الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
المرور بمواطن العذاب

صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه مرَّ في مسيره إلى تبوك بقرية الحِجْر وهي قرية صغيرة بها منازل قوم نبيِّ الله صالح عليه السلام، نحتَ أهلُها بيوتَها في الجبال بمهارةٍ وإتقان، فكانت غاية في الفخامة والحُسْن، كما قال الله تعالى عنهم: (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ) وفيها البئــــر التي قال الله فيهــا: (لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) ويقال لها ديار ثمود، وهي تقع جنوب غرب مدينة العلا، على مسافة عشرين كيلومتر منها، ولا يزال مكان ديار ثمود إلى اليوم يسمَّى بالحِجْر، وهي تسمية قرآنية، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِين) وكانت العرب تعرف موضع البئر، ويمرون عليه في طريقهم للشام، ويتناقلون أخبارها جيلا بعد جيل، قال ابن كثير: (وثمود قوم صالح كانوا يسكنون الحجر قريبا من وادي القرى، وكانت العرب تعرف مساكنهما جيدا، وتمر عليها كثيرا) وقد حصل الجزم بأن هذا الموضع هو مكانهم بمرور رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وقوم ثمود أهلكوا بالصيحة كما قال تعالى: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِين) ولذلك لا تزال مساكنهم وبيوتهم أطلالا خاوية، وخالية ليس فيها منهم أحد، فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر أمر أصحابَه أن لا يشربوا من بئرها، ونهاهم أنْ يستقوا منها، فقالوا: قد عجنَّا منها واستقينا، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء، فالمرور بمواطن العذاب على سبيل السياحة والأُنْس مظنَّةُ الإعجاب والتعظيم والرُّكون، وقد قال الله تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) فلا يأمن المؤمن على نفسه إنْ مرَّ عليهم بغير تدبُّر ولا اعتبار أنْ يصيبه ما أصابهم، فكان من شفقة النبيِّ صلى الله عليه وسلم على أصحابه أنهحين مرَّ بالحِجْر أنْ منعهم أن ينزلوا بموطنٍ نزل به عذابٌ، لألا يغترُّوا ويُفتنوا بعظمة البيوت، فنهاهم أن ينزلوا على غير سبيل الاتِّعاظ، ويلاحظ أن الأصل في أرض الله أن السفر إليها بقصد الإطلاع عليها والتعرُّف على آثار الماضي مباحٌ غير محظور،فلم يَثبت أنَّ أحداً من العلماء نهى عن ذلك، فأرض الله واسعة، والسكنى في أيِّ موضع منها جائزٌ غير محظور، فكيف إذا كان هذا السفر على سبيل الانتفاع، كالاعتبار والاتِّعاظ بمعايَنة ما بقي مِن آثارهم والتفكُّر في خلق الله وعظمته وقدرته، أو على سبيل التعلُّم، أو لغيرها من المنافع، فإنه في هذا الحال يصير سفراً مطلوباً ومندوباً إليه، فيُثابُ عليهالمسلمُ، وذلك إذا قَصَدَ الزائرُ من السَّفر لزيارة هذه الآثار الاتِّعاظ والاعتبار، لأن فيه وقوفاً على آثار الماضين، واستحضاراً لعاقبة أمرهموأنها مهما طالتْ أعمارهم، فمصيرهم إلى زوال، كما قال تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) فيرَى الزائرُ لتلك المعالم والأطلال كيف ذهب الأتقياءُ من ساكنيها بما قدَّموا من خير، وذهب الأشقياءُ منهم بما قدَّموا مِن شرّ،وقد نبَّه اللهُ العربَ إلى هذا المعنى فقال: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) إشارةً إلى مرورهم بآثار الأقوام البائدة كقوم نبي الله صالح عليه السلام، وسدوم قرية نبي الله لوط عليه السلام وغيرهم، حيث أخبر سبحانه وتعالى أنهم يمرون بها وهي على طريقهم، ولم يحذِّرهم أو يمنعهم من قربها،وقد جعل الله قرية قوم نبي الله لوط عليه السلام ظاهرةً مشاهدةً، فقال: (وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مقيم) أي بطريقٍ باقٍ يراهُ كثير من الناس، وهَذا وإننا مأمورون بنصِّ كتاب الله تعالى بالسير في مناكب الأرض والنظر في عاقبة أمر الماضين قال تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) فقد خلَتْ ديارهم وخرُبتْ منازلهم وذهبتْ أملاكهم، ولم يَبْقَ منهم إلا الأثر، وقد نبَّه المفسرون إلى أنَّ مشاهدةَ الآثار أثبَتُ في الأذهان، وأوْقعُ في النفوس، كما قال الشاعر: (مررنا مرورًا وَسْطَ أَخْيِلَةِ الِحمى *** ونحن نرى الـحُوَّاطَ مرأى ومسمعا) فالاعتبار بأخبار مَن مَضَىخيرٌ وبرّ،إذ ليس المخبَرُ بأمرٍبأرقى حالا ممن شاهَدَه جهرةً ورآه عِيانا، فمِن الأمثال التي أكثرَ الناسُ تضمينها قديما،قولهم:(يا ابنَ الكراِم ألا تدنْو فتبْصرَ ما *** قد حدَّثوك فما راءٍ كمن سمِعاَ)قيل ومن أجل هذا قال كليم الله موسى: (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ) تطلُّعاً منه إلى كمال المعرفة بجلال الله، وفي هذا قيل: (ولكن للعِيانِ لطيفُ معنى *** له سأل المعاينةَ الكليمُ) واستنادا إلى هذافقد نصَّ كثير من العلماء على النَّدب إلى السَّفر الذي يورث عبرةً وزيادة معرفة بالله، ففي تفسير قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) قال الإمام أبوعبد الله القرطبيُّ رحمه الله: (وهذا السَّفَرُ مندوبٌ إليه، إذا كان على سبيل الاعتبار بآثار مَن خلا مِن الأُمم وأهل الديار)وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: ( وهذا السير المأمور به، سيرُ القلوب والأبدان، الذي يتولَّد منه الاعتبار، وأما مجرد النظر من غير اعتبار، فإن ذلك لا يفيد شيئا)

أدب القاضي

القضاء منصبٌ عظيم ومنزلة رفيعة، وقد اشترط الفقهاء في القاضي شروطاً وأوصافاً ليكون قضاؤه على أحسن وَجْهٍ وأتمِّه، ثم تطلَّبوا فيه أوصافاً هي تحسينيَّات، غير أن الآداب في حقِّ القاضي آكد منها في حقِّ غيره، فصدَّروا كتاب القضاء ببابٍ أَسْمَوه “باب أدب القاضي” وأوصلها بعضهم إلى خمسة عشرة أدباً،فمنها أن يكون مُهتمّاً بالشأن العام، ليكون ناصحاً للراعي فيما بينه وبين رعيته،وليحفظ للناسحقوقهم بالحيلولة دون وقوع الظلم بينهم،ومن آدابه كذلك الترفُّع بمنصب القضاء عن مغريات الدنيا،لا يتطلع لما في أيدي الناس، فيستوي عنده الأغنياء والفقراء، فيكون عزيزَ النفس، غنيّاً بالله، مُتأبِّياً عن أن يُفتنَبشيءٍ مِن الدنيا، إبقاءً لهيبة منصب القضاء، فوضيعُ النَّفس إنْ أُعطيَ خضع، وإنْ مُنِع سخِط، أما مَن يعملُ لله وحده، فإنه لا ينقادُ لنفسه وهواها، فلا يَسخط إنْ فاتتْهُ مصلحةٌ دنيوية، فهذا القاضي أبو إسحاق إبراهيم بنُ أَسْلَمَ القرطبي، حين أراد الحَكَمُ المستنصرُ بالله، وكان من خيرة أمراء الأندلس، أن يختبر وَرَعَه وعفَّته، قطع عنه جِرايته -أي راتبه- فكتب ابنُ أسْلم إلى الحَكَم: (تزيدُ على الإقلالنَفْسِيْ نَزَاهةً *** وتَأْنسُ بالبَلوى وَتَقْوَى مع الفقرِ) (فمَن كان يَخْشَى صَرْفَ دهرٍ فإنَّني *** أَمِنْتُ بفضل الله مِن نُوَبِ الدهرِ) فلما قرأ الـحَكَمُ هذين البيتين، أمَرَ بِرَدِّ الجِراية إلى الشيخِ أبي إسحاق، فأعرض الشيخُ أبو إسحاق عنها وتَمَنَّعَ مِن قَبولها قائلاً:(إنِّي والحمد لله تحت جِرايةِ مَنْ إذا عَصَيْتَهُ لَمْ يقطعْ عنِّي جِرايته!) فكان الـحَكَمُ يقول بعدها:( لقد أكْسَبَنا ابنُ أسْلَمَ مَخْزاةً عَظُمَ مِنَّا مَوْقعُها) وكان يسيراً على الشيخ أبي إسحاق أنْ يتَّخذ مِن قطْعِ الراتب سبباً للانتصار لحظوظ نفسه، فيزعم بأن الـحَكَمَ قطع راتبه نكايةً في العلماء، ولكان يسيراً عليه أنْ يُهيِّج العامَّة على الحكَم، ولو فعل لغضب أهلُ قرطبة، لأنهم يعلمون أن الشيخ لا يغضب لنفسه، غير أنه لم يفعل ذلك لأن غايتَه رضا الله، فلا غرض له في مالٍ زائل، ولا في الحفاظ علىهيبته ومكانته في المجتمع، فكم لعب الشيطانُ ببعض الدعاة والمصلحين، فلم يميِّزوا بين الانتصار لله والانتصار لحظوظ النفس، ومن أدب القاضي أن يكون ورعاً ليَحمله الورعُ على التَّصدِّي لمصالح الناس بنفسٍ طيِّبة، مع استحضار العدلوالمساواة بين الخصمين، ومن أدبه الحلمُ وحسن الخلق، بحيث يتحمَّل ما يقع بحضرته من الخصوم مِن رَفْعِ صوتٍ ونحوه، فلايغضب ولا يُستفَزُّ من أحد الخصوم، فسوء الخلق قد يوقع القاضي فيالظُّلم ومعاقبة أحد الخصمين بغير وجه حق، ومن أدب القاضي أنْ يكون مُتأنِّياً متثبِّتاً في إصدار الأحكام، بالنظر في الدلائل والبيِّنات الواضحات لألا يقضي بباطل،ومن أدبه ألا يقضي في حالة غضب ولا جوع ولا حالةٍ يُسرع إليه الغضب فيها، فالغضب يشوِّش الفكر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقضيَّن حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان) ومن أدبه يَقَظتُه لِحَالِ المتداعيين، فبعضهم واعٍ ومُدرك وفصيحٌ منطيق ، وبعضهم تعتريه الغفلة وقلَّة المعرف، وربَّما كان عَيِيَّاللِّسان لا يُبين، فيعجز عن أنْ يُفصح عما في نفسه، فيكون مظنَّة أنْ يُغبَن، وهو ما يُحْوِج القاضي إلى مزيد تَحَرٍّ وتأمُّلٍ في القضيَّة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخَصْمُ، فلعلَّ بعضَكم أن يكون ألْـحَنَ بحجَّته من بعض، فأقضي له، فمن قضيتُ له، فإنما هي قطعةٌ من نار) ومن أدب القاضي أن يستشير ذوي الرأي والعلم والخبرة، وينبغي أنْ يحضر جلسة الحكم أهل الخبرة في القضيَّة، فيحسن استضافة التجار بمجلس الحكم في القضايا التجارية، وهكذا، ومن آداب القاضيأنْ يحذر من أنْ يُقصِّر في القضاء بتأخير البتِّ في الحكم، فالتأخير ضررٌ كبير على صاحب الحق، ويتأكَّد عليه المبادرة بإنهاء قضايا المحبوسين وأمثالها من القضايا التي يكون الضَّرر بتأخيرها شديد الضرر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم:(من ولاَّه اللُه شيئا من أمور المسلمين،ن فاحتجب دون حاجتهم وخَلَّتهم وفَقْرهم، احتجب الله دون حاجته وخَلَّته وفقره يوم القيامة) وقد أخبرني رئيس إحدى المحاكم الفضلاء أن خصمين جاءا إليه يشكيان القاضي أنه لم يحضر في الموعد الذي حدَّده لهما، فما كان من رئيس المحكمة الفاضل إلا أنْ قام معهما إلى مكتب القاضي المتأخر، وجلس في مكتب القاضي وأنجز قضيَّتهما، قال: ومن يومها صار هذا القاضي المتخلِّف لا يتخلَّف عن قضيَّة قط،فما أعظم ثواب هذا الرئيس المنجز .

النَّصيحة بِرٌّ لا فتنة

النصيحة وصفٌ جميلٌ وجليل، فهو جبلَّةٌ بشريَّة، فقد جبل اللهُ الناسَ على حبِّ التناصح، وجعلَه من البِرِّ الذي يزيد التوادَّ والتآلف بين البشر، غير أن الناس لو تركوا وشأنهم فقد ينصحون بلا حكمة، فتصير النَّصيحةُ هجوماً على المنصوح، وكثيراً ما أدَّتْ إلى التَّباغض والمعاداة، ومن أجل هذا حاطتْ الشريعةُ النصيحةَ بآدابٍ تَـحُول دون انقلاب النَّصيحة إلى فضيحة، ودون انقلاب المودَّة إلى معاداة، وحيث كانت هذه الآداب ثقيلةً على نفس الناصح سمِّيَتْ النصيحةُ “حُسبةً”وسُمِّيَ الناصح “محتسباً”فإن لم يلتزم بهذه الآداب صار احتسابُهُ فتنةً للناس، وأهمُّ هذه الآداب العلم والبصيرة التي هي سبيل الأنبياء، قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) ولا يشترط أن يكون الناصحُ ضليعاً في الفقه، بل يكفي أنْ يكون فقيهاً فيما يأمر به وفيما ينهى عنه،لألا يفضي به الجهلُ أن يكون ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قوم يهدون بغير هديي، ويستنّون بغير سنّتي) فضلا عن أنَّ الأمر بالمعروف يجب أن يكون بمعروفٍ من القول، والنهي عن المنكر يجب أن يكون كذلك بمعروفٍ من القول، قال العلماء: فُحْش القول ممجوجٌ في الأسماع، ومن أدب المحتسب أن يكون النُّصحُ مضمَّخاً بالمحبَّة للخلق والشَّفقة عليهم، فإنْ قسا المحتسب فقسوةَ الوالد على ولده، لا ضغن فيها ولا حقد، ومن أدب المحتسب حُسن الخلق، لألا يفضي به الغضبُ إلى الانتصار لحظِّ نفسه وهواها، فقد يحمله عدم امتثال المنصوح لأمره على الغضب، فكم من محتسبٍ عَزَّ عليه ألا يُسمَع قوْلُه، وهاجت نفسه واندفع للثَّأر لها، ناسياً أو متناسياً أنه داعيةٌ إلى الله، فإذا به يعجز عن قمع هواه، وكأنه لم يسمع قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) وأين هذا مما جاء عن عبد الله بن محمد بن عائشة رحمه الله، ذلك أنه خرج في ليلة يريد منزله، وإذا به يرى في طريقه شابّاًسكراناً،قد قَبَضَ على امرأةٍ فجذبها، فاستغاثتْ، فاجتمع الناس عليه يضربونه، فقال ابنُ عائشة للناس: تَنحَّوْا عن ابن أخي، ثم قال: إليَّ يا ابن أخي، امْضِ معي، فمضى معه حتى صار إلى منزله فأدخله الدار،فحين أفاق الشابُّ مِن سُكْره، أعْلَمَهُ بما حصل مِنْه، فاستحيا الشابُّ مما صدر منه، فقال له ابنُ عائشة:(أما استحييت لنفسك؟ أما استحييت لشرفك؟ فاتق الله واترك ما أنت فيه) فبكى الغلام ثم رفع رأسه وقال: عاهدتُ اللَه تعالى عهداً يسألني عنه يوم القيامة أني لا أعود لشربشيء مما كنت فيه وأنا تائب،فقال له ابنُ عائشة: ادْنُ منِّي، فقبل رأسه وقال: أحسنتَ يا بُنَيَّ،ومن عجيب ما وقع للإمام الزاهد بشرٍ الحافي، أنَّ رجلا تعلَّق بامرأة وتعرض لها وبيده سكِّين، لا يدنو منه أحدٌخوفاً منه، وكان الرجلُ شديدَ البدن؛ فبينا الناس كذلك والمرأةُ تصيح في يده، إذْ مَرَّ بِشْرٌ الحافي، فدنا منه وحكَّ كتفه بكتف الرجل ثم مضَى وتركه، فضعف الرجل وخارَتْ قواه،فمضت المرأةُ لحالها، فدنا الناسُ من الرجل وسألوه: ما حالك؟ فقال: ما أدري! ولكن قال لي ذلك الشيخُ: (إن الله عز وجل ناظر إليك وإلى ما تعمل) فضعفتْ لقوله قَدَمايَ وهِبْتُه هيبةً شديدة، وقد روى الإمام أحمد في مسنده أنَّ شابا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! فأقبل الصحابةُ عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال عليه الصلاة والسلام: ادنه، فدنا الشابُّ منه صلى الله عليه وسلم، فقال له: أتحبُّه لأمِّك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبُّونه لأمَّهاتهم، قال: أفتحبُّه لابنتك؟ قال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبُّونه لبناتهم، قال: أفتحبُّه لأختك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبُّونه لأخواتهم، قال: أفتحبُّه لعمتك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبُّونه لعمَّاتهم، قال: فوضع يده عليه وقال: اللَّهمّ اغفر ذنبه وطهِّر قلبه، وحصِّنفرْجه، فخرج الشابُّ ولا شيء أبغض إلى نفسه من هذه الفاحشة، ولنا في الرَّحمة المهداة أسوة، فما أعظمه من دين يترفَّق بالناس للأخذ بأيديهم إلى ما فيه مصلحتهم .

الفاقات بُسُطُ المواهب

عجيب أمر ابن آدم، فبينما تراه يمشي قويَّاً لا بأس عليه، وإذا بمرضٍ يباغتُه فجأة من غير إعلامٍ ولا ترقُّب، فينتقل من حال نشاطٍ وقوة إلى حال ضعف ومسكنة، وقد يكون في حالِ غنى ونعمة، فإذا بمصيبة تنزل بمالِه، فيصير إلى حالِ فقرٍ ومَسكنةٍ، بعد أن كان في حال يُسْرٍ وتَرَف، فكلَّ هذه أقدارٌ كتبها الله عليك، فهي غيوبٌ اقتضت حكمةُ الله أنْ يخفيها عن عباده، فلا يعلمون بها إلا حين وقوعها، ثم إنه سبحانه قد كلَّفهم بجملةٍ من الأوامر والنواهي، هي تكليفٌ في الظاهر، غير أنها إكرامٌ وتشريفٌ في الحقيقة ونفس الأمر، فلم يأمرنا الله إلا بما فيه مصلحةٌ لنا، ولم يَنهنا إلا عن ما فيه مضرَّةٌعلينا، وإلى هذا أشار سيِّدُنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوله: (إذا سمعتَ اللهَ عز وجل يقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ"فأصْغِ إليها سَمْعَك، فإنَّه خيرٌ تُوصَى به، أو شَرٌّ تُصرفُ عنه) ومن عظيم رحمة الله وفضله على عباده أنه كما أمرهم بهذه التكاليف، فجعل تأديتهم لها سبيلا إلى مرضاته، فهي أعمال بدنية يقدِّمونها بين يديهم رجاء تحصيل تجارةٍ لن تبور، فإنه سبحانه قد واجههم بما يوجب لهم مِن الثواب أضعاف ما يرجونه من أدائهم لتلك الأعمال البدنية، يواجههم بها ليتعرَّفوا على ضعفهم وعجزهم وافتقارهم إليه، فأورد عليهم ما ينبههم إلى أنهم لا يملكون لأنفسهم ضَرًّا ولا نفعا ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشورا، وبهذا صار ما يواجهه العبدُ من بلاءٍ خيرا له، وهذا مما لا يعرفه إلا من فتح الله بصيرته،لأنه يعلم أن الله يختار لعباده ما يشاء، ويفعل بهم ما يريد، فلا يبسط لك الرزق إنْ كان الغِنَى يُطغيك، ولا يَبتليك بالفقر إنْ كان الفقرُ أَضَرُّ بك، فيواجهك من هذا وذاك بقدر ما يكون أصلح لك، كما قال سبحانه: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)وأين مرادات البشر لأنفسهم من مراد الله لهم، فأهواؤهم مختلفة ورغباتهم متنوعة، فاختيارهم لأنفسهم وصفُ نقصٍ وقصورٍ، ونهايته بلاء، لأنه موضع اختلاف وفتنة كما قال سبحانه: (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) وإنك إذا تأملتَ في الناس، فإنه ستجد منهم مَن يَأْلَمُ لِـمَا قد يَفوتُهُ مِن الأعمال البدنية، التي يمكنه أن يؤديها في حالِ الفراغ والصحة والغنى، فتجد هذا قد حالَ الفقرُ بينه وبين تأديته للصدقات والتبرعات، وذاك فوَّتالمرضُ عليه القيامَ والصيامَ، والآخرُ شُغل عن نَفْعِ الخلق، إما برعاية ولدٍ مريض، أو بخدمة والديه الكبيرين، ولو تأمَّل الواحد منهم لعلم أنَّ كلَّ ما يواجهه الُله به إنما هو مواهب تعريفية، فكان مقتضَى الأدب مع الله عدم منازعته في تقديره، فالعارفونمهما واجهتهم أقدارُ الله بما يؤلم النفس من أوجاع أو أمراض أوشدائد،أو بما تكرهه النفس ويَثقلُ عليها كالابتلاء بإذاية الخلق أو الفقر، فمقتضى العبودية عليه لله أنْ يقابلوا ذلك بالتسليم والرضا، فلا تَرِدُ عليهم الأكْدارُ، كما قيل: (لا تهتدي نُوَبُ الزمان إليهِمُ *** ولهم على الـخَطْبِ الشديد لِـجامُ) وبهذا يدرك العبدُ أنَّ ثوابَ تسليمه ورضاه أضعافُ ثواب ما قام به من الأعمال البدنية، فما الأعمال البدنية إلا وسيلة للأعمال القلبية،ألا يكفي أن تعلم أن فرقاً كبيراً بين ما تقدمه بين يدي الله من طاعات بدنية مدخولة ومعلولة، وبين ما هو مهديه إليك مما أورده عليك من بُسُط المواهب، فأورد عليك الفقر لتشهد غناه فتقول يا غني، وأورد عليك الذل لتشهد ذلتك فتقول يا عزيز، وأورد عليك العجز لتشهد قوته فتقول يا قوي، فما أورده عليك بساطُ كمالٍ لا نقص فيه، وما أهديت إليه أعمالٌ منقوصةٌ لا كمال فيها، كما قال: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ ۗ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)ولقد مرض أحد الصالحين يوماً، فلما شفاه الله تعالى قال:(مَثَّلتُ في نفسي ما دبَّرَ اللُه تعالى لي مِن هذه العلَّة في مقدار هذه المدَّة، وبين عبادة الثَّقلين في قَدْر أيام علَّتي، فقلت: لو خُيِّرْتُ بين هذه العلَّة وبين أن تكون لي عبادةُ الثقلين في مقدار مدَّتها، إلى أيِّهما يميل اختياري؟ فتيقَّنْتُ أن مختارَ اللهِ تعالى أكثرُ شَرَفا وأنفعُ عاقبةً، فشتَّان بين فعْلِه بك لتنجو به، وبين فعلك لتنجو به) واعلم أيها القارئ الحصيف أنَّ البلاء إنْ أورثجزعاً وقلَّة صبرٍ، صار البلاءُ عقوبة، وإن أدَّى إلى الصبر، صار البلاء تكفيراًللسَّيِّئات، وإن أدَّى إلى الرضا والطمأنينة، صار البلاءرفع درجات، فاختر لنفسك .

الاجتهاد بلا أهليَّةٍ بلاء

لقد أكرم الله عبادَه حين هداهم إلى أصولٍ وقواعد للنظر والاستدلال، تَحفظ على الذِّهن صفاءَ التفكير ووضوح النَّظر،من أجل ذلك لم يقع المسلمون فيما وقعتْ فيه الجماعات والفرقُ التي شذَّتْ عن مَهْيع الطريق، حين لم تعتمد أصولاً تضبط لها مَساراً صحيحاً للاستدلال والاجتهاد، فتخطَّفَتْها السُّبل،فالجماعات التي ليس لها طريق واضحة المعالم تهتدي بها، ولا ضوابط تأْطُرُها على الصواب، وتَحُوْلُ دون اختلافها، مظنَّة الانقسام والتَّشظِّي، فالكلام بغير أصولٍ لا يُسمَّى فكراً ولا علماً ولا فقهاً، وإنما هو كلامٌ مجرَّد، يوافقُك عليه زيدٌ ويخالفك عمرو، فلا يحكم بين المختلفَين إلا القوَّةُ والغَلَبَة، وقد سجَّل لنا التاريخ أحداثاً حصلتْ من طائفةٍ تُسمَّى الخوارج، كانوا أغراراً، قليلوا العلم، استهْوَتْهم الألفاظ البرَّاقة، لأنَّها متوافقةٌ مع نزواتهم النفسانيَّة بل وتغذِّيها، فقد كانوا يتَّقِدون نشاطاً وحماساً، والكثير منهم شبابٌ أقوياء وفرسانٌ شجعان، وقد ذكر علماء العقيدة من شعاراتهم البرَّاقة قولهم “لا حكم إلا لله”وشعار “البراءةُ من الظُّلم والظالمين”واستهواهم أنْ يُسمُّوْا أنفسهم “الشُّرَاةُ”لأنهم يزعمون أَنَّهم شَرَوْا أنفسهم من الله بالجهاد، وفارَقوا أئمَّةَ الظُّلم والـضلال،فكانت هذه الشعارات أداةً استباحوا بها دماء المسلمين وغير المسلمين، وقد قال عنهم سيِّدُنا عبد الله بن عمر: (إنهم انطلَقواإلى آيات في الكفار فجعلوها في المؤمنين) وقد وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بأنهم (أحداثُ الأسنان، سُفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البَرَيَّة، يقرؤون القرآن لا يُجاوز حناجرهم) وذكر العلماء أنه رغم ما هم عليه مِن ضيقٍ في الصُّدور ومدافعةٍ للحقِّ، فإنَّ لديهم عشقٌ شديدٌ لِلمُماراةِ والجدل، وفيهم سَفهٌ وطيشٌ وخفَّةٌ في العقول، فلا غرضَ للواحد منهم سوى تقبيح رأي الغير والتَّنقُّص منه، ولذلك تجدهم يُحكمون على الغير بالكفربأدنى الأسباب، من غير تثبُّتٍ من كلامه، وأيسرُ شيءٍ عليهم سفك الدماء، من غير تلمُّسٍ لما يدلُّهم على أنَّه معصومُ الدَّم، فضلاً عن أنْ يتحرَّوا علامات الإيمان في كلامه أو أفعاله، ولا يَقبلون من أحدٍ أنْيدفع التُّهمة عن نفسه،وإنما شأْنهم تتبُّع علامات الكفر في غيرهم، ليستبيحوا تفسيقه وتضليله وتكفيره، ومن أوصافهم المشهورة شدَّةُ تعصُّبهم لآرائهم، فتجدهم لا يُسلِّمون لمن خالفهم ولا يقتنعون برأْيٍمهما قَوِيَ دليلُه واتَّضحتْ حجَّتُه،ومن عجيب أمرهم أنَّهم ربَّما أدَّاهم حرصهم على الانتصار لآرائهم إلى استباحة الكذب، وكانوا يرون أنهم أهلٌ للاجتهاد من غير تأهُّلٍ لذلك، فتجد الواحدَ منهم يستنبط الأحكام من الكتاب والسُّنّة من غير أنْ تكون له مرجعيَّةٌ مِن أصولٍ يستند إليها في الاستنباط، وهذه غايةُ الجهالة،فمن دلائل السَّذاجة فيهم أن مجموعةً منهمأمسكتْ رجلاً مسلماً وآخرَ نصرانياً، فقتلوا المسلم،وأعطَوا النَّصرانيَّ الأمان، وهم يقولون: (احفظوا ذمَّةَ نبيِّكم) استناداً إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أوصَى بأهل الذِّمَّة خيرا، وكأنَّه لم يُوْصِ عليه الصلاة والسلام بالمسلمين خيراً! فمن أجل فَقْدِهم للأصول اضطرَبتْ آراؤهم وكثُرَ تناقضهم،وأجْلى صور هذا التناقض أنهم طلبوا منسيِّدِنا عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه أن يُحكِّم حكمين بينه وبين سيِّدِنا معاوية رضي الله عنه، فحين أخذ بقولهم ووافق على التحكيم رجعوا عن ذلك، بلوأنكروا عليه التحكيم وقالوا له: (شككتَ في أمْرك، وخلعتَ نفسك من الخلافة)ثم رفعوا شعار:“لا حكم إلا لله”فكان يعلِّق على هذا الشعار بقوله: (كلمةُ حقٍّ يُرادُ بها باطل) ومن أجل أنهم اتَّخذوا زعماءهم مرجعيَّاتٍ لهم، فقد تشعَّبوا إلى فِرقٍ وجماعات بعدد مرجعياتهم، فمنهم جماعةٌ يقال لها “الأزارقة”سمِّيَتْ بذلك لأن زعيمهانافع بن الأزرق، وجماعة يقال لها “الصُّفْريَّة”زعيمها زياد بن الأصفر، وجماعة يقال لها “النَّجَدات”زعيمها نَـجْدةُ بن عامر الحنفي، وفرقةٌ يقال له “العَجارِدَة”زعيمهاعبد الكريم بن عَجْرد، ثم انقسمتْ الصُّفريَّة إلى جماعتين، وانقسمت النَّجَدات إلى ثلاث فرق، وانقسمت العجاردة إلى فرقٍ كثيرة، وكلُّ فرقةٍ منهم يصدر منها العجب العجاب من الحكايات، فمنها أنَّ بعضَهمرأَوا عبدَ الله بن خبَّاب بن الأرَتِّ رضي الله عنهمافأشاروا إلى مصحفٍ يحمله معه وقالوا له: (إنَّ هذا الذي تحمله لَيأْمُرنا أنْ نقتلك) ثم قتلوه ذبْحاً،ومن عجيب أمرهم في تناقضاتهم أنَّ أحدهم رأى رُطَبةً فوضعها في فيهِ ليأكلها، فصاحوا به منكرين عليه أنْ يأكل مالاً قد يكون حراما! فلفظها تورُّعاً، وما درَى المسكين أن الورع في الكفِّ عن الدِّماء أعظم منه في الأموال، أسأل الله أن يحفظنا ويحفظ أبناءنا من هذه الفتن التي تجعل الحليم حيرانا .

أين ذهب المعتزلة؟


أكرم الله هذه الأمَّة حين دلَّها عبر النُّصوص إلى أصولٍ وقواعد للنظر والاستدلال، والشأن في هذه الأصول أنها تَهَبُ الذِّهن صفاء التفكير ووضوحه، فوضع المسلمون لكلِّ دعوَى سبيلاً للتحقُّق من صحَّتها، فالدعاوى المتعلِّقة بالأمور التجريبية، كالطبِّ والكيمياء، سبيل التحقُّق منها الملاحظةُ والتجربة، والدعاوى المتعلِّقة بالمجرَّدات كعلم الرياضيات وعلم النفس وكثيرٍ من علوم التربية، سبيلُ التَّحقُّقِ من صحَّتها القياس والدلالات، والدَّعاوَى المتعلِّقة بالقضايا التاريخية والغيبية، سبيل التحقُّق الخبر والصادق، وتفصيل القول في ذلك ليس مجال هذا المقال الموجز، من أجل ذلك لم يقع المسلمون فيما وقعتْ فيه الفرقُ التي شذَّتْ، حين لم تعتمد على أصولٍ تضبط مَسار التفكير، فتخطَّفَتْها السُّبل، وربَّما تأثَّرتْ بما عند الأمم الأخرى مِن فلسفاتٍ موهومة، فحين أنشأ المأمون بيت الحكمة، وترجم العلوم، انتفع بهذه الكتب قومٌ وتضرَّر بها آخرون، انتفع بها مَن اهتدَى بأصول النظر والاستدلال، فقبلوا ما فيها من علوم نافعة، واستغنوا عما فيها من أوهام، غير أن ما تُرجِمَ كان فتنةً على قلَّةٍ ممن لم يلتزموا بتلك الأصول التي يتنخَّل منها الرأيُ الصحيح، فقبلوا ما في كتب اليونان من أغاليط، ومن هؤلاء أفرادٌ كانوا قد اعتزلوا العلماءَ مِن قبل فسُمُّوا بالمعتزلة، وكان مبدأ أمرهم أنْ قالوا بنفْي الإيمان عن مرتكب المعصية الكبيرة، ولم يكن لآرائهم قَبول فكانوا قلَّةً لا يُؤْبَه لهم، حتى إذا كانت خلافة المأمون وكان أحدُهم وهو أحمد بن أبي دؤاد ممن يحضر مجلس المأمون، فأَعجَب المأمونَ بحُسْن مَنْطقه فقرَّبه إليه وجعله مستشاراً له، فكان مما أشار عليه أنْ يُلزم الناس بالقول بآراء المعتزلة، لأنها لم تَلْقَ قبولاً في المجتمع، فظنَّ أنَّ أيسر سبيلٍ لنشْرها هو فَرْضها بالقوَّة، فاستحسن المأمون هذه المشورة، فألزمَ الناس بالأخْذ برأيه، استناداً إلى أنَّه فكَّر نيابةً عنهم، ولو عقلَ المأمونُ ومستشارُه لَعلِما أنَّ الإسلام يفرضُ على المسلمين التَّجرُّد في البحث عن الحقيقة، ولذلك لم يكن بحثُ المسلمين عن الحقيقة استكشافاً للمعرفةِ حُبّاً في الاطلاع، بل كان دِيناً يَتديَّنون به، للسلامة مِن الوقوع في الظنون والأوهام، فالآيات القرآنية تحضُّ المسلمين حضَّاً على ألا يقبلوا دعوَى من غير حجَّة ولا برهان، فمن ذلك قوله تعالى: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) وقوله: ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) فهذه الآيات الكريمات هي التي دفعتْ المسلمين لاستخراج منهج علميٍّ دقيق، قِوامُه أنْ لا تَعارضَ بين النَّقل الصحيح والعقل الصريح، ومن أجل لذلك لا تجد أحداً من علماء المسلمين يتخوَّف من نتائج البحث العلمي، فليس لديه خوفٌ من بيان جميع الحقائق، وهذا معنى ما قاله تلميذُ الإمام مالكٍ عبدُ الرحمن بن مهدي: (أهلُ العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهلُ الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم) لأنهم على يقين أنَّ الإسلام ليس فيه ما يُصادم العقول ولا ما ينافر الفطرة، فليس فيه شيءٌ يُستَحْيَى منه، فاعْجَبْ لبعض المعاصرين حين يتوهَّمون أن المعتزلةَ رُعاةٌ لتحرير العقل، وهم يعلمون أنهم فرضوا آراءَهم على الغير بقوَّة السلطان، وهكذا مكث الناسُ في محنةٍ لسنوات طوال، يُحْرَمون من إعْمال عقولهم، وامتُحن الإمام أحمدُ رحمه الله في ذلك امتحاناً عظيماً، فإما أنْ يُلغي عقله ويقول بأنَّ القرآن حادثٌ مخلوقٌ وإمَّا أن يُسجن، فرفض أن يقول برأْي المأمون فسجَنَه، ومَنعه الواثق من التدريس لألا يسمع الناسُ كلامَه! إلى أن جاء المتوكل فترك الناسَ أحراراً، فما هي إلا سنواتٍ معدودة وإذا بآراء المعتزلة تتهاوَى وتنحسر، بعد أنْ رُفِعَ السيفُ الذي يحميها، وما كانت لتنحسر لو كانت تستند إلى نقلٍ صريح أو إلى عقلٍ صحيح، واليوم صارتْ آراء المعتزلة تاريخاً يُحكى، فلا نجدها إلا في كتب الفِرَق المندثرة، وبيان ذلك أن المتوكِّل ومَن جاء بعده لم يفرضوا على الناس رأياً، فكان الحوار في المحافل والمساجد هو السائد، وكانت المساجد تَعِجُّ بالحِلَق العلميَّة في جميع الفنون، وهذا الجو العلمي المعرفي الحرُّ هو الضامن لبقاء الحق وزوال الباطل، فإنَّ الأفكار الشَّاذَّة لا تَقْوى على الظهور في العَلَن، لضَعْف حُججها، فأنسب مكانٍ تعيش فيه وتنمو هو الزوايا الخفيَّة التي لا يدخلها الهواء، وهذا الشأن في جميع الفِرق والجماعات الشَّاذَّة، لا َتنبت بعامل حوار، إنما تُستَنبتُ في حال التَّخفِّي والانعزال، وأيسر سبيل لإماتتها هو إدخال الهواء النَّقيِّ عليها، فلا تقوَى على الصمود أمام البحث العلمي، فكلُّ رأيٍ شاذٍّ إذا انكشف زَيْفُه نَبَذَهُ الناس .