل، ثم أُحيي، ثم قُتل وعليه دَينٌ، ما دخل الجنة)

ما اسْتُرِقَّ الأحرارُ بمثل الدَّين

يتساهل بعض الناس في الاقتراض، فربَّما اقترض مِن غير ضرورةٍ ولا حاجة، فطالما باحَ لي بعضُ مَن يتَّصل ليَستفتي، بأنه استدان مِن أجل شراء بعض الحوائج التي لا تُعَدُّ من الضروريَّات التي لا يستقيم حاله بفواتها، والتي ربَّما اختلَّ بِفقْدانه لها نظامُ عيْشه، ولا تُعَدُّ كذلك من الحاجيَّات التي يَحتاج إليها توسعةً ورفعاً لما قد يلحقه بِفَقْدِها مِن ضيقٍ ومشقَّة، وإنما استدان من أجل شراء شيءٍ يُمكنه الاستغناء عنه، وهو ما يسمِّيه الفقهاء بالتحسينيات، أي مِن أجل توفير شيء من الألبسة أو الأطعمة التي هي مِن قبيل التكميليَّات والتَّتمَّات التي يَـحْـسُـن بها حالُه على سبيل التنعُّم والـتَّـرفُّـه المباح، أوأَنْ يستدين الرجلُ مبلغاً من المال من أجل أَخْذِ أولادِه لسفرٍ مباح، كالسِّياحة والتَّنزُّه، ويفوتُه ما في الاقتراض مِن حرجٍ على النَّفس وحرج على على الدِّين، فالدَّينُ ثقيلٌ على النفس، لأنها في عموم أحوالها يعزُّ عليها أن تَحتاج إلى الدَّين، وكلما كان الإنسانُ أَعْقل كان عن الاقتراض أبْعَد، وهذا هو الذي يجعل كثيرا من الناس يتحمَّلون مشقَّة الفاقة فلا يقترضون، كما قال التابعي الجليل حبيبُ بن أبي ثابت: (ما احْتَجْتُ إلى شيء أَسْتَقْرِضُه إلا استقرضْتُه مِن نفسي) يريد أنه يصبر إلى أنْ يغنيه الله، وفي هذا يقول محمود الورَّاق: (وإذا غلا شيءٌ عليَّ تَرَكْتُه ***فيكونُ أرخصَ ما يكونُ وقدْ غَلا) وما ذاك إلا أنهم يرون الدَّين كلَّه بُؤْس، هَمٌّ بالليل وذُلٌّ بالنهار، قيل: ما اسْتُرِقَّ الأحرارُ بمثل الدَّين، وإذا كَثُرَ الدَّين صيَّرَ الصادقَ كاذبا، فإنَّ الرجلَ إذا عجز عن السداد ربَّما وَعَدَ فأخلف، وحدَّثَ فكَذَب، ولذلك تجدُه يَتوارَى عن أعين الناس ويَشْرُد منهم، فقد سأل عمرو بن عبيد عن صديقٍ له، أين هو؟ فقيل: (قد توارى مِن دَينٍ رَكِبَه) ومِن غُرر الأمثال السائرة لأبي بكر الخبَّاز البلدي: (إذا استثقلتَ أو أَبْغضتَ خَلقاً *** وسَرَّكَ بُعْدُهُ حتى التَّنادِ) (فشرِّدْهُ بِقَرْضِ دُريهماتٍ *** فإنَّ القرضَ داعيةُ البِعادِ) وأسوأُ ما في الدَّين أن المدين ربَّما رأى نفسَه مُنْحَطَّةَ الرُّتبةِ عند الناس، وما أَبْأسها من نظرة، وما أشدَّ وَقْعها على النفس، ومن أجل هذا كان مِن هَدْي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الاستعاذة من الدين، فكان يقول: ( اللهم إني أعوذ بك من المأْثَم والـمَغْرَم) والـمَغْرَمُ هو أن يستدين الشَّخصُ ديناً، ثم يحلُّ عليه الأجل، فيَعجز عن أدائه، فإذا كان أولُ أَمْرِ المدين الهمَّ، بسبب ضيق يده عن أداء ديونه، فإنَّ آخرَ أَمْرِه أنْ يُسْلَب مالُه، فيَحكم عليه القاضي بالإفلاس، ثم يبيع عقارَه وأملاكَه، ليقْضي بثمنها حقَّ غرمائه، كما قالَ سيِّدُنا عمرِ بن الخطاب رضي الله عنه: (وإياكم والدَّين، فإنَّ أوَّله همٌّ وآخِرَه حَرَبٌ) ويقصد بالحَرَب أنْ يصير مُفْلِساً حين تُباع أمواله، وإذا كان الدَّين بهذه الحال المخوفة، فإنَّ هذا لا يعني إغلاق باب التداين بين الناس، لأنَّ التداينَ ضرورةٌ معيشية، فهو سببٌ من أسباب رواج المعاملات، فمَنْعُ التداين شاقٌّ على المجتمعات، بل إنَّ في مَنْعه إخلالٌ بنظام التعاملات المالية، وفي الإذن فيه تيسيرٌ على المتعامِلِين، ورفْعٌ للحرج عن التُّجار، فضلا عن الفقراء والمحتاجين، فلذلك أذن اللهُ فيه، بدلالة قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) ومن فضل الله على عباده أنه حين يشرعُ لهم حكماً، فإنه يحوطُه بضوابط وشروط وآدابٍ، شأنها الحيلولةُ دون وقوع التنازع فيه، فتأمَّل في قوله: (أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) تجده قد شرعَ الأجَلَ وَوَصَفَه بكونه مسمَّى، ضبْطاً له بنهايةٍ مسمَّاةٍ معلومةٍ، لتندفع بها الدعاوَى، ولاحِظْ أنه حين كان التداينُ مبْناه على البِرِّ والإرفاق والمكارَمة، وهي مواضعٌ يتساهل الناس في انعقادها ابتداءً، ناسب تشريعُ توثيق الدَّين بالكتابة، نفْياً للحرج عن الـدائن حين يريد التوثيق فيمنعه الحياء، ولألا يَرَى المدينُ أنَّ في تَوثُّق الدائن بطلب الكتابة، سوءُ ظنٍّ به، ففي التوثيق معذرةٌ لأصحاب الحقوق، وإقْصاءٌ لأسباب الخصومات، هذا في الدنيا، أما الآخرةُ فالخطْبُ فيها أخطر، لأن الحقَّ فيها ليس من حقوق الله التي مبْناها على العفْوِ والرحمة، وإنما الحقُّ فيها للخَلْق، والناس يريدون حقوقهم، فمَبْنَى معاملاتهم على المشاحَّة، ولذلك غلَّظ الشارع الحكيم شأن حقوق الناس، وللاقتراض شروطٌ وضوابط، هي لمن تأمَّلها آدابٌ وأخلاقٌ، بل هي مروءةٌ، لو فطن لها حاتمُ الطائيُّ لَفضَّل دقائقها على عظائمه، وبيانها في المقال القادم إن شاء الله .

الرحلة في سبيل العلم

طلب العلم سببٌ يزيل جهل الإنسان، ويُعلي شأنه ويرفع قدره، والعلمُ مُيسَّر لمن سعى له، فلا عذر لـمَن ترَكَه، كما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه ( لو عُذِرَ الجاهلُ لأجل جَهْلِهِ، لكان الجهلُ خيراً من العلم) فأجهلُ الناس مَن قَدَرَ على رفع الجهل عنه ولم يفعل، قال أبو الطيِّب: (ولم أرَ في عيوب الناس عيباً***كنقص القادرين على التَّمام) وكان من حكمة الله أن جعل في كل عصرٍ نماذجَ واقعية تتجسد فيها هذه المعاني، والتاريخُ حافلٌ بنماذج عظيمة، وهبها اللهُ همَّةً عالية ونفساً طامحةً إلى الرِّحلة والتَّرقِّي في دَرَجات العلوم، والرِّحلةُ في سبيل العلم معنىً عظيم وقانون شريف، وهدْيٌ سلَكَهُ الصحابةُ رضوان الله عليهم ومن بعدهم، لتحصيل مزيد كمالٍ في التعلُّم، وقد قال أبو تمام: (وطولُ مقام المرء في الحيِّ مُخْلِقٌ *** لِدِيباجَتَـيْهِ فاغـتـربْ تتجدَّدِ) فالأمر كما قال أبو بكر يحي بن بَقِيّ القرطبي: (ولِيْ هِممٌ ستقذفُ بِيْ بلاداً *** نَأَتْ إمَّا العراقَ أو الشآما) ومن هذه النماذج الشيخ أحمد بن علي المبارك رحمه الله، فقد تَعَلَّم في بلده الأحساء، وقد كانت مدينةَ العلم والعلماء وعروس الخضرة والماء، فنهل من معينها، ورغم ذلك فإنه لم يَقنَع، بل شدَّ رحْلَه للعراق ثم إلى مصر حيث درس في كلية اللغة العربية بالأزهر الشريف، وتتلمذ على علماء أجلاَّء، كالشيخ محمد محي الدين عبد الحميد وغيره، والتَقى بأئمَّةٍ كبار، ازدانت بهم مصر، استفاد منهم علما وأدباً وسَمْتاً، كشيخ الإسلام مصطفى صبري وغيره، غير أن الرحلة لا تكون غالباً إلا بباعثٍ يستثير في النفس طموحَها نحو ما تصبو إليه، وهذا ما حدث للشيخ أحمد حيث يقول: ( وكان المسافرون إلى خارج الأحساء عندما يعودون يتحدثون عن هذه الأمور أو هذه المخترعات ويتناقلها الناس بينهم وأحياناً يطلع الناس عليها في المجلات والجرائد) إلى أن قال: ( فصرتُ أواصلُ قراءةَ تلك الجرائدِ والمجلاتِ، وأحاول أن أعرف ما وراءها، والذي هالني أنني وجدت أن هناك حياة أخرى في تلك البلدان - خصوصاً في مصر - تختلف عن الحياة في بلادنا) ومن طريف المشابهة أن الحافظ أبا بكر بن العربي الإشبيلي رحمه الله، يذكر أحد أسباب رحلته من الأندلس إلى المشرق - وهو ابن ستة عشر عاما - حين دخل رجلٌ على والده بِكُتُبٍ من تأليف الفقيه الأصولي أبي جعفر السِّمناني، قال ابن العربي : ( فسمعتهم يقولون: “هذه كتبٌ عظيمةٌ وعلومٌ جليلة جَلَبَها أبوالوليد الباجيُّ مِن المشرق” فصَدَعَتْ هذه الكلمةُ كبدي، وقَرَعَتْ خَلَدي، ونذَرْتُ في نفسي، لئن مَلَكْتُ أمري، لأُهاجِرَنَّ إلى تلك المقامات ولأفِدَنَّ على أولاء الرجالات، ولأتَمَرَّسَنَّ بما لديهم من المعاقد والمقالات) وكان مما قاله ابن العربيِّ في رحلته إلى المشرق: (وما كنت أسمع بأحدٍ يُشار إليه بالأصابع، أو تُثْنَى عليه الخناصر، أو تُصيخ إلى ذكره الآذان، أو تُرفع إلى مَنْظَرَتِهِ الأحداق، إلا رحلت إليه) وكذلك فعلَ الشيخ أحمد رحمه الله، ثم إنَّه ذاقَ من الرِّحلة حُلْوَها ومرَّها،حتى أنه مرَّت به حالٌ من الفاقة، إذْ لم يكن يجد مِن الطعام غيرَ الفُول، هو فطوره في الصباح، وغداؤه في الظهيرة وعشاؤه في المساء، فمُرِضَ مرضاً كاد يموت بسببه، ولقد تأمَّلت في تاريخ الشيخ أحمد رحمه الله، فرأيتُه حافلاً بالأحداث والوقائع، ورأيته شاهداً على أحداثٍ جسام وحقبة من الزمن ولَّتْ، ورجالات كانوا نجوماً في سماء مصر، وإذا كان الزمن لا يعدو أن يكون فراغاً لا معنى له، فإنَّ الشيخ أحمد قد استثمر زَمَنَهُ في رحلةٍ كانت أشبه بِملْحمةٍ مِن ملاحم التاريخ، كوَثْبةِ فارسٍ حصلَتْ في ليلٍ بَهيم، واستطاع خلال رحلته أن يُهَيِّء لنفسه محيطاً علمياً وأدبياً سامياً، فَصَقَلَ في هذا المحيط مواهبَه، وشكِّل فيه شخصيَّته، فصارتْ له ثقافةٌ بعيدةٌ عن الجمود والتحجُّر، هذه الثقافة الحـيَّة التي طَبَعَت على ذاتِه قِيَماً خضعت لها جميع أنشطته الثقافية والاجتماعية والدبلوماسية، هي التي دَفعَتْهُ إلى جمعِ مكتبةٍ حَوَت أكثر من عشرة آلاف كتاب، وهي التي دَفعَتْهُ إلى فتح ندوته الأسبوعية سنة 1411هـ، والتي بلغ عدد ما أُلقي فيها أكثر من مِائَتَي محاضرة مسجَّلة، ولقد كانت هذه الندوة لساناً ناطقاً ينادي بهدم الجهل ونصرة العلم، يتحصَّلُ لمرتاديها الاطلاع على العلوم والمعارف المتنوِّعة، ويجدون فيها سوقاً عامرةً بما يروِّح عن النفس مَلالَها، ويزيل عنها عناءَها، بالفوائد العلمية والمسامرات الأدبية .

العيدُ ثوبُ بهجةٍ خَلَعَه اللهُ على عباده


يطلق العرب لفظ العيد ويريدون به كلَّ اجتماعٍ لمناسبةٍ تتكرَّر وتعود، وقد ذكر سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه أنه حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة المدينة المنورة، رأى للمشركين يومان في السنة يلعبون فيهما، ويلهون بلعبٍ لا يُرضي الله، فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قد أبدلكم بهما خيرا منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر) فأبدل مظاهر اللهو عند المشركين بمظاهر التكبير لله تعالى وتحميده وتوحيده، وفيهما شكرٌ للمنعم، بخلاف أعياد غير المسلمين، التي غايتُها لعبٌ ولهوٌ لا معنى له، لا يستشعر العبدُ فيه فَضل المنعم ولا يلهج بشكره، ولا يَعرفُ لوجوده في الحياة معنَى، وهذه غفلةٌ ما بعدها غفلة، وأما أعياد المسلمين فهي غايةُ الأدب مع الله، فإنهم حين يرون ما هم فيه مِن نِعمٍ وخيرات وبحبوحة عيش، فإنهم يَشهدون منَّة الله عليهم، وهذا هو عينُ الشُّكر، بمشاهدة الـمُنْعِم في النِّعمة، وظهورُ المعطِي عند العطاء، فلا يرى العبدُ النِّعمةَ إلا مِن الله وحده، كما قال سبحانه: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) بلا حولٍ ولا قوَّةٍ من أحدٍ من العالَمين، فَيفرَحُ القلب لأجْلِ نِعم المولى، فإذا فرِحَ القلبُ، نطق اللسان، فلَهَجَ بحُسن الثناء وتِعداد الآلاء، والتكبير والتحميد، وبهذا صارت أعياد المسلمين أيام تكبير وتهليل وحَمْد، وأيام أُنس وحبور، فيفرح المسلم لانخلاعه من مشاغل الدنيا وهمومها، وتفرُّغه في العيد لأهله وأصحابه، لا ليبثَّهم همومَه وآهاته الحرَّى، وإنما ليشترك معهم في الفرح والسرور بخيرات الدنيا التي خلقها الله لعباده، ونَثَرَها لهم على الأرض مسخَّرةً مذلَّلةً، كما قال تعالى: ( اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ) فالفرح والأُنْسُ والابتهاج حسنٌ ومندوبٌ إليه، بل إنَّ المطلوب من المسلم أنْ يكون دائمَ الرِّضى والبِشْر، في السراء والضراء، فحالُه موضع إعجاب وفخر واعتزاز، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجبا لأمر المؤمن، إنَّ أَمْرَه كلَّه خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إنْ أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإنْ أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له) ثم إنَّ لِبْس الجميل من الثياب أمرٌ حسنٌ، فقد سأل رجلٌ رسولَ الله: إنَّ الرجلَ يحبُّ أنْ يكون ثوبُه حسناً ونعلُه حسنةً، فقال صلوات ربي وسلامه عليه: (إن الله جميلٌ يحبُّ الجمال) وفي عيد الفطر يفرح المسلم شكراً لله تعالى على إتمامه لصيام الشهر الفضيل، ويفرح في عيد الأضحى شكراً لله تعالى على ما وَهَبَه اللهُ من مضاعفة الأجور في العشر من ذي الحجة، والتي أعظمها فَضْلُ الحج، ومن أعظم الفرحِ الفرحُ بنعمة الإسلام، فهذا الدِّين نعمةٌ ومِنَّةٌ لا يعرفها إلا مَن ذاقَ مرارَةَ فَقْدِها، فَمَن خَبَرَ أخلاق الجاهليَّة، عرف فضْل أخلاق الإسلام، كما قال سيدنا عمر: (لم يعرف الإسلام مَن لم يعرف الجاهليَّة) فبضدِّها تتميَّز الأشياءُ، والضدُّ يُظْهِرُ حُسْنَه الضِّدُّ، وإذا كان المسلمون يفرحون بالأعياد لما فيها من اللَّذائذ والشهوات، فإنهم يفرحون كذلك، بأن هذه النعم عطاءٌ من الله وحده، وليستْ فضْلاً من أحدٍ من الخلق، وقد شرع الله لعباده في العيد صلاةً، وجعلها جائزةً للمرأة، وسنَّةً للرجل، وجعل وقتها من بعد طلوع الشمس وارتفاعها قدْر رمح، أي عشر دقائق، وبعدها خطبتان بدايتهما تكبير ويتخللهما تكبير، يكبِّر الرجل وتكبِّر المرأة، يتكرر التكبير، فشعار العيد هو التكبير، ومن آداب العيد النظافة والجمال، فندَبَنا اللهُ إلى الاغتسال بعد فجر العيد، ونَدَبَنا إلى التطيُّب والتَّجمُّل في اللباس، فليس العيد يوم انقباض وتقشُّف، فلا ينبغي أنْ يترك المرءُ ما ندبَه الله إليه من التَّطيُّب ولبس الجديد من الثياب، ما دام قادراً على شراء الطيب والملْبس الحسن، فقد جعل اللهُ العيدَ يوم فرح وأُنس وسرور، فالعيدُ ثوبُ بهجةٍ خَلَعَه الله عز وجل على عباده، ولباسٌ شريف أكرَمهُم اللَّهُ به في الدنيا، فناسبَ أنْ يَظهر العبدُ لابسًا خُلْعَة الملكِ، وما ألطف قول بعض الصالحين: (أَحْرَى الملَابِسِ أَنْ تَلْقَى الحَبِيبَ به***يومَ التَّزَاوُرِ في الثَّوب الَّذي خَلَعَا) فلْنَفْرَح في العيد برؤْية مِنَّة الله علينا، كما قيل: (اللهُ يعلم أنَّ الناسَ قد فَرِحوا *** فيه وما فَرْحَتي إلا برؤياك)

ما كُـلُّ مَن حج بيت الله مَـبرورُ

الحج شعيرة إسلامية وركن به يتحقق المسلم بمعنى الإسلام وهو رحلة يسافر فيها العبد مرتحلا عن أهله وماله وولده إلى ربه متجرِّداً عن الدنيا وغرورها منصرفاً عما فيها من مظاهر الزينة والزخرف يحدوه الأمل في قبول تلبـيـتـه واستجابة دعوته في رحلته إلى بلدٍ : (بها كعبة الـحُـسْن التي لِـجَمالها *** قلوبُ أولي الألباب لـبَّـتْ وحـجَّـتِ)
وإذا كان في إدراك الـعـقــلاء مقاصد الشريعة من الأوامر والنواهي ما تستأنس به نفوسهم فيكون ذلك مريحاً لها معينا على أداء الأوامر بجميع شرائطها وأركانها ، فإن الله سبحانه قد وظَّـف على عباده أوامراً ونواهياً لم يجعل للنفس حظاً فيها ، ولم يجعل للعقل سبيلا للوقوف على كثيرٍ من حِـكَـمِـها ومعانيها .
ومن هذه الأعمال فريضة الحج وما فيه من طواف وسعي ورمي وتجرُّد عن المخيط والمُـحيط وغير ذلك ، فلعل في تشريعها على هذا الوصف ما يُـحَـقِّـق الإنسان بمعنى عبوديَّته لله تعالى لأنه يقوم بأعمالٍ وحركاتٍ لا معنى لها غير الانـقـياد التام والطاعة المطلقة وهذا هو أظهر معاني العبودية وهو مقصود الحج الأعظم .
وكأني بالحاج حين يقترب من تلكم البقاع المقدسة التي ستكون برهانه ووسيلته ليُـظهر لِـمَـولاه أبلغ صورةٍ من صور عبوديته له ، كأني به في تلك الساعة يخاطب قائد طائرته أو سيارته:
خفِّـف الـوَطءَ واتَّــئِــد يا حادي *** إنما أنت سائقُُ بِـفؤادي
ما ترى العيسَ بين سَـوْقٍ وشـوقٍ *** لِـربيع الـرُّبـوع غَـرثى صَــوادي
يا سـميري رَوِّح بـمكة رُوحِــي *** شـادياً إن رغبت في إسعادي
بل كأني به حين يصل تلك البقاع وتكتحل عيناه برؤية تلكم المشاهد ويفيض قلبه بمشاعر المهابة والجلال يتغنى ويقول :
(القلب يحسد عيني لذَّة الـنَّـظَرِ *** والعينُ تحسد قلبي لذَّة الفِكَرِ)
من أجل ذلك ما رؤي الشيطانُ في يومٍ أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة .
ومن أجل ذلك كان الحج موضعاً تُـحطُّ فيه الأوزار وتغفر فيه الزلات وتقال العثرات ، ويَــحسن فيه ترك كثير من مظاهر التنعُّـم والترفُّه من المباحات ، ويتأكد فيه اجتناب سائر المحرمات بل تـتـأكد مضاعفة السيئات.
ذلك أن المعصية كما يقول العلماء وإن كانت فاحشة في ذاتها فإنها في فناء بيت الله أفحش ، وقد روي عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : ما من بلد يؤاخذُ فيه العبد بالنية قبل العمل إلا مـكَّـة ،ثم تلا : ( ومن يُرِد فيه بإلحاد بظلم نُـذِقهُ من عذاب أليم ) فجعل الحساب على الإرادة المجرَّدة .
وقال ابن المنيِّـر رحمه الله : ( اعلم أن تضييعه لِصلاةٍ واحدة سيئةٌ عظيمة لا توفِّيها حسنات الحج )
فوا عجباً لِعبدٍ سافر للحج قاصداً بيت مالك الملك و ملك الملوك ، وهو على غير حال الذِّلَّة والافتقار بحيث يستكثر من مظاهر الزينة ، وأطايب الأطعمة ، وسبل العيش الرغيد ، غير هيَّابٍ من ارتكاب المحرمات أو إسقاط الواجبات . كيف لا يخجل حين يلهج إلى الله في الدعاء وهو مستهين به مستـخِـفٌّ بأوامره . وقد قال أبو عبد الله ابن الحاج العَبدري رحمه الله في كتابه ( المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النِّـيَّـات ) : إذا علم المُـكلَّف أنه تفوته صلاةٌ واحدة إذا خرج إلى الحج فقد سقط عنه الحج لِـفَـقدِهِ شرط الاستطاعة .
وقال المحب الطبري رحمه الله في منسكه : والعجب من قوم يأخذون أنفسهم بحج الـتَّـطَـوُّع مع كونهم لا يَسلَمُون فيه من إخراج الصلوات المفروضات عن وقتها وغير ذلك من المعاصي وهذه خسارة وجهالة .
وقد يتجاسر بعض الناس ويرتكب شيئا من محظورات الحج ويقول : الفدية تُـخلِّصني من الإثم ، فإن ذلك كما يقول الشيخ خليل بن إسحاق بمنزلة من يقول : أنا أشرب الخمر والـحَدُّ يطهِّـرني .
وقديما ذكر فقهاؤنـا رحمهم الله حواراً رمزياً عن أحد الطلبة المغاربة وهو أنه اختصم شياطين المشرق والمغرب أيهما أكثر غواية ؟ فقال شياطين المشرق لشياطين المغرب : نحن أشدُّ منكم غواية ، لأنَّـا نحمل المرء على المعاصي وارتكاب المحظورات في مقامات الأنبياء عليهم السلام فقال شياطين المغرب : نحن أشد لأنَّـا نجد الرجل في أهله وولده يؤدي الفرائض من الصلاة والزكاة وغير ذلك وهو في راحة وملائكته معه كذلك من قلَّة التَّبعات ، فإذا قال القوَّال في التشويق إلى أرض الحجاز ننخسُهُ بِسِكِّين فيبكي ، ونحمله على الخروج فيخرج ، فَـمِـن يومِ يَـخرُج نَـحمِـلُهُ على ترك الفرائض وارتكاب المحظورات من يوم خروجه إلى يوم دخولـه إلى أهله ، فَـخَـسِـر في نفسه ومالِـهِ ودينه . فسلَّم شياطين المشرق لشياطين المغرب شِـدَّة الغواية . قال الإمام الـبُـرزُلِـي رحمه الله : وقد شاهدت في سفري للحج بعض هذا .
فإذا علم العبد من نفسه أنه يُــفتن في دينه فيقع في كثير من المنكرات أو إسقاط شيءٍ من الواجبات بسبب الزحام أوغيره . فقد كره له العلماء أن يُـقدم على الحج ، لأن ما يفوته من الثواب أكبر مما يُـحصِّـله من أجر الحج ، كما قال ابن المنـيِّـر : اعلم أن تضييعه لصلاةٍ واحدة سيِّـئةٌ عظيمة لا توفِّيها حسنات الحج .
خاصة إذا أدرك شرف المشاعر التي يقف عليها وعجزه عن القيام بِـحقِّها من التعظيم والإجلال ، وقصوره عن احترام الموضع الذي هو راحل إليه ، ورُبَّـما لم يكن له من سفره غير مزاحمة المسلمين ومضايقتهم ، وهي آثام تزيد على ما يُـحصِّـلُهُ من أجر الحج .
ورحم الله القائل :
لا يقبل اللهُ إلا كلَّ طيبةٍ *** ما كلُّ من حج بيت الله مبرورٌ