الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
الفقه بلا أصولٍ فوضى


ذكرت في المقال السابق أنَّ حكمة الله تعالى اقتضتْ أن تتضمن النصوصُ القرآنيةُ والحديثيةمعانيَ كلّية، وقواعدَ ضابطة، هيأصولٌلطرق الاستنباط والاستدلال،وهي قواعدٌ لتفسير النصوص، ولأنها مستمدَّةٌ من النصوص فإنها متوافقة مع الفطرة، وقد كانت هذه الأصول حاضرةً في أذهان الصحابة والتابعين في استدلالاتهم، وتعاقَب الأئمةُبعدَهم على تفصيل القول فيها والتفريع عليها، فنشأ الفقهُ الإسلاميُّ وترعرع فقهاً له أصوله التي يسير عليها،وله مقاصده التي يرمي إليها، فلم يكن آراءً شخصية تتخطَّفه أهواء أفرادٍ لا نَعلَمُ لهم أصولاً ولا منهجاً للاستنباط، وإنما انتظمتْه أربعةُ مدارس، لكلِّ مدرسةٍ أصولها التي تترسَّمُها، ولها حرَّاسٌ هم علماؤها الذين يقفون سدَّاً منيعاً أمام حصول أي اختلالٍ بها أو انحراف عن المنهج الضابط لها،فكانت هذه المدارس هي الأركان التي بُنيَ عليها فقهُ الشريعة الإسلامية، وهذا ما جعل فِقْهَنا لا يَبْلَى على مرِّ الدهور، يُجيب عن كلِّ نازلةٍ تَـجِدُّ، فهو فقهٌ ثريٌّ لا يُبْسَ فيه ولا جمود، فروعُه أشبه بفروع شجرةٍ باسقةِ الأغصان يَنتظمها جذعٌ واحد، فمهما تكاثَرَت فروعُها وتنوَّعت، فإنها ترجعُ إلى ساقٍ واحدة، بخلاف مَن يسيرُ غير مُهتَدٍ بأصولٍ يترسَّمُها، فربما كانت أقوالُه انطباعاتٍ شخصية، وهي أقرب إلى الحدْس والتخمين الذي لا يكاد يَسْلَم من دخول الهوى والتَّشهِّي، وهذا بعيدٌ جداً عن علم الفقه، فالفقه هو ما استَنَدَ إلى أصول الاجتهاد، أما إذا استند إلى الثقافة أو المزاج العام، فلا يُسمَّى فقهاً، وهو مَدْعاةٌ إلى كثرة المنتسبين للاجتهاد، كما هو الحال في هذا العصر، ممن يجتهد مِن غير أنْ نرى له أصولا يسير عليها، وبهذا تتزايد المرجعيات وتتعدَّد بتعدُّد هؤلاء الأفراد، ولنا أن نأخذ العبرة من كثرة الفرق والجماعات التي شذَّتْ ونبتتْ على جسم الأمَّة الإسلاميَّة قديماً، بعد أنْ تحرَّرتْ من الضوابط وتخفَّفتْ من القيود، فخرجتْ إلى عالَم الفوضى الرَّحب، حتى تشعَّبتْ كلُّ جماعةٍ منها إلى جماعات،فما أخطر أن تنقاد العامَّةُ بهؤلاء،إنَّ أيْسَرَ وسيلةٍ لمن أراد هدْمَ علمٍ من العلوم هي أنْ يهدم أركانَه ودعائمه، وهي مدارسه التي يقوم عليها، فانظر ماذا يبقَى من الفقه عندما تَخلو مكتبةٌ فقهية من هذه المدارس،وإذا خلا الفقهُ مِن مَدارِسِه المعتبرة عزَّ وجودُ الفقهاء، وتسوَّرَ جدارَ الاجتهاد الجهَّالُ والمتطفِّلون، فأفْتَوا الناس بغير علم، ثم إنهم إذا نَقلوا من موائد فقهاء المدارس المؤصَّلة ربَّما شطحوا، فكانوا كحاطب ليل-وهو الرجل الذي يخرج ليلاًليحتطب، فلا يدري أين تقع يَدُه، فقد تقع على أفْعى فتقتُلَه- وبهذا تُستباح بفتاوى هؤلاء الحرمات وقد تسفك بها الدماء، لأنهم يسوسون الناسَ بفقهٍ لا عماد له ولا أوتاد، ومن ذلك ما قد يقع فيه بعض القضاة اليوم، مِن إسقاط شهادة مَن لديه طيورٌ يطيِّرها، بحجَّة أنه قرأ في كتب المدارس الفقهية أنَّ اللعب بالحمَام يُعدُّ مِن خوارم المروءة التي تُسقط الشهادة، وهذه غفلةٌ كبيرة، لأنه لا عبرة بالأسماء والأشكال في التحليل والتحريم، ولا عبرة كذلك بالأوصاف المصاحبة والمقارنة، كتربية الطيور واللعب بها، وإنما المعتبر في الِحلِّ والحرمة هو وجود الوصف المقصود لمعرفة الحالة المرعيَّة، وهو في مثالنا هذا نَقْصُ المروءة، أما تربية الطيور فلا يتعلَّق بها غرضُ الشارع الحكيم ولا تُناط به الأحكام، فالحكم مَنوطٌ بِفَقْد المروءة أو نَقْصها، وبيانُ ذلك أنَّ الناس في الماضي كانوا يُربُّون الطيور على أسطح دُورِهم، فإذا عُلمَ عن شخصٍ أنَّ لديه طيوراً على سطح داره، وأنه يُمضي وقتا طويلا مع الطيور على سطح داره، فإنه يَرتكب بذلك فعلا لا يليق بأهل المروءات، وهو كشف عورات الجيران، لأنه يعلم أن سطح الدارموضعُ اطِّلاعٍ على عورات البيوت، والعاقلُ ذو المروءة لا يَرضى لنفسه أن يكون في موضعٍ يُظنُّ به أنه يكشف عورات الجيران، ومما ينبغي التنبيه إليه أنَّ أصول الفقه لا تستند إلى مجرَّد اللغة وأصولها، فلو كان فِقْهُنا فِقْهَ لغةٍ لرأينا تشريعاً عظيما عند العرب قبل الإسلام، فهم أئمَّةُ اللغة وأربابُ البلاغة والفصاحة، ولم يظهر فيهم شيءٌ من الفقه، وهكذا كان فقهُ الشريعة فقهاً مستقلاً بذاته، عالج أقضيةَ الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحلَّ مشاكلهم الأخلاقية، وهو أمر نلحظه من ذلك القدر الكبير الذي دَوَّنَتْه لنا كتب الفقه بما فيه فقه النوازل، فهو تراث علمي غزير ثري بالنماذج التطبيقية لمعالجة الفقهاء لهموم الناس ونوازلهم، غير أنَّنا وقد هجرْنا هذه الكتب لسنواتٍ طوال، فقد صارتْ عصيَّةً على الفهم فضلاً عن التطبيق، وللحديث بقية .

ضوابط التفكير 1-2

قرأ سيدنا أبوبكر الصديق رضي الله عنه قولَه تعالى: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) ، فقيل له: ما الأبُّ؟ فقال: (إنَّ هذا له التكلُّف، أيُّ أرض تُقلُّني أو أيُّ سماءٍ تُظلُّني إذا قلتُ في كتاب الله بما لا أَعلم) والأبُّ يطلق على الكلأ، وعلى كلِّ ما نبت على الأرض، وعلى ما كان للبهائم كالفاكهة لبني آدم، فلم يكن الصِّدِّيقُ يجهل ذلك، غير أنه لم يَرْضَ أن يجزم بمراد الله تعالى بغير علم، وهذا من تمام العقل وكماله، وهكذا كان الصحابة الكرام لا يتكلَّمون بغير علم ويرون الكلام بغير علمٍ تكلُّفاً، قال سيدنا عبد الله بن مسعود: ( من كان عنده علم فلْيقل به ، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم، فإنَّ الله قال لنبيه: ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) فما لا يعمونه يجيبون عنه بلا أدري، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من فاته لا أدري أصيبت مقاتله) فالتخوُّف من التعجُّل في الفتْوى شأن العالم العاقل، ومن أجل هذا فإنَّك إنْ ألقيتَ سؤالاً في أحد المجالس، فإنَّك سترى أنَّ آخرَ مَن يجيبُ هو أعلمُ الحاضرين وأكملهم عقلاً، وربَّما كان أقلُّهم علماً أسرعهم في الإجابة، فيسهل عليه التَّهجُّم على الفتوى حَدْساً وتخميناً، والعرب تقول لمثل هذا: (لا تَهرف بما لا تعرف) فهذا الرأيُ هو الرأي المذموم، لأنه غير مستندٍ إلى علم، بخلاف الرأي الحسن، فهو ما كان مستنداً إلى علمٍ، وقد دلَّنا عليها كتاب ربِّنا وسنَّة نبيِّنا صلوات الله وسلامه عليه إلى أصولٍ هي قواعد وضوابط للنَّظر والاستدلال، استنبطها العلماء وسمَّوها “علم أصول الفقه” فالرأي الصحيح هو المستند إلى معرفة العلل والأشباه والنَّظائر، كما قال سيدنا عمر في كتابه إلى أبي موسى: (الفهمَ الفهمَ فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب والسنة، اعرف الأشباه والأمثال ثم قِس الأمور عند ذلك، فاعمدْ إلى أحبِّها إلى الله وأشبَهَها بالحق فيما ترى) وقد قايَسَ سيدُنا عليٌّ وابن عباس وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وهذا الرأي هو ما قاله معاذ بن جبل حين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال معاذٌ: أقضي بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال : فبسنة رسول الله ، قال : فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله ؟ قال : (أَجتهدُ رأيي ، ولا آلو) فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ، وقال : (الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لِـمَا يُرضِي رسول الله) وهذا الرأي هو الاجتهاد الذي قاله أبوبكر الصديق حين سُئلَ عن الكَلالة، أي عن الرَّجل يموت و ليس له ولدٌ يرثُه ولا والد: (أقول فيها برأيي فإن يك صوابا فمن الله ، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان) ومن عظيم فقه عليٍّ رضي الله عنه أنه حين سئل عن مسيرِه إلى صفِّي: هل كان بعهدٍ عَهِدَه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أم هو رأيٌ رآه؟، لمْ يدَّعِ أنَّه الحقَّ الذي لا شيء سواه، وإنما قال: (بل هو رأيٌ رأيتُه) وهذه غاية الأدب والتواضع والخوف من أنْ يقول على الله ما لا يعلم، وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، جاءه رجلٌ فسأله عن حكم مسألةٍ، فأمَرَه أن يذهب إلى عليِّ بن أبي طالب وزيد بن ثابت، فذهب إليهما فأفتياه، ثم رأى عمرُ الرَّجلَ صاحبَ المسألة، فسأله عن قضاء عليٍّ وزيد، فأخبره الرَّجلُ بما أفتياه به، فقال عمر: (لو كنتُ أنا لقضيتُ بكذا) فقال الرجل: فما يمنعك والأمر إليك؟ قال عمر: (لو كنت أردُّك إلى كتاب الله أو سُنَّة نبيه لفعلتُ، ولكني أردُّك إلى رأيٍ، والرأيُ مشترَك) فمن حكمة التشريع أنَّ الوقائع والحوادث تتنامَى وتجدُّ مع الأيام والليالي، أما النصوص فثابتةٌ لا تزيد، ومن أجل ذلك وضع العلماء أصولاً وضوابطاً للتفكير والاستدلال، بها يُجاب عن كلِّ حادثةٍ تقع، وبها ميَّزوا صحيح الرأي مِن فاسِدِه، وكانت هذه الأصول حاضرةً في أذهان الصحابة والتابعين في استدلالاتهم، وعمل بها الأئمَّةُ بعدهم، فتجدها جليَّةً في فقه الإمام أبي حنيفة، ونبَّه على مُعظمها الإمام مالكٌ رحمه الله في الموطَّأ، حتى جاء الإمام الشافعي فجمعها وأحسن صياغها في كتابه الرسالة، وتعاقب الأئمة على تفصيل القول فيها والتفريع عليها، فانتفعوا بتوفيق الله لهم بهذه الأصول، وللحديث بقية .

فِقْهُ البيئة

بينت في المقال السابق أن حكمة الله اقتضت أن يفرش الأرض ويمهِّدها، وأنْ يجعلها بيئةً مسخَّرة ومُذلَّلة أتمَّ ما يكون التذلُّل للإنسان، إذْ لو كانت البيئةُ في صراعٍ مع الإنسان لصرعَتْه، ثم إنه سبحانه، استناداً إلى ما أكنَّه فيها من منافع وما نثره عليها من خيرات، من جنات وغابات وأنهار وعيون، ولما أودعه فيها من استعدادٍ للعَطاء، أمرنا بعمارتها، فقال: (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) فألهمهم عمارتها بغرسها بالأشجار والزروع، وببناء ما يحتاجونه من المساكن والضِّياع، والأحاديث التي تحضُّ على حفظ البيئة بالبناء وتحذِّر من تخريبها وهدْمها كثيرة، لا يتَّسع هذا المقال لذكرها، فمنها هذا الحديث: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها) وكذلك حديث: (ما مِن مسلم يغرس غرسا، إلا كان ما أُكل منه له صدقة، وما سُرق منه له صدقة، وما أَكل السَّبُع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير، فهو له صدقة) فتحسين البيئة عملٌ مباح، بل هو مندوبٌ إليه ندباً أكيداً، أدرك ذلك المسلمون من العهد الأول، فهذا أبو الدرداء رضي الله عنه، كان في آخر أيامه يعيش في الشام -رفع الله عنها البلاء- مرَّ به رجلٌ وهو يغرس شجرةَ جَوْز، فقال له: أتغرس هذه وأنت شيخ كبير؟فقال أبو الدرداء: (ما عليَّ أنْ يكون لي أجْرُها، ويأكل منها غيري) ثم إن الإسلام قد جعل إحياء الأرض بغرسها أو زراعتها أو غير ذلك من سُبُل الإحياء، باباً من أبواب الصدقة المفتوحة لمن أحياها، ثم جعل إحياءَها سبباً لتملُّكها، وعدَّ الفقهاءُ تدميرَ البيئة من الفساد في الأرض، ودلائل ذلك أكثر مِن أن تُحصى، قال الله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) والفساد معنىً يشمل كلَّ ما فيه خرابٌ للمنافع الدينية أوالدنيوية، فالسعي في إهلاك الحرث والنسل كناية عن السعي في تعطيل ما تقتضيه حكمة الله مِن الخلق، وهذا منافٍ للفطرة، فإتلاف النفوس بقتلها، أو إلحاق الضرر بها هدم لما أراد الله بناءَه، وكذلك الأمر في قطع الأشجار وإتلاف الزروع والثمار، فإنه رفضٌ لما أنعم به علينا، ثم إن الفقهاء تكلَّموا عن أهمِّيَّة وضْع مجالٍ حيويٍّ لكلِّ شيء، ويسمُّون هذا المجال“الحريم”ويقصدون به ما يحيط بالشيء مما يُحتاج إليه ليَحفظه، وليحصل الانتفاع به على أكمل وجهٍ وأتمِّه، فجعلوا لكل شجرة حريماً بقدر مصلحة حفْظها ونَمائها، وقدَّر بعضهم حريم النخلةباثني عشر ذراعا من نواحيها، وكذلك الآبار، فلبئر الزراعة حريم، ولبئر الماشية حريم، وللنهر حريم، وللطريق حريم، وللبيت حريم، وفيها تفصيلٌ مبسوط في كتب الفقه،ثم إنَّ إماطة الأذى عن الطريق صدقةٌ، وقد سأل الصحابيُّ الجليلُ أبو بَرزة رضي الله عنه عن عملٍ يَنتفع به، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اعزل الأذى عن طريق المسلمين) وتحدث الفقهاء عن أحكام قتل الهوامِّ والحشرات، وفصَّلوا الكلام فيها بما يفيد أنَّ قتْلها اعتداءٌ عليها، فلا يجوز إلا إذا كانت تؤذي، وكذلك جعلوا بابا فصَّلوا فيه أحكام الصيد، ونبَّهوا إلى تحريم الصيد لمجرَّد التسلية واللهو، وأجمع العلماء على التحذير من الإسراف في استعمال الماء، حتى في الوضوء، وصحَّ أنَّ امرأةً دخلتْ النار في هِرَّة حبستْها، فلا هِيَ أطعمَتْها، ولا هي تركتْها تأكل مِن خَشَاش الأرض، وجاء أنَّ الله غفر لِبَغيٍّ مِن بني إسرائيل، بسبب أنهاسقَتْ كلبٍاً،فجعل الإسلامُ في كل ذاتِ كبدٍ رطْبةٍ أجراً، فحفْظُ البيئة عندنا ليستْ توجيهات عامَّة، وإنما هيأحكامٌ تكليفية، فإنَّ مَن يقرأ في كتب الفقه يجدُ أنَّ ما فيها من أحكامٍ متعلِّقة بالبيئة يتجاوز كلَّ ما تتحدَّث عنه الجامعات والمراكز البحثية عن البيئة، فلو التزم الناسُ بأحكام دين الفطرة وهو الإسلام، لَـمَا رأينا هذا التلوُّث الذي يحصل للأنهار والبحار، بسبب ما يُرمَى فيها من النِّفايات والمواد السَّامَّة، ولَـمَا رأينا هذه الانبعاثات الغازيَّة التي تزيد من ارتفاع درجة الحرارة، وتُفضي إلى الاحتباس الحراري، فرحم الله آباءنا حين التزموا الإسلام في حياتهم، فكانت مساجدُنا فيما مضى لا تهدر ماء الوضوء، وإنما تجعله سقايةً لحديقة المسجد، فلا يكاد يخلوا مسجدٌ مِن حديقة بجواره، وتجدها غايةً في جودة النباتات وحسن التنظيم، وكانت مدن المسلمين ملآى بالحدائق الغنَّاء، ومن أشهرها بستان هشام بدمشق، وجَنَّة العَرِيف بغرناطة، وحدائق جنان السبيل في فاس، والتي تحوي مِن أنواع الأزهار والأشجار ما يزيد على ألف نوع .

هل نحن في صراعٍ مع الطبيعة؟

يتحدث بعض المعاصرين عن صراع قديم بين الإنسان والمكوَّنات التي تطوف مِن حوله، والتي يسمُّونها الطبيعة، ويسمُّونه صراعاً أَزلِيّاً، وإن كنت أستبعد أن يكونوا يقصدون حقيقة الأزل، ذلك أنَّ الأزل في لغة العرب يعني استمرار أزمنةٍ غير متناهيةٍ في الماضي، أي ليس لها ابتداء، وهذا المعنى ليس من أوصاف المخلوق، ومن العجب أنْ يذكر بعضهم أن الإنسان تنقَّل في صراعه هذا في أطوارٍ ومراحل مختلفة، تدرَّج فيها الإنسانُ من طورٍ إلى آخر، وذكروا انه بدأ بطور الخوف من الطبيعة، ومن مخاطرها التي تحتفُّ به، وربما رافق هذا الخوف شيءٌ من التقديس لها، ثم انتقل بعد ذلك إلى طور التعرُّف عليها، والوقوف على سبل الانتفاع بها، وصوَّروا هذا الانتفاع بأنه ثمرةٌ للصراع معها، وربما عبَّر بعضهم عن انتصار الإنسان في هذا الصراع بقوله: «الإنسان يمكن هزيمته، لكن لا يمكن قهره!» وزعَمَ بعضهم أن الطبيعة تمارس دور الجلاد للإنسان، وأنه رغم ذلك لم يقف مكتوف الأيدي أمام سطوتها وجبروتها، إذْ أنه استعمل الصبر والصمود، واهتدى بعد ذلك إلى معرفة قوانينها، وحلَّ الكثير من ألغازها التي طالما حيَّرَته، وهكذا تحول الصراع الإنساني مع الطبيعة من صراع من أجل البقاء إلى محاولة للهيمنة والسيطرة عليها، غير أن هذا التفكير سرعان ما يزول ويرتفع بأدنى تأمُّل، وقد نبَّهنا القرآن الكريم إلى أن العلاقة بين الإنسان وسائر المكوَّنات إنما هي علاقةُ تذليلٍ وتسخير، علاقةٌ بين مسخَّر ومسخَّرٍ له، ولم تكن في يومٍ من الأيام علاقة صراع، إذْ لو كانت صراعاً لصَرَعَتْنا، وإنما هي علاقة إخضاع بالقهر، وبلا عِوَض، وإنك أيها القارئ الفهيم لو فتَّشت بطون كتب اللغة العربية للوقوف على كلمة للدلالة على إخضاع شيءٍ لشيء، فإنك لن تجد أدقَّ من كلمة التسخير والتذليل، فاعجبْ مِن تسخير الشمس والقمر، فتقلُّبهما تطيب بسببه الزروع، وتنضج به الثمار والفواكه، ويُعرف حساب الشهور والسنين، وتتكون الفصول الأربعة من صيف وخريف وشتاء وربيع، وغيرها من المنافع التي لا تحصى، وبهما يتكون الليل والنهار، فيصير النهار معاشًا للخلق يتقلبون فيه، وبه يتعيشون، ويصير الليل سكنا لهم وراحةً، ومن ذلك تسخير السحاب والأمطار، وتسخير البقر، إذْ خلقها الله على كيفية يتيسَّر بها حلبها، وكتسخير الرواحل من الإبل والخيل وغيرها، فخلقها على كيفية يتيسر بها ركوبها، وهي حقيقةٌ أدركها العربيُّ حين سمَّى الناقة بالذَّلول، تشهد بذلك أشعار العرب وتنطق به أخبارهم، واعجبْ للطفل الصغير كيف تَذلُّ له الناقةُ، فيُبْعِدُ عنها صغيرَها، ليستَأْثر بلبنها دونها، ويَذِلُّ له الجمل، فيضع على ظهره الهوْدَج، فهذا طَرَفَةُ بن العبد يصف ناقتَه وهو على ظهرها بأنها ذلولُ مِطْواعةٌ لراكبِه، تنقاد للمسافر عليها ليلا أو نهارا، فتجده يتغنَّى بها وبالمنافع التي يحصلها منها.
وهكذا ينتفع الخلائق بما أكنَّه الله في الأرض وما حوْلَها مِن المكوَّنات، مِن كنوز ينتفع العبادُ منها، فهي مخلوقةٌ مِن أجْله، شاءتْ هذه الأشياء أو أبتْ، فسبحان مَن جعلها سُخْرةً للإنسان، ولكلِّ الكائنات الحيَّة عليها، فنثَرَ عليها لكلِّ مخلوقٍ رِزْقَه،وإذا كان أغلب العمومات في لغة العرب تقبل التخصيص، فإن قوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) عامٌّ لا خصوص له، وقد قال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله رحمه الله: (وهذه الآية مُصرِّحةٌ بضمان الحقِّ -سبحانه- الرزقَ، وقطعَتْ ورودَ الهواجس والخواطر عن القلوب) قال بعضهم: (فواللّه ما اهتمَمْتُ برزقي منذ قرأتُها، فاسترحتُ) غير أن حكمة الله اقتضتْ أن يكون تحصيلُ الرزق مقترنا ببذل الأسباب، فمَن قصَّر فلا يلومَنَّ إلا نفسه، قيل:
(والمرْءُ تَلْقاهُ مِضْياعاً لفُرْصتِه ¿ ¿ ¿ حتَّى إذا فاتَ أمْرٌ عاتَبَ القدرا)
فبذْلُ يسيرِ الأسباب تأتي بالطَّير مِن أعالي السماء، وقد أشار لهذا المعنى موسى بن نصير حين قَدِمَ -بعد فتح الأندلس- على سليمان بن عبد الملك، فقال له يزيدُ بن المهلَّب: أنت أدْهى الناسِ وأعْلمُهم، فكيف طَرَحْتَ نفسَك في يَدِ سليمان؟ فقال موسى بن نصير: (إنَّ الهدهد ينظر إلى الماء في الأرض على أَلْفِ قامَةٍ، ويُبصِرُ القريبَ منه والبعيدَ على بُعْدٍ في التُّخوم، ثم يَنْصُبُ له الصَّبيُّ الفخَّ بالدودة أوالحبَّة، فلا يُبْصِرُهُ حتى يَقَعُ فيه) وإذا كان الله قد سخَّر لنا مِن الكون طعاما تتغذَّى به أبدانُنا، فقد سخَّر لنا منه معرفةً تتغذَّى بها أرواحُنا، فالغافلون موتَى والعارفون وأهل العلم أحياءٌ.

ليس التكحُّلُ في العينينِ كالكَحَلِ

ذكرتُ في المقال السابق أنَّ الله تعالى خلق الإنسان على أحسن صورة، وَزانَه بأجمل هيئة، فهو في أصل خلقته كمالٌ وجمالٌ وطُهْر، كما قال سبحانه: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) فجعله متَّصفاً بالعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر وحُسن التدبير، بل إنه سبحانه قد عبَّر في آيةٍ أُخرى عن الخَلق بالتصوير فقال: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) لما في التصوير من مزيد الاهتمام والعناية وتحسين الهيئة، فجعل سبحانه جسم الإنسان في انتظامٍ واتِّساق، فيَظهر في الوجْهِ حُسْنٌ، بما فيه من عينين وفمٍ وأنف وأذنين، وتظهر اليدان والقدمان والعينان بتناسبٍ تامٍّ بينهما، فضلاً عن القامة المعتدلة، فضلاً عن انتظام الأعضاء الباطنة كالدِّماغ والقلب والرِّئتين والكبد والـحَلق، وغيرها، فضلا عن الأعصاب والأوردة والعروق، فكان الإنسان في أعدل هيئة، كما قال سبحانه: (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) ثم إنه سبحانه قد أذن لابن آدم في إظهار محاسِن الخِلقة، بالتجمُّل والتَّطيُّب، فحين رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، رجلاً شَعِثاً، قال: (أمَا كان يَجِدُ هذا ما يُسَكِّنُ به شعرَه؟ فأصلَحَه الرجل ثم رجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا خيرٌ مِن أنْ يأتي أحدُكم ثائرَ الرأس، كأنه شيطان) وقال صلى الله عليه وسلم : (مَن كان له شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ) ورُوِيَ أنه رآى مرَّةً رجلاً ثائر اللحية، فقال: (لِمَ يُشوِّهُ أحدُكم نفسه؟!) ورأى صلوات ربي وسلامه عليه رجلاً عليه ثيابٌ وَسِخة، فقال: (أمَا كان هذا يَجِدُ ما يَغسل به ثوبَه؟) بل وحضَّ على خصال الفطرة، فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه: (الفطرةُ خمسٌ: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وقصُّ الشارب، وتقليم الأظفار) فهذا حضٌّ على سبيل النَّدب المؤكَّد، ومن خصال الفطرة في الرأس المضمضة والاستنشاق، وقصُّ طَرَفِ الشَّعر المستدير على الشَّفَة، وهو إطارُ الشارب، بحيث يَبدو طَرَفُ الشَّفَة، وإعفاءُ اللحية، ما لم تَطُلْ جداً، فلَهُ أنْ يُحسِّنها بالأخْذِ منها، وكذلك فَرْقُ الشَّعر بتسريحِهِ وتمشيطِهِ ودَهْنِه، وغير ذلك مما يُبْرِزُ بديع خلق الله، ويلحق بها العنايةُ بالبدن والبَشَرة وحُسْنُ الطُّول أي القَوَام، إذا كان بالطرق الطبيعية التي تزيد الـحُسْن ولا تُفضي إلى ضرر، من تقليل الطعام أو تحسين التغذية، والرياضة والتدليك، وغيرها، وهي من المحاسن، فليستْ من تغيير الفطرةله، بل هي خصالٌ مأذونٌ فيها، لِـمَا فيها مِن معنى الزِّينة والـحُسْن، فتحسيُن الهيئة واختيار أجمل الثياب من المحامد المطلوبة، بل والمندوبة التي يُؤجر عليها الرجل، وتؤجر عليها المرأةُ، أما التَّزيُّن بعملٍ جراحي كإزالة آثار الشيخوخة بِشدِّ تجاعيد الوجه، وتصغير الثدي، وكذلك عملية تكبير الأرداف التي تكون للرجال أوللنساء، وما شابه ذلك، فهي مظنَّةُ الاعتراض على خَلق الله، والدُّخول فيها اقترابٌ من معنى تغيير الخلقة التي يدعو إليها الشيطان، كما قال الله تعالى: (وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّه) لكن إذا نزل بالإنسان شيءٌ من العيوب الخَلْقِيَّة، التي تَخرج عن الهيئة المعتادة والحدِّ المألوف، بحيث تُفضي إلى تَشويهٍ للإنسان، فلا بأس أن يعالجها بالعقاقير إن أمكن، أو بالجراحة التجميلية، يستوي في ذلك أن تكون العيوبُ أصليَّةً كالتصاق أصابع اليد أو القدم، وكانسداد فتحة الشرج، أو أن تكون حادثةً بسببٍ حادث، كمرضٍ ينزل بالإنسان أو غيره، كالتَّشوُّهات الناشئة بسبب الحروق، فهذا النوع مِن العيوب لا إشكال في إزالتها أو تحسين هيئتها بالجراحة التجميلية، لأنها عيوبٌ يحصلُ بوجودها ضررٌ بَيِّن على المصاب بها، فتحسين الهيئة من باب إزالة الضَّرر الحسِّي أو المعنوي، وليس فيه معنى تغيير الخِلْقة، أما إذا لم تخرج عن حدِّ الاعتدال، ولم يفْضِ وجودها إلى تشويه، فلا معنى لتحسينها بالجراحة، فمن حكمة الله تعالى أنهُ جعل بين الناس تفاوتا في الأشكال والصُّوَر، مع التَّشابه في أصل الخِلْقة، فمن الناس النحيف ومنهم السمين، ومنهم الطويل ومنهم القصير، ومن الناس الأبيض ومنهم الأسمر ومنهم الأسود، فكلُّ هذه الأوصاف خِلْقةٌ اقتضتها الحكمة الإلهية، فاستِقْباحُ الإنسان بصورته التي خلقه الله عليها ورفْضُه لها، بتغييرها بالجراحة، مظنَّةُ الاعتراض على الحكمة الإلهية منها، كما تفعله المرأة حين تزيل شعر حاجبيها الذي جعله الله جمالاً لها، فهذا من التلاعب ببديع خَلْق الله تعالى، وإليه نبَّهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (لعن الله الواشمات والمستوشِمات والمتَنَمِّصات والمتفَلِّجات للحُسْن، المغيِّراتِ خَلْق الله) فالكَحَلُ أجملُ من التَّكحُّل، وليس الكلَفُ كالتكلُّف، وقد قيل: مدارُ كلِّ شيءٍ عَوْدُه إلى أصْله

فَرَثاثُ ثَوبِكَ لا يَزيدُكَ زُلفَةً

خلق الله تعالى الإنسان على أحسن صورة، وَزانَه بأجمل هيئة، فهو في أصل خلقته كمالٌ وجمال وطهر، فناسب أنْ يخلق له لباساً يستر به عورته ويزيده حسناً وجمالا، وقد سمَّى اللهُ تيسير هذا اللباس للإنسان إنزالاً من عند الله، تشريفاً منه سبحانه لهذا المظهر، فقال: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) وفيه تنبيهٌ لهم بأن اللِّباس مَظهرٌ من مظاهر التَّمدُّن والتَّحضُّر، وأنَّه أصْلٌ فطره في الإنسان، وقد كان الشأن في سائر الأمم أنهم في أعيادهم ومناسباتهم يتجمَّلون في اللباس، وقد حكى الُله عن القِبْط أنهم يسمُّون عيدهم يوم الزِّينة، فقال: (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) فكان اللباس تكريما للإنسان، وحين حرَّم أهل الجاهلية على أنفسهم بعض الأشياء جاء التنبيه من كلام الله تعالى بأن هذا التحريمَ اعتداءٌ على حرمات الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) فالزِّينةُ وأطايبُ الطعام خلقها الله تكريماً للإنسان، فصار تحريمها منكراً منهيّاً عنه، والأخذ بها تكليفٌ من الله على عباده، فهو مطلوب مطلقاً، ويتأكَّد النَّدْبُ إليه في أشرف المواضع، وهي المساجد، قال تعالى: ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) بل إنه سبحانه قد شرع التجمُّلَ وحسن الهيئة والزِّيَّ حالَ الصلاة، فهذا نافعٌ يحكي أنَّ ابنَ عمر رآه يصلي في ثوب واحد فقال: ألم أَكْسك ثوبين؟ فقال نافعٌ: بلى، قال: (أرأيت لو أرسلتُك إلى فلانٍ، أكنتَ ذاهبا في هذا الثوب؟) فقال نافعٌ: لا، فقال ابن عمر: (الله أَحقُّ مَن تزيَّنت له) فكلُّ معنى يُنافي الوقار، كرثاثة الهيئة فهو منهيٌّ عنه في الصلاة، وقد ذكر المفسِّرون أن اللهَ قد نبَّه الفقهاء، وكان الشأن مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم التَّجمُّل بأحسن الثياب، فكان يَعتمُّ، وكان يلبس في الجُمَع والأعياد أحسنَ ما يَجِدْ، وقد نظر صلوات ربي وسلامه عليه وسلم إلى أحد الصحابة الكرام، وعليه ثوبان خَلِقان، أي باليان، فقال: (أما له ثوبان غير هذين؟) قيل: بلى، فأمر أن يَلبسهما، فلبسهما ثم ذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أليس هذا خيرا له؟) قال الإمام أبو الوليد الباجي: (أنكر عليه بذاذته لما يؤدي إلى ذلَّته) وقد استحسن سيِّدُنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل العلم والصلاح، والعبَّاد والزُّهَّاد أن يظهروا للناس برفيع الثياب وجميلها، وكان يقول: مروءةُ الرَّجل نقاءُ ثوبه، وكان يستحسن البياض، قال العلماء لأن خروجهم عن حُسن المظهر تشويهٌ لصورتهم، فقد كان الفضلاء من العلماء يلبسون الرفيع من الثياب، ولعلَّ سائلاً يسأل: أليس لبس الخشن من الثياب أقرب إلى التواضع وأبعد عن الرعونات والكبر؟ فالجواب أن العلماء استخلصوا من مجموع الأحاديث النبوية الشريفة أن المنهيَّ عنه إنما هو أن يُفتَن الإنسان بالدنيا ويتعلَّق بها، فيصاب بشيء من الإعجاب والكبر، وبيَّنوا أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: (البذاذة من الإيمان) إنما أراد به التحذير من التَّكلُّف في التَّزيُّن على سبيل الشُّهرة والإسراف، وهما سببان يدْعوان إلى التبختر والبطر، وكان الحسن بن عليّ رضي الله عنهما يُحذِّر الفقهاء من أنْ يجعلوا خشوعَهم في لباسهم، وكبْرهم في صدورهم، فلا حرج على المرء إنْ أحبَّ أن يكون ثوبُه حسنا، ونَعْله حسنا، فإن الله جميل يحب الجمال، وقد قال عمر رضي الله عنه (إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم) وهو كلام جامعٌ في الإنفاق وفي التَّجمُّل، في الصلاة وفي غيرها، وهو مأخوذٌ من مشكاة النُّبوَّة، من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أنعم الله على العبد أحبّ أن يرى أثر نعمته عليه) وهذا يفيد أن الله إذا أكرم عبداً من عباده بنعمةٍ من نعم الدنيا، فإن عليه أن يُظهرها، فيلبس لباساً يليق بحاله، قال أحدهم لإبراهيم النخعي: ما ألبسُ من الثياب؟ فقال: (ما لا يُشهرك عند العلماء، ولا يُحقِّرك عند السفهاء) قال الإمام الشافعي: (أَجِد الثيابَ إِذا اكتَسَيتَ فَإِنَّها ... زَينُ الرِجالِ، بِها تَعزُّ وَتَكرُمُ) (وَدَعِ التَواضُعَ في الثيابِ تَخَشُّعاً ... فَاللَهُ يَعلَمُ ما تَجِنُّ وَتَكتُمُ) (فَرَثاثُ ثَوبِكَ لا يَزيدُكَ زُلفَةً ... عِندَ الإِلَهِ وَأَنتَ عَبدٌ مُجرِمُ) (وَبهاءُ ثَوبِكَ لا يَضُرُّكَ بعدَ أنْ ... تَخشى الإِلَهَ وَتَتَّقي ما يَحرُمُ) ومن قرأ سيرة الأئمة المعتبرين، كالأربعة وغيرهم، يعجب من عنايتهم بالسَّمت والمظهر الحسن، بقي الكلام عن خلال الجَمال، والتي يسمِّيها الفقهاء خصال الفطرة، فهي موضوع المقال اللاحق .