الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
سَكْرةُ الجهل تَسُوْقُ إلى مَهاوي الرَّدى

كان الناسُ في الماضي يتعلمون أحكام دينهم مما يسمعونه من الفقهاء في المساجد، من خطبٍ ومن دروسٍ في الوعظ والتذكير، وكانت هذه الدروس خيرَ سلاحٍ لمواجهة الشذوذ في الفكروالسلوك، من أجل ذلك، فإنَّا لم نجد في عامَّة الناس، طيلة الأزمنة الماضية، شذوذاً ولا انحرافاً، فأهل الكتاب من اليهود والنصارى، عاشوا عدل الإسلام، في سائر البلاد، في مصر والشام والعراق وغيرها، ورأَوا رحمة الإسلام التي جعلها الله كافَّة لجميع الخلق، كما قال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) وإنما كان هذا لأن عامَّة المسلمين تعلَّموا دين الله وشريعته من أئمَّة علمٍ وصدق،يهتدون بهدْي سلف الأمَّة، وشعارهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس إنما أنا رحمةٌ مُهداة) وهو الذي وصفه اللهُ تعالى بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فكانت تصرُّفات عامَّة المسلمين مِن شباب وشيِب، غايةً في الانضباط بأخلاق النبوَّة، ولم تكن تصرُّفاتهم تقليداً لزعامات تزجُّ بهم في صراعٍ مع زعامات أخرى، ولا انسياقاً خلف ردود أفعال غير منضبطة، فواجب العلماء والدعاة، هو بيان حقائق الإسلام، فالعلم حصنٌ ووقايةٌ، وهو عصمةٌ مِن أوثق العِصَم، بخلاف الجهل، فإنَّه يدفع لكثرة الإنكار، ويدعو لتتبُّع علامات الكفر في المسلمين، والأصل أن يُحكم على الشخص بالإسلام بأدنى الأسباب، ولا يُحكم عليه بالكفر إلا بدليل لا مدفع له، فالغلط في إدخال ألف كافر بشبهة إسلامٍ، خيرٌ من الغلط بإخراج مسلم واحدٍ بشبهة كُفْر، كما قال ابنُ فَوْرَك، ثم إنَّ الجهل إذا اقترن بفقدانٍ للعدالة، وصاحَبَهُ حماسٌ وإحباط، فإنه يورث سَكرةً تُكسِب الإثم وتُورثُ النَّدم، ويَزجُّ بالشباب إلى مهاوي الرَّدَى، والشباب يُظنُّ بهم البساطة والطِّيبة مع قلَّةِ الدِّراية والمعرفة، وقد قال النابغةُ: “فإنْ يَكُ عامرٌ قد قال جهلاً ***فإنَّ مطيَّةَ الجهلِ الشبابُ”واستقطاب الجماعات المنحرفة للطَّيِّبين البُسطاء -إذا قلَّ علمهم- ليس عسيراً، فما أيسر ما يتلاعب بهم صاحبُ أيِّ فكرةٍ، فاختطاف هؤلاء الشباب سهلٌ وميسور، ذلك أنهم أوعيةٌ فارغة، تَقبلُ ما تُملأ به، وقد حذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاغتراربالجهَّال، واتِّخاذهم رؤساء، فقال عن حال الناس آخر الزمان: (اتَّخذ الناسُ رؤوساً جهَّالا، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا) وأيَّاً كانت الجهةُ التي تقف وراء نشأة هذه الجماعات، غير أن الذي يعنينا، وهو أهمُّ علينا مِن الحديث عن نشأتها وأسباب استقطابها لأولادنا، هو كيف نحصِّن أبناءنا، وكيف نحميهم مِن أن يكونوا أدوات بأيدي الآخرين، كما قال الشيخ عبد العزيز العلجي، حين قال قبل مِئة عام: “إذا أوقدَ اﻷعداءُ ناراً لِـحَرْبنا ***فمِنَّا أَثافيها ومنَّا وَقودها”ولعل أول شيءٍ يجب تحصينُ أولادنا به هو العلم،والداء إذا عُرف وعُرفتْ أسبابُه، صار العلاج منه ميسوراً،فواجبنا أن نعود بالناس إلى العهد الأول، ولعلَّ خير مُعينٍ على ذلك، تدريس السيرة النبويَّة، ففيها تتجلَّى أخلاق الصحابة الكرام وتابعيهم، لألا يقع في تشدُّد وشذوذ، إذا قرأ الحديث الشريف، من غير تفقُّهٍ، فيفوته الفهم الصحيح، لأنه قرأه بعيداً عن سياقه ومناسبته، قصيَّاً عن أقوال العلماء في شرْحه وبيانه، والغلط في فَهْم دين الله يوقع في الانحراف والضلال، كما قال سفيان بن عيينة: (الحديث مَضِلَّةٌ، إلا للفقهاء) فالحديث قد يكون عامّاً في لفظه وقد يكون معناه خاصّاً، وقد يكون منسوخاً أو ناسخاً، والعلماءُ ميَّزوا الناسخ من المنسوخ، كما ميَّزوا الصحيح من الضعيف، وهذا لا يعرفه إلا من استبحر في العلم، فإذا تَسوَّر على العلوم مَن ليس أهلاً لها، فَسدَتْ، وصارتْ مِراءً وجدلاً وتكفيراً، وقد كان العلماءُ فيما مضى يُحذِّرون من الجهل في فهم الحديث، قال الإمام مالك رحمه الله لابْنَيْ أُخته: (أراكما تـُحبَّان الحديث وتطلبانه! قالا: نعم، قال: إن أحببتما أن تنتفعا به وينفع الله بكما، فأَقِلَّا مِن الحديث، وتَفقَّها) وقال الإمام الشافعيُّ: (مَن حَفِظَ الفقه عَظُمت قيمتُه، ومَن تعلَّم الحديث قَويتْ حجَّته، ومَن تعلم الشعر والعربية رَقَّ طبْعُه) ومن أجل هذا المعنى قال عبدُ الله بن وَهْب: (لولا أنَّ الله تعالى أنقذَنا بمالكٍ لضللنا) فبقراءة كتب السيرة النبوية وكتب الشمائل المحمَّدية، يَبْرزُ لنا هدْيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنرى التَّصرُّفات النبويَّة الشريفة ضمن سياقها ومناسبتها، وبهذا تتهذَّب الأخلاق، وتَرْتاضُ النفوس على الهدْي النبوي الشريف .

تصرُّفات الصغير المميِّز 2-2


ختمت المقال السابق بسؤال هل تصحُّ تصرُّفات المميِّز من بيع وشراء وغيره؟ وليس المقصود بالتمييز أنْ يُجيبَ الصغيرُ إذا نودِيَ، ولا أنْ يَنْزجرَ إذا زُجر، فهذا المعنى موجودٌ عند الحيوان، وإنما المقصود بالمميِّز ذلك الذي يَفهم مقاصد العقلاء، فإذا كُلِّم بشيءٍ فهم الخطاب، وأَحسن ردَّ الجواب عنه، لا فرقَ في ذلك بين الذكر والأنثى، والتمييز لا ينضبط بِسنٍّ مخصوصٍ، وإنما يختلف باختلاف الأفهام، وغالبا ما يكون بعد السابعة من العمر، وتصرفات الصبي المميِّز تنقسم إلى ثلاثة أقسام، أولها التصرفات التي تُنقِصُ مِن مالِه، والتي في حقيقتها ضارَّةٌ ضرراً محضاً، وهي ما كانت تبرُّعاً، وقد مثَّل لها الفقهاءُ لهذا بالهبة والصدقة والقرض والكفالة والإعارة، فجميع هذه التصرفات مآلُها خروج الصبيِّ مِن أمواله، وإبطالُه مِلْكِه بغير نفْعٍ يعود عليه، وهي تصرُّفاتٌ لا تصحَّ منه، محافظةً على ماله، فيسيرٌ على الصغير إنْ طَلب منه زميله أن يهديه ساعته، أنْ يهديها له، وإن كانت ثمينه، وثاني هذه التصرفات، التصرفات التي تزيد مالَه، ولا يترتب على قبولها ضررٌ عليه، أي التصرفات النافعة نفعاً محضاً، وهي ما كانت قبولا للتبرعات، وقد مثّل الفقهاء لها بقبول الهبة والهدية وقبوله لسائر التبرعات، فجميع هذه التصرفات نفعٌ محض لاضرر منها على مال الصبي، ولا على بدنه، فلا مانع من صحة قبوله لها، وليس للوليِّ على الصغير منْعه مِن قبولها، وثالث هذه التصرفات، التصرفات التي تحتمل الربح وتحتمل الخسارة، فهي دائرةٌ بين تحصيل المنفعة له ووقوع المضرَّة عليه، ومثال هذه التصرفات سائر المعاوضات التي تَقبل الربح والخسارة ، كالبيع والإجارة والجعالة وسائر أنواع التجارات ، فهذه التصرفات إن أثمرتْ ربحاً، فهو نفع محض، وإن أثمرتْ خسارة، فهو ضرر محض، فاقتضت حكمةُ المولى تبارك وتعالى، أنْ يجعل إذن الوليِّ أو الوصيِّ مناطاً لصحة هذه التصرفات، رعايةً لمصلحة الصغير، لأنه مَظِنّة الغبن والتغرير، ومَنْعُه من هذه التصرفات قد يُفوِّت عليه المنفعة منها، فكان من حكمة التشريع أنْ فوَّض الوليَّ -لكمال عقله- أنْ يقدِّر المصلحة ويأذن بمقتضاها، فإذا أَجْرَى الصغيرُ عقد تجارةٍ أو بيعٍ أو إجارة، فإنَّ عقده يُعتبر صحيحاً إذا كان بإذنٍ من الوليِّ أو الوصيِّ، أما إذا أَجْرَى العقد مِن غير عِلم الوليِّ، فإنَّ صحَّة العقد تعتبر، غير أنها موقوفةٌ حتى يُجيزَه الوليُّ، بناءً على أنَّ الإجــازة اللاحقة مِن الوليِّ بمنزلة الإذن السابق، فإن رأى الوليُّ أنَّ العقد ليس من مصلحة الصغير، لم ينعقد البيع، ومِثل هذا ما يفعله الرجلُ أوالمرأة حين يرسلون ابنهم المميز، ليشتري أغراضاً للبيت، مِن أطعمةٍ وغيرها، فهذا الشراء يصحُّ إذا كان الصغير مأذوناً له أما إذا اكتمل عقل الصغير، وهي الحال الثالث، وهي مرحلة حسن النظر في المال بأن يحسن وضع الأمور في مواضعها ويبدأ هذا الحال من البلوغ، وهو الحالة التي إذا وصل إليها الصغير يكون مكتملاً في قواه العقلية والبدنية وبالغاً مبلغ الرجال، فيكون متحققا بوصف أهلية الأداء، فيصحُّ صدور الأفعال عنه، ويلاحَظ أنَّ البلوغَ ليس سبباً مفضياً إلى العقل والتمييز، فرُبّ صغيرٍ لم يبلغ الـحُلُم، يكون له مِن اعتدال المزاج والوعْيِ ما يجعله مثلَ عقلاء الرجال، وكم من كبير بالغٍ، لم يزل عقلُه ناقصاً لانحراف مزاجه، ولعل سائلا يسأل: فكيف يمكن أن تحكم على الطفل المميِّز باكتمال عقله ونضجه ليصحّ الاعتداد بأقواله وتصرفاته؟ فالجواب أن التفريق بين آخر مرحلة التمييز وبين أول مرحلة البلوغ صعبٌ، لأنه لا يمكن انضباطه، لأن مرجعَه إلى آثار التمييز، مِن كون تصرفاته على وِزانٍ واحد، وهذه الآثار لا تنضبط، فتعليق الحكم بالأهلية على أمر غير منضبط يفضي إلى حرج، وهو مظنة الاختلاف في تقديره، ولا يؤمَن أنْ يكون سبباً للتنازع، فمن أجل ذلك ، أقامَ الشارعُ السببَ الظاهر، وهو البلوغ الذي هو مظِنَّة العقل، مقام المعنى البــاطن وهو العقل، تيسيراً على العباد، فأدارَ الحكمَ معه وجوداً وعدماً، وللبلوغ علاماتٌ محسوسةٌ ظاهرة منضبطة، لا يمكن الاختلاف فيها، منها في الصغير إنبات الشعر، لما ثبت بحكم العادة، أنَّ الإنبات لا يقع إلا بعد البلوغ، ومنها الاحتلام، ومنها أنْ يبلغ مِن السِّنِّ مبلَغ ما يَبلغه المحتلم، وهي خمس عشرة سنة، وأما الصغيرة فتبلغ بحصول الحيض باتفاق الفقهاء، وفي هذه المرحلة يُعطى العاقل أموالَه، مِن تركةٍ أو غيرها، فيترَّف بها كما يشاء، لأنه صار مكتمل العقل .

تصرُّفات الصغير المميِّز 1-2

خصَّ اللهُ الإنسانَ من دون غيره من سائر المخلوقات، بصفةٍ ثبتت بها صلاحيتُه لثبوت الحقوق له وثبوتها عليه، فيثبت له بسببها النَّسب، وبسببها يرثُ ويَقبل الهبة والهدية، وتثبت عليه بسببها الزكاة، وكذلك يلزمه تعويض الغير عن الأموال التي يتلفها، وهي صفة ثابتةٌ للإنسان مادام حياً، بل تثبت له وهو جنين في بطن أمه، ويسمِّيها الفقهاء “أهلية الوجوب” فالجنين له ذمَّةٌ نِيْطتْ بها أهلية الوجوب، فيثبت له بسببها حقُّ العصمة، فيحرم الاعتداء عليه بالإجهاض، فإذا وُلِدَ اكتملتْ أهليَّته، وثبت له حقُّ تَـملُّك الأشياء، ثم إنَّ الشَّرع الشريفَ أثبتَ للإنسان أهليَّةً أخرى، وهي صلاحيته لصدور التصرفات منه، وهي أهليةٌ لا تثبت للإنسان إلا في سنِّ التميز، ذلك أنَّ الشأن في الإنسان العاقل السَّويِّ، أنه يملك قدرةً على أنْ يتصرف التصرف الذي يحقق له مصالحه، ويدفع عنه المفاسد، وهذه فطرةٌ فطر الإنسان عليها، وهي صفة قدَّرها الشارع في الآدمي ، تجـــعل تصرفاتَه ماضيةً وصحيحةً، يُسمِّيها الفقهاءُ “أهليَّة الأداء” فالإنسان له عقلٌ نِيْطتْ به أهليةُ الأداء، فيثبت له بسبب العقل مباشرة التصرفات، مثل أداء العبادات، وسائر التصرفات كالبيع والشراء وغيرها، فالعقل ميزانٌ ضابطٌ للتَّصرُّفات، فإذا اختلَّ هذا الميزان في الإنسان، فربّما أدّاه ذلك إلى أعمالٍ تعود عليه بالضرر، في ماله أو عقله أو نفسه، وقد اقتضتْ حكمةُ الباري أنْ يُـبطِلَ جميع التصرفات الصادرة ممَّن عَدِم وَصْف أهلية الأداء، وبيان ذلك أن الفعل لا يكون معتبراً شرعاً إلا إذا كان بقَصْدٍ مِن المكلَّف، ولا يُتصوَّر وجودُ هذا القصد ممن لا يَفهم خطاب التكليف، فبالعقل يدرك الإنسان مراد الخطاب ثم يقصد إلى فِعْلِ مُقتضاه، ومن أجل هذا فقد أسقط الشارع الحكيم أهليةَ الأداء عن المجنون وعن الصَّبِيِّ غيرِ المميِّز، وعن الحيوان، لأن هؤلاء جميعاً لا يُدْرِكون مرادَ الخطاب، فلم يَصحَّ عنهم قصْدٌ إلى امتثالِ أمرٍٍ، ولا إلى اجتناب نَهْيٍ، وهذا مِن رحمة الله بالصغير، وإنما جعلتْ الشريعةُ الإسلامية الصِّغَرَ سبباً تثبت به ولاية الغير على الصغير، فجعلت للصغير ثلاثة أحوال، يبدأ الحال الأول مِن حين يولد الإنسان، فمتى استهلَّ الجنيُن صارخاً بعد الولادة أصبحت له ذمَّةٌ مطلقة، فصار أهلاً لوجوب الحقوق له ووجوبها عليه، ويستمر هذا الطور حتى يصل الطفلُ إلى مرحلة ما قبل التمييز، أي قبل السابعة من عمره، أما أهلية الأداء فهي مفقودة في الطفل غير المميِّز، فأبطلت الشريعة الإسلامية سائر تصرفاته، فلا يصح منه بيعٌ ولا شراءٌ ولا غيرهما، فالطفل في هذه المرحلة لا يعقل، ولذلك فإن عبارَتَهُ وجميعَ أقواله هدْرٌ، لا يترتَّب عليها حكم، وإنما أناطت الشريعة الإسلامية هذا الإذن بوليِّه، والحال الثاني هو ما بعد التمييز، ويبدأ هذا الحال من سنِّ التمييز حتى مرحلة البلوغ، فإذا كبر الصغير وبدأ عقلُه يتكامل ويبصر، ويفرق بين الـحَسَن والقبيح، وأصبح قادراً على التمييز بين ما فيه منفعته ومافيه مضرَّتُه سُمِّي مميِّزاً، لأنه صارَ أهلا لفهم خطاب التكليف، ذلك أنه يكون قد أصاب ضرباً من أهلية الأداء، لكنها أهليةٌ قاصرة، لأن مبناها على العقل القاصر، فعقل المميِّز غضٌّ لم يَنْضُج بعد، فوجودُ وَصْفِ الوَعْي والعقل، يمنع من إبطال تصرفاته، ووجودُ وصف الصِّغر يمنع اتصافه بالأهلية الكاملة، فالصِّبا عذرٌ تَسقط به كثير من الحقوق، كالعبادات والحدود والكفارات، لأن في عدم إسقاطها حرجٌ على الصَّبي، والله تعالى يقول: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )وقد جاء عن عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه: (أما علمتَ أنَّ القلم مرفوع عن ثلاثة، عن المجنون حتى يبرأ وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصَّبِيِّ حتى يعقل) ومن حكمة الشريعة، أنها جعلتْ مناطَ التمييز ظهور علامات الرُّشد وآثاره، كالتمييز بين ما يضرُّ وما ينفع، غير أنَّ هذا التمييز يختلف من طفل إلى آخر، فقد يبكِّر عند بعض الأطفال ويتأخر عند آخرين، وبذلك يتعَذَّرُ ضَبْطُه، وتتشابه علاماته بأواخر طور الطفولة التي قبله، فأقام الفقهاءُ سنَّ السابعةِ مقام ظهور آثار التمييز، استئناساً بقوله صلى الله عليه وسلم: (مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين) فهل تصحُّ تصرُّفات المميِّز مِن بيع وشراء وغيره؟ ومثال ذلك: لو أنَّ صغيراً له من العمر عشر سنين، ولديه مالٌ ورثه من أبيه مثلاً، وأَحبَّ شراءَ هديَّةٍ لزميله، هل يملك أنْ يُهدي مِن مالِه؟ هذا موضوع المقال القادم .

لِهَوَى النُّفوسِ سريرةٌ لا تُعلم

(اللهمَّ اهْدِ دَوساً وَأْتِ بهم) هذه الكلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين جاءه الطفيلُ بن عمرو الدَّوسيُّ، يشكو إليه قومَه قبيلة دَوس، قائلا: (إنَّ دوسا قد هلكتْ، عصتْ وأَبَتْ، فادْعُ الله عليهم) فظن الناسُ أن رسول الله سيدعو عليهم، غير أنه صلوات ربي وسلامه عليه قال : ( اللهمَّ اهْدِ دَوساً وَأْتِ بهم) ومثل هذا حصل مع ثقيف، ذلك أن القبائل من ثقيف وهوازن ساءهم دخول الإسلام مكَّة، فاجتمعوا وأمَّروا عليهم سيد هوازن مالك بن عوف، وأجمعوا على قتال المسلمين، فوقعت معركةُ حنين، وهُزم الجمع وفرُّوا مع قائدهم مالك بن عوف إلى الطائف، وتحصنوا في حصنها، وأغلقوه عليهم، وصار رُماتهم يرمون المسلمين بالنَّبل، ووقع منهم أذى كثيراً للمسلمين، غير أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى -رحمةً بهم- ألا يضيِّق عليهم الحصار، فأمر بالرحيل، قيل: يا رسول الله ادع على ثقيف فقد أحْرَقَتْنا نبالُهم، فقال: (اللهم اهْدِ ثقيفا إلى الإسلام وَأْتِ بهم مسلمين) وكان مِن هَدْيه إذا قيل له: يا رسول الله ادْعُ على المشركي، أنْ يقول : (إني لم أُبْعث لعَّاناً) ويقول: (إنما بعثْتُ رحمةً ولم أُبْعث عَذَابا) فلم يُطلب منه أنْ يدعو على أحدٍإلا ودعا له، وما هذا إلا أنَّه نبيُّ الرحمه وأنه بُعث رحمةً، وقد قال الله له:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) فرحْمَتُه للناس عامَّة وللمؤمنين خاصة، فأما رحمته للمؤمنين فلأنه سببٌ لسعادتهم في الدنيا بما جاء به مِن أحكام وتشريعات، ولأنه كذلك سبب سعادتهم في الآخرة، وأما رحمته للكافرين فلأن اللهَ لم يُهلكهم كما أهلك الأمم السابقة، وذلك بسببه صلوات ربِّي وسلامه عليه، كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) فهذا الدين قوامُه هدايةُ الخلق، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأنْ يهديَ اللُه على يديك رجلاً، خيرٌ لك مما طلعتْ عليه الشمس) فأوثق عرى الإسلام هو الحب في الله والبغض في الله، فإن مصدرهما واحدٌ، وهو الرحمة للعالَمين، بدافع من الغَيرة على الخلق، لا الغَيرة منهم، ولا الحقد عليهم، فإذا أحبَّ المؤمنُ أحداً، فإنما يحبُّ ما هو عليه مِن استقامةٍ وصلاح، فيحبُّه سروراً بهدايته وفرحا بتلبُّسه بالطاعة وبسلوكِهِ سَنن المهتدين، وإذا أبغض أحداً، فإنما يبغض ما هو عليه من شرودٍ وانحراف، رحمةً به وشفقةً عليه، بدافعٍ مِن الغَيرة عليه، فَيَكرَهُ تلبُّسَ العاصي بالمعصية وتلبُّس الكافر بالكفر، أما الحبُّ والبغض لحظوظ النفس، فمصدرهما الانتصارُ لأهواء النفس، مثل مَن يُحبُّ شخصاً لمالِهِ أو لجاهِهِ أو لقرابته، وربما أحبَّهُ لانتمائه لبلدٍ مِن البلاد، أو ينحاز له لانتسابه لجماعةٍ أو حزب، ومثل مَن يبغض أحداً أنانيةً أوحقداً عليه، أو حسداً له، أو انتصاراً لقبيلته أو لبلده أو لحزبه، فهذه حظوظٌ دنيوية، وما أكثر ما غفل عن هذا المعنى بعضُ الدعاة، بل غفلتْ بعضُ الجماعات الإسلامية، فعادَى بعض الإسلاميين بعضا، اتِّباعا لحظِّ النفس، وهم يَظنُّون أنَّ معاداتِهم انقيادٌ لأمر الله، لأنَّ حظَّ النفس في الطاعة باطنٌ وخفِيٌّ، كما قال ابن عطاء الله، فَلِهَوَى النُّفوس سريرةٌ لا تُعلم، فللنُّفوس في الحكم على الغير لذَّةٌ عظيمة، وشهوةٌ وأيُّ شهوة، فممَّا يستطيبُه الإنسانُ تزكيةُ نفسه واتِّهام الغير، وأخطر ما يواجه الداعيةَ إلى الله أنَّه يجد لذَّةً في اتِّهام الآخرين، من الإسلاميين وغير الإسلاميين، أفرادا وحكومات، فكم في الدعاة مَن جعل همَّه كشْفَ عيوب غيره، وقد يتلاعب به الشيطان، فيتَّهم مَن لم يُشايِعْهُ بالتَّزلُّف والنِّفاق، وفاتَه أنَّه يتزلَّف للنَّاس بظهوره أمامهم بمظهر الأسد، ولو أنصف الداعيةُ لعَلِمَ أنَّ احتسابَه إنْ كان لله، لَوَجدَه ثقيلاً على نفسه، ولَوَدَّ لو انكفَّ العاصي بغير احتساب، وودَّ أنْ يَحتسب غيرُه على هذا العاصي، بخلاف الحسْبَة لحظِّ النفس، ففيها لذَّةٌ وإرضاءٌ لِهَوَى النَّفس، وما كان هذا هدْياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لصحابته الكرام، وقد نبَّه الإمامُ أبوحامد الغزاليُّ رحمه الله إلى هذه الآفة، فنَصَحَ المحتسبَ أن يدعو المقصِّرين بباعث الرحمةِ شفقةً بهم، وأنْ يَنظر إليهم بعين المترحِّم عليهم، وأنْ يرى أنَّ إقدام العصاة على المعصية مصيبةٌ عليه، ونبَّه المحتسبَ إلى أنَّ الباعثَ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر، إنْ لم يكن رحمةً بهم، كان المنكِرُ أقبحُ في نفسه مِن المنكَرِ الذي يَعترض عليه .

صاحبُ الدَّين مأسورٌ بِدَيْنِه

كان مِن شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان يؤتى بالرجل الميت عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه مِن قضاء؟ فإنْ حُدِّثَ أنه ترك وفاءً، صلَّى عليه، وإلا قال: (صلُّوا على صاحبكم) وفي أحد الأيام جيء بجنازة فقالوا: صَلِّ عليها، قال: (هل ترك شيئا؟) قالوا: لا، قال: (فهل عليه دين؟) قالوا: ثلاثة دنانير، قال: (صلُّوا على صاحبكم) قال أبو قتادة: صلِّ عليه يا رسول الله، وعليَّ دَيْنُه، فصلَّى عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، والأحاديث في خطورة الدَّين كثيرةٌ وشديدة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) وقوله صلى الله عليه وسلم: (صاحبُ الدَّين مأسورٌ بِدَيْنِه) وبيان ذلك أنه لا مقارنة بين كرم الله وفضْله، وبين حرص الإنسان وَشُحِّه، فابنُ آدم إنْ تُرِكَ وهواه، فإنه لشدَّة حبِّه للمال قد يمنع الخير، كما كان أهل الجاهلية، لا يُعْطُون العطاء إلا للفخر والسُّمْعة، وقد عابَ عليهم الله أنهم لا يعطون الضعفاء إلا في المجامع والمحافل، قال تعالى: (وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) قيل: كان الوليد بن المغيرة من عظماء قريش، وكان في سعة من العيش، فكان يطعم الناس أيام منى، ويَنْهَي أنْ تُوقدَ نارٌ لأجْلِ طعامٍ غير نارِه، وينفق على الحاج نفقة واسعة، وذلك مِن أجْل أنْ تُثْنِي عليه الأَعراب، ولا يُعطِي المسكينَ درهما واحدا، فما أبخل الإنسان، ومن أجل شُحِّ ابن آدم بحقوقه كانت حقوق الناس مَبنيَّةً على المشاحَّةِ والـمُحاقَّة،فلا يُسقطها إلا صاحبها، فهو الذي يملك العفو والمسامحة لمن أخذ حقَّه، فمهما عمل المرءُ من الطاعات ومهما أدَّى من الحسنات، فإنها لا تُسقط حقوقَ الناس التي عليه لهم، بخلاف حقوق الله، فهي مبنيَّةٌ على المسامحة، لأن الله يعفو ويغفر، ذلك أنَّ اللهَ تعالى حين خلق الإنسان نثر له على الأرض خيرات كثيرة، وأذنَ له في تملُّكها بالطرق الصحيحة التي لا اعتداءَ فيها على أحد، مِن صيد وزراعة وصناعة وغيرها، ثم أكرمه فملَّكه التَّصرُّف فيها، فصارتْ حقّاً له فضْلاً مِن الله ومِنَّة، فلا يصحُّ أنْ تنتقل لغيره إلا برضاه التَّام الكامل، فلا يَسقط حقَّ الدائن، وإن أدَّى المدينُ أعظم العبادات كالجهاد في سبيل الله، ومن أجل هذا فقد كان صلّى الله عليه وسلم في أوَل الإسلام يمتنع من الصَّلاة على مَن مات وعليه دَينٌ، وذلك إذا لم يَترك مالاً يُقضَى به دَيْنُه، كمَن يقترض وهو يعلم أن ذمَّتَه لا تَفِي بما تداينَ به،وربما كان لغير ضرورة، وقد يكون ليستعمل القرض في سرفٍ أو معصية، فهذا بمنزلة مَن أخذها يريد إتلافها، خاصَّةً إذا لم يَنْوِ الوفاء، فيصْدُقُ عليه قوله عليه الصلاة والسّلام: (مَن أخذ أموال الناس يريد أداءَها أدَّى اللهُ عنه، ومَن أخذها يريد إتلافها أَتْلَفَه الله تعالى) فيجب على كلِّ مَن كان عليه دينٌ أنْ يوصي بأدائه عنه، فإنْ ترك مالاً يُمكن أنْ يُباع ليُوَفَّى منه دينه، ثم أَوْصَى بأداء دينه، فهذا لا يُكون محبوساً عن الجنَّة بسبب دَيْنه، ومثلُه مَن استدان بوجْهٍ صحيح، مثل أنْ يكون محتاجاً، فاقترض بسبب فاقته وعُسْره، فهذا معذورٌ وإنْ لم يَترك ما يُوَفَّى به دَينه، فهو فقيرٌ يسدَّد دَينه مِن سهم الغارمين ببيت المال أي من مصلحة الزكاة، فالدَّين واقتراضُ أموال النَّاس جائزٌ بشروطٍ بيَّنها الفقهاء، وهي أن يكون في غير معصية، وأن يكون في غير سرف ولا تبذير، وأن يَعلم المقترضُ أنَّه قادرٌ على الوفاء، بأنْ يكون عنده مالٌ يمكنه أن يبيعه ليُوَفَّى منه دينُه، أو أن يكون فقيراً مضطراً للاقتراض ليُطعم أولاده، وكان قَصْدُه أن يسدد القرض حالَ قَدَرَ على ذلك، ثم إن الفقهاءَ ذكروا أن المدينَ الذي يُعطَى من الزكاة، هو مَن استدان في غير سَفَهٍ ولا فساد، ولم يكن عنده مالٌ، أوكان عنده مالٌ يكفيه لضروراته وأولاده من كساءٍ وغذاءٍ وسكن، فهذا هو الذي يعطى من الزكاة لقضاء ديونه، فلْنتأمَّل في حكاية ذلك الرجل الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنْ قُتلتُ في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غيرَ مدبر، أَيُكَفِّر اللُه عنِّي خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم إلا الدَّين) أسأل الله أن يقضي الدَّين عن المدينين، وأنْ يُفَرِّج همَّ المهمومين وأنْ يُنفِّس كرب المكروبين، وأنْ يَفُكَّ أسْرَ المأسورين .

هل ينتحر المسلم

ذكرتُ في المقال السابق أنَّ الانتحار مظهرٌ لإساءة الظنِّ بالله تعالى، باعتقاد أنَّ رحمته أضْيَق مِن أنْ تَـسَعَ ذنوب العباد، وأنَّ المسلم لا يُقْدم على الانتحار، لأسباب ثلاثة، الأول: أن الله تعالى حين أخرج الإنسان إلى هذا العالم وبثَّ فيه الروح، اقتضت حكمته البالغة أن يجعل هذه الروح تتعشَّـق هذا الجسد فتتعلَّق به تعلُّـقاً شديداً، فيصعب بسبب هذا التَّعلُّق أن يعمد أحدٌ إلى إخراج روحِهِ مِن جسدِه، فما تعلَّق شئٌ بشيء، كتعلُّق الروح بالجسد، هذا الجسد الذي جعله الله محلاً تسكن فيه الروح فحُبِسَتْ فيه، وربما كان هبوطها وحَبْسها فيه عن كُرهٍ منها لـه، غير أنها سرعان ما تعشَّقَتْهُ وتعلَّقت به، فعزَّ عليها أنْ تفارقه، كما قال أبو علي بن سينا: (وَصَلتْ على كَـرهٍ إليك ورُبَّـما***كرهتْ فراقَك وَهْيَ ذاتُ تَوَجُّعِ) ومن أجل هذا المعنى نجد الروح تُنازِع وهي تخرج من الجسد، ويعاني الإنسانُ مِن خروجها شدَّةً، لِـقوَّة تعلُّقها بالجسد، كما قال سبحانه: (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الموْتِ بِالحقِّ) فسمَّاها اللهُ سَكرةً، لشدَّة وَقْعِها، والسبب الثاني: أن هذا العمل محرَّم بالإجماع، فالحفاظ على الحياة مُعظَّمٌ في الإسلام، فقد قال الله سبحانه: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وقد نقل الإمام شهاب الدين القرافيُّ الإجماعَ على تحريم قَتْل الإنسان نفسَه، وإنْ كان ذلك تسهيلاً عليه وإراحةً له من أَلَمِ الوجع، حين يصل به المرض إلى حدٍّ لا يُرجى شفاؤه، قال القرافي: (وإن اشتدَّ ألَـمُـه) فشرع اللهُ مِن أجل حفظ الحياةِ حَدَّ القصاص، لينكفَّ الناسُ عن هذه الفعلة، وسمَّى القصاصَ “حياة” لأنه سببٌ لحفْظِها فقال: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ثم إنَّه سبحانه أباح النُّطقَ بكلمة الكفر في سبيل حفظ النفس فقال: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيـمَانِ) والسبب الثالث: أنَّ المسلم لا يقف من الحياة على مصيرٍ مجهول، فلا يرى فيها نهايةَ المطاف، لأنه يعلم أنها ممرٌّ ودهليز إلى حياة أبدية، فهي عنده مرحلةٌ زمنية يستثمرها لما وراءَها، وفرصة للتعبير عن ولائه لخالقه وبارئه، فإذا حلَّتْ بالمؤمن نعمُ الله ومِنَنُه رأى فيها كرمَ الله وفضْله، وإذا نزل البلاء به، وأطبق عليه الكَرْبُ، وأظلمت الدنيا أمامه، فإنه لا يرى في ذلك كلِّه ما يوجب شقاءً ولا بؤساً، بل يرى في هذه المآسي مَظهراً لسطْوة الله وقَهْره، فالأمر كما قال ابن عطاء الله السكندري: (إذا أعطاكَ أشهدك بِرَّهُ، وإن مَـنَعَك أشهدك قهْرَهُ) ومن أجل هذا المعنى فإن الصحابي الجليل عمرانَ بن الحصين رضي الله عنه حين نزل به مرضٌ أَقْعَده ثلاثين سنة على الفراش، جاءه أخوه العلاءُ يعوده، فبكَى العلاءُ على حال أخيه، فقال عمران: (لا تبكِ يا أخي، فإنَّ أحبَّه إلى الله أحبُّه إليَّ) فما أقْواه مِن إيمان، ذلك أنَّ الشأن في المؤمن أنَّه يعلم حقيقةَ الحياة، فلا يركن إليها، ولا تجدُه يلهث وراء سراب مُتَعها ولذائذها، إنَّ جهل الإنسان بحقيقته وحقيقة الحياة التي يحياها هو الخميرة الأوَّلية لتقليعة الانتحار، ذلك أن الذي لم يعرف حقيقة الحياة فإنَّه سيقف منها أمام عالَمٍ مجهول، وسينظر من خلالها إلى مصير مظلم، أشبه برَجلٍ جـيء به مِن بلادٍ نائية، لم يسمع عن شئ اسْمُه سيَّارة ولا قاطرةٍ ولا طيَّارة، ثم عُصِبتْ عيناه، ووُضِـعَ داخل قطار يسير فيه بسرعةٍ واضطراب، ولك أخي القارئ الحصيف أنْ تتصوَّر الحيرةَ التي تعتريه، والقلق الذي يستبدُّ به، وهكذا الشَّأن فيمن كفر بالله، إنه قد يغفل قليلا، وقد يسلو عن القلق حين تُشغله عن حيرته بحديثك، ولكنه كلما ابتعدتَ عنه، وزال عنه ما يُشغله، أو جَنَّ عليه الليل، عاد يفكِّر في مصيره والغاية من وجوده، واستبَدَّ به الكَرْب أَيما استبداد، وربما أنشد: (جئتُ لا أعلمُ مِن أينَ ولكنِّي أتيتْ***ولقد أبصرتُ قدَّامي طريقاً فمشيتْ) (وسأبقى سائراً إنْ شئتُ هذا أم أبيتْ) (كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري !!!) ولنا أنْ نأخذ العبرةَ مِن فتاةٍ تُدْعى “إميلي براملت” كانت تعيش حياة تعيسة، ترى أنها معذَّبة، تتقاذفها رياح القلق والاضطرابات النفسية، وكم فكَّرَتْ في الانتحار، لشدَّة وقْع المصائب عليها، فلمَّا مَنَّ اللهُ عليها بالإسلام انقلب الضَّياع والاضطراب في حياتها إلى طمأنينة وسكينة، وتحوَّل الشَّقاءُ والبؤس إلى سعادةٍ وأُنْس، فكتبَتْ قصَّتَها في كتاب عنوانه: (آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ)