الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ
أعلام الأحساء من تراث الأحساء
 
المعجزة والكرامة 2-2

بينت في المقال السابق أن النفوس ترى عظيم خلْق الله، في الأفلاك وفي النبات والحيوانات، فترى ما يبهرُ عقولها، غير أنها إذا رأتْ ما هو مثلهُ في عظيم الخلق، مما لـمْ تألفْه، كان إعظامُها له أشدّ، وتُسمّيه معجزةً إنْ وقع لنبيٍّ وكرامةً إن وقع لولي، فالمعجزةُ ليست مما يُحيل العقل وجوده، بل هي من قبيل الممكن، وأضرب مثالاً آخر بخلق عيسى عليه السلام، فما أشدّ غفلة الإنسان، يعجب من خلق عيسى من أُمٍّ بلا أب، ولا يعجب من خلق آدم بلا أمٍّ ولا أب، بل ولا يعجب من خلق عموم البشر من أمٍّ وأب، وهو يرى كيف يقع الحمل، وكيف ينشأ الجنين في تسعة أشهرٍ يقضيها محفوفاً بالمخاطر، ترعاه ألطاف الله، ثم يخرج وقد أكنّ اللهُ في قلبيْ والديه شفقةً عظيمة عليه، بل في قلوب عموم الخلق،وتستمرُّ الرعاية إلى أن يبلُغ مبلغ الرجال، فخلْقُ الله تعالى كلُّه معجز، غير أن الإلْف قد يُبلّد إحساس البعض، فيرون ما خالف مألوفهم وخرق مُعتادهم، موقظاً لهم من الغفلة، ولعل سائلا يسأل، فما هي الكرامة، والجواب أن الكرامة كالمعجزة، أمرٌ مخالفٌ للعادة، غير أن الله يُجريه على يد أحد أوليائه، تثبيتاً له، أو تكريماً له، أو تأييداً ونصرةً لدينه، فكلُّ ما جاز أن يكون مُعجزةً لنبيٍّ جاز أن يكون كرامةً لوليّ، فالفرق بينهما التحدي، فالكرامة منحةٌ وتكريمٌ ربّاني، ولا تفيدُ عصمة المكرّم من الذنوب، والمعجزة يُجريها الله على يد النبي يتحدّى بها قومه، إظهاراً لصدْقه، وإذا أكرم الله وليّاً، فإنه حين ظهور آيات الله أمامه، يقْوى به يقينه، وحين يرى فضل الله عليه بها، يشتدُّ تواضُعُه، ويزداد التزامُه بالشرع، ولأنه لا يقطع بأنها كرامة، يشتدُّ خوفُه من أنْ تكون استدراجاً، فأرْبابُ البصائر لا يتشوّفون للكرامة، بل يُخْفونها خشية أنْ يُفتنوا بها، قيل: (الكرامةُ كرامةٌ، ما لم يُحدّثْ بها لغير ضرورةٍ أدّتْ إلى ذلك، أو يزْهُو بها) فهمُّهم طلب الاستقامة، فهي الكرامة المعنوية التي دلّ عليها قولُه تعالى: (فاسْتقمْ كما أُمرْت) وقوله صلى الله عليه وسلم: (استقيمُوا ولن تُحصُوا) فالاستقامةُ أعظمُ كرامة بإجماع العارفين، وهي خُلُقُ الأكابر، وهذه الأخلاق قصّر فيها كثيرٌ من الدُّعاة اليوم، غايتها تقوى الله أوّلاً، والعفّةُ عن إيذاء الخلْق ثانياً، قال الجنيد: (ولا يُطيقها إلا فحول الرجال) وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: (إنما هما كرامتان جامعتان: كرامةُ الإيمان بمزيد الإيقان، وكرامةُ العمل على الاقتداء والمتابعة، فمن أُعطيها واشتاق لغيرها، فهو مُغْترٌّ) أما الكرامة الحسّيّة، كتكثير الطعام ونبع الماء، وغيرهما مما خالف المألوف، فلا تتشوّفُ إليها نفوس العارفين، بل كلما كان العبدُ إلى الله أقرب كان انصرافُه عنها أشدّ، وهذا ما يفسّرُ قلّة الكرامات التي نُقلت عن الصحابة الكرام، مقارنةً بما نُقل عن تابعيهم، فلقُوّة يقينهمْ لا يلتفتون إليها، ولا يتداولونها، أما اليوم فيطْربُ الناسُ للكرامة أشدّ الطرب، ويظنُّون أنها تنطوي على أمرٍ عظيم، ويستدلُّون بها على صحّة سلوك من ظهرت على يده، وهو استدلالٌ باطل، فصحّةُ الطريق هو الوقوف عند حدود الشرع، فقد يُرزقُ الكرامة من لم تكتمل له الاستقامة، قال أبو علي الدّقاق: كُن طالب الاستقامة، لا طالب الكرامة، فإن نفسك متحركةٌ في طلب الكرامة، وربُّك يطلب منك الاستقامة.. ففرقٌ بين من همُّه طلبُ نصيبه من كرم مولاه، وبين من همُّه مطالبةُ نفسه بحقوق مولاه، وفي هذا ما فيه من سوء الأدب مع الله، رزقنا الله الفهم عنه.

المعجزة والكرامة

المعجزة والكرامة
د . قيس المبارك
إن الإنسان إذا تأمل في هذا الكون، وجالَ النظر في عجيب صنعه ودقائق حِكَمِه، لَيَرى انسجاماً كبيراً بين أجزائه، وتناسقاً بديعاً في ارتباط ذرَّاتِه بعضها ببعضها، فما مِن ذرَّةٍ من ذرَّات هذا الكون إلا وهي مسبَّبةٌ عن غيرها من جانب، وسببٌ لغيرها من جانب آخر، فالوالدان سببٌ في وجود أولادهما من جهة، وهما من جهة أخرى مُسبَّبان عن والديهم، وهكذا الشأن في جميع المخلوقات، من حيوان أو نبات أو أفلاكٍ نشهدُها تسبح في صفحة السماء، فهذا التناسب والتآلُف بين أجزاء الكون، وارتباط بعضها ببعض هو أعظم دلائل وجود الله تعالى، فوجود المخلوقات ابتداءً دليلٌ قاطع على مَن أوجدها كما قال تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) فضلاً عن دلالة التآلف والانسجام بين أجزائها ضمن ظاهرةِ السَّببية، وهذا وحْدَه كافٍ في الدلالة على أن الإلحادَ تعطيلٌ للعقل عن وظيفتِه، ونزولٌ عن مرتبة الإنسان المكرَّم بالعقل إلى مرتبة العجماوات، ولذا كان الإلحادُ قليلاً في البشر على مرِّ الأزمان، كما نبَّه إلى ذلك القاضي أبوبكر الباقلاني رحمه الله وغيره، فدلائل الإعجاز في الكون أعظمُ مِن أنْ تُحصى، كما قال الشيخ حسن البُورِينِيُّ : (وَرَقُ الغُصُونِ إذا نظَرْتَ دفاتِرٌ *** مَشْحونَةٌ بأدِلَّةِ التَّوْحيدِ) غير أن الشأن في الإنسان أن يَغفل بحكم الإِلفِ والاعتياد، فيتبلَّدُ عقلُه وتَقلُّ فطنتُه، فلا يتنبَّه لكثير من مظاهر الإعجاز في خلق الله، ولذلك ندبنا اللهُ إلى التفكُّر في آياته، وأمرنا بالاعتبار في مخلوقاته في كثير من الآيات، كقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) بل إنَّ مِن مزيد رحمته بعباده، أنْ جاء مع الأنبياء بالمعجزات، من أجل أنْ يزول التبلُّد والغفلة، فيُعملُ الإنسان عقلَه بالتفكُّر والتدبُّر، والمعجزة في اللغة مشتقة من العَجْز وهو الضَّعْف، بمعنى أن يعجزَ الإنسانُ عن أنْ يأتي بمثلها، فهي أمرٌ مخالفٌ لِمَا أَلِفَهُ الناسُ واعتادوا على مشاهدته، ولا تعني مخالفة العقل ومخاصمته، ولا أنَّها ممَّا تُخالف الممكن، فالمعجزةُ بتعريفها المنصوص عليه عند الفقهاء، ليست من جنس المستحيل، فهي: (أمرٌ خارقٌ للعادة، يُجريه اللهُ على يد أحد أنبيائه، على سبيل التحدِّي للمنكرين له، على وجْهٍ يُبيِّنُ صِدْقَ دعواه) وأَضربُ لذلك مثلاً بالقمر، فإنه مخلوق عظيم، ووجودُه يسبحُ في السماء كذلك مظهرٌ عظيم، وحركته في السماء بِسيرٍ منضبط مظهرٌ آخرٌ عظيم، فهو يجري في فلكٍ خاصٍّ به، ويسير سيراً سريعاً في فَلَكِه لِيقطع ثمانيةً وعشرين منزلا في زمنٍ قدَّره الفلكيون بما يقارب ((29)) يوماً، بل ذكروا أنه غايةٌ في الدِّقة، قالوا: هو ((29)) يوما و((12)) ساعة و((44)) دقيقة وثانيتان و((87%)) من الثانية، فدورةُ القمر كما يقول الفلكيون غاية في الدِّقة، غير أنَّ مشاهدتنا للقمر كلَّ ليلة على مرِّ الأيام والليالي، قد تجعلنا نألف هذا المشهد، فلا نرى فيه إبداعاً وإعجازاً، وربَّما قال البعضُ، هذا أمرٌ عاديٌّ، فالقمر بطبْعِه يسير في السماء، أما حين يخرج القمرُ عن مألوفه، أو يضطرب في سيرِه، فإن النفوس تتنبَّه وتتساءل عن سرِّ هذا الخروج عن المعتاد، وقد وقع أنْ سألَ أهلُ مكةَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يُريهم معجزةً، فانشقَّ القمرُ فِلْقَتين، فلقةٌ عن يمين جبل أبي قُبَيْس، وفلقةٌ عن يساره، قال سيِّدُنا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (رأيتُ القمر وقد انشقَّ، فأبصرتُ الجبلَ بين فُرْجَتَي القمر) فاعجب كيف يكون انشقاقُ القمر إلى شقَّين أشدَّ غرابةً في النفوس مِن بديع خَلْقه ودقَّة سيره، وأعجب من ذلك خُذلان المشركين حين لم يَرَوْا في هذا إلا أنه سِحرٌ لأعينهم، كما أنهم لم يَرَوا في المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه سوى يتيم أبي طالب، فنزلت آيةُ: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) فإعراضُهم وشدَّةُ نُفرَتِهم مِن الحق وبغضهم له، أعماهم عن رؤية دلائل التوحيد، فبُغضُك الشيء أو حُبَّكَ له يُعْمِي وَيُصِمُّ، ويُريك الحقَّ باطلا والباطل حقّاً، فصاروا بمنزلة الصُّمِّ العُمْي، (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) وللحديث بقية.


الأحد 6 جمادى الآخرة 1435 - 6 أبريل (نيسان) 2014
اليوم http://www.alyaum.com/News/art/131168.html

الحريَّةُ صنْوُ العفَّة 2-2

أشرتُ في المقال السابق إلى أن الحريَّة في المعنى الذي اصطَلَح عليه الناسُ اليوم، تعني أن يكون المرءُ حرّاً في أنْ يقول ما يريد، وفي أن يفعل ما يريد، فهي عَطاءٌ من الله تعالى لجميع البشر، قال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) أي بينا له وعرَّفناه طريق الخير وطريق الشر، وتركنا له الحرِّيَّة التامَّة في الاختيار، هذا الاختيارُ هو الذي بسببه كان العبدُ مكلَّفاً، فشَرْطُ التكليفِ: عِلْمُ المكلَّف وقُدْرَتُه: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) قال الإمامُ القرطبيُّ: (وهو كما تقول: قد نَصَحْتُ لك، إن شئت فاقْبَل، وإن شئت فاترك) وقال سبحانه فيمن تمرَّد بِطَوْعِ هواهُ: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) أَمَرَهم بالانضباط بقانون الحياة الذي فرضَه عليهم، فأَبَوْا وتَمرَّدوا، فحقَّ عليهم العذاب، والعربُ تقول: «قد أعذر من أنذر» وهذا معنى قوله تعالى: (لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) ولعلَّ سائلا يسأل: وكيف أكون حرّاً، إذا كنتُ سأُحاسب على قولي وعملي؟ فالجواب أن الإنسان حرٌّ فيما يَملِك، وليس حرّاً في سلب ممتلَكات الآخرين، فالأرضُ جعلها اللهُ موضعاً يَنتفِعُ به عمومُ البشر، وليست ملكاً لفردٍ واحدٍ منهم، فجعلَها ملأَى بالخيرات، فالناس يتواردون ويتزاحمون على خيراتٍ كثيرةٍ، مذلَّلةٍ ومسخَّرةٍ لهم، وجعل لكلِّ واحدٍ منهم أن يبسطَ يدَه على كلِّ ما تسبقُ يَدُه إليه، فيقوم بكلِّ عملٍ يبتغيه، ويمتلك كلَّ ما تَسبقُ يدُه إليه، غير أنَّ تَزاحمَ الناس على هذه الخيرات، مِن شأنه أن يدفع كلَّ واحدٍ منهم إلى أنْ يَكُفَّ يدَه عما سبقتْ يدُ غيره إليه، وأن يُراعي في سعْيِهِ لمصالحه مصلحةَ الآخرين، وإلا لوقع الناسُ في تنازُع وتقاتُل، فاسترسالُ بعض البشر في تحصيل المنافع المبثوثة في الكون، مِن غير التفاتٍ لحريَّة غيرهم هو سبب هذه الخصومات التي تملأ الدنيا، وما أَرسل الله الرسل إلا لوضع قانونٍ يحول دون اعتداء الآدميِّ على أخيه، ودون اعتداء القبائل والدول على بعضها، بوضْعِ القوانين المنظِّمة لتعاملات الناس وتصرُّفاتهم في أموالهم وحقوقهم، ومن بديع ما نبَّه إليه الأصوليون أنَّ الحرية تَتَّسعُ لمن قلَّت التزاماتُه، وتَضيقُ على مَن اتَّسعت سلطَتُه وكثُرَت التزاماتُه، فمَن وَلِـيَ أمراً وأُسنِدَت إليه مسؤوليةٌ تتعلَّق بغيره، فقد قيَّد نفسَه، لأنه مأمورٌ وجوباً بالتصرُّف بما تقتضيه المصلحة العامة،وآثمٌ إن تصرَّف بما ينافيها، فالقاعدة تقول: (التصرُّف على الرَّعيَّةِ منوطٌ بالمصلحة) بخلاف تصرُّفات الفرد فيما يَخصُّه وحدَه، فهو حرٌّ في اختيار الصالح أو الأصلح، ثم إن حُرِّيَّـتَك تعني أن يُحترم قولُك ورأيُك وفعلُك، فضلاً عن الاعتداء على مالك أو نفسك، فَقِوامُ الإساءةِ هو تضييق الحريات، ومنها إشاعةُ المناكر والمفاسد والبَغْيَ والاعتداء على حدود الآخرين، فالاعتداء على الأنفس والأعراض والأموال، من تضييق الخناق على الحريَّات فيُقيِّد الله تعالى الحرية إذا أفضت إلى ضرر عام أو خاص، أو أدَّت إلى تقييد حرية الآخرين، فأعلنت حقوقَ الإنسانِ في الإسلام آيةُ: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)، فالمباحُ هو الأصلُ، والممنوع هو الاستثناء، فلا يصحُّ ادِّعاءُ تحريم أو إيجاب إلا بنصِّ، وأعلن حقوقَ الإنسانِ كذلك الحديثُ الشريف: (إن دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم، عليكم حرامٌ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) وصور الاعتداء على حريَّات الآخرين وكبْحِها كثيرةٌ جداً، ولعل مِن أظهرها وأقربها إلى واقع الناس اليوم، ما نراه على صفحات التواصل الاجتماعي، كالتويتر والفيسبوك والصحافة الورقية، مِن لَمزٍ وتنابزٍ واتِّهامٍ للنيَّات، فما أيسر على الواحد منَّا أنْ يُسفِّهَ رأيَ غيره، ويَتَّهمه بسوء النيَّة وخُبث الطويَّة، يستوي في ذلك الرأي الفقهيَّ، والرأي في قضايا الاقتصاد والسياسة، ولا أحتاج لاستدعاء الأمثلة، فكثرتُها أعظم من أنْ أَذكرَ واحدةً منها، إنَّ السكوت عن الخطأ غير مقبول، غير أن بيان الحقِّ لا يستدعي نبزَ مَن نختلف معه، فالكبير هو الذي يبيِّن الحقِّ ويُقيم البراهين عليه من غير إساءَةٍ لأحد، ورحم الله الحسين بن مُطير الأَسدي حين قال:
أُحِبُّ معاليَ الأخلاق جَهدي
وأَكرهُ أنْ أَعِيبَ وأنْ أُعابا
ومَن هابَ الرِّجالَ تهيَّبوه
ومَن حَقَرَ الرِّجالَ فلن يُهابا

الحريَّةُ صنْوُ العفَّة 1-2

الحريِّة كلمةٌ كانت تطلق ويرادُ بها غير المعنى الذي اصطُلِحَ عليه في هذا العصر، والذي سيكون حديث المقال اللاحق، فكانت هذه الكلمة تُطلَق على المعنى المقابل للعبودية، وهي بهذا المعنى قد جعلها الله وَصْفاً فطريّاً وأصلاً ثابتاً في الإنسان، والعرب تَعُدُّها من أوصاف الكمال، وتراها محلاً لظهور فضائل الأعمال في الإنسان، كالصدق والحلم والسخاء، تسوقُهم إلى عموم مكارم الأخلاق، والبُعدِ عن كلِّ معيب، كما قال مُـخَيْسُ بنُ أرطاةَ التميميُّ:
(فقلتُ لهُ تجنَّبْ كلَّ شيءٍ
يُعابُ عليكَ إنَّ الحرَّ حُرُّ)
أي أنَّه باقٍ على ما عُهِد في الأحرار من عُلُوِّ الهمَّة وزكاة الأخلاق واجتناب مواطن الرِّيَبْ وتَرْكِ كلِّ ما يُعابُ المرء به، وعن كلِّ ما يُحْوِج إلى الاعتذار عنه، غير أن كثيراً من الأمم اعتدَتْ على هذا الأصل، فأهانَ القويُّ فيهم الضعيفَ وأذلَّه، وربما استعبَدَه، فشاعَ الاسترقاق عند كثير من أمم الأرض، حتى صارَ عريقاً فيها، فخوَّلتْ شريعةُ الفراعنة -في القرن العشرين قبل الميلاد- للمسروق منه أنْ يَستَعْبِد السارق، وهي الحيلةُ التي احتالها سيدنا يوسفُ عليه السلام لأخذ أخيه بنيامين مِن إخوتِه، قال تعالى: (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ) فاضطُرَّ إخوتُه إلى تسليمه للعزيز، ظنّاً منهم أنه سارق (قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِن قَبْلُ) وللمُلْتَقِط أنْ يَستَعْبِد الملتَقَطْ، وبهذا استُعْبِدَ سيدُنا يوسفُ عليه السلام، حين التَقَطَه السيَّارةُ مِن البئر، فجعلوه بضاعةً، ثم بِيعَ بثمنٍ يسير: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ) واستَضْعَفَ الأقباطُ اليهودَ في مصر فاستَعْبَدوهم، وهو ما أنكرَهُ نبيُّ الله موسى عليه السلام على فرعون: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ) فليس لفرعونَ أن يَمُنَّ على سيدنا موسى عليه السلام بأنه ربَّاه في قصره، لأن هذا كان بسبب إذلالِهِ لِبني إسرائيل واستئصاله لأطفالهم، ووردَتْ نصوصٌ مُحرَّفة في التوراة تُبيحُ بيعَ الرَّجلِ نفْسَه وبيع أولاده للمُرابي مقابلَ الدَّين، فلما جاء الإسلام، فرضَ التدرُّج في تحرير العبيد، فأبقى منه باب الجهاد فقط، لِحِكَمٍ مِن أهمِّها أن يَرتدِعَ الأعداءُ من مشركي العرب وغيرُهم عن الإساءة لأَسْرَانا لديهم، فكان العربُ يرون الموتَ دون أن يُقادوا للأسْرَ، فحين أغار بنو لَحْيان على ثابتِ بنِ جابر، الملقَّب «تأبَّط شرّاً» في قصَّته الشهيرة قال:
أقول لِلَحْيانٍ وقد صَفِرَتْ لهمْ وِطابي ويومِي ضَيِّقُ الحَجْر مُعْوِرُ
هُـمَا خِـطَّـتا: إمَّـا إسارٌ ومِـنَّـةٌ وإما دَمٌ والموت بالحُـرِّ أجدرُ بمعنى أنهم إن أمسكوا به، فليس إلا واحدةً من خطَّتين: إما الْتِزامُ مِنَّتَهم إنْ عَـفَوا عنه، وإما أن يُقتَل، والقتل أجدرُ به ممَّا يُكسبه ذُّلّ الاستعباد، وأشدُّ ما تخشاه العربُ أَن تُقادَ نساؤها للأسْر، ولذا صارَ أعظمَ رادعٍ لها عن العدوان، كما قال النّابِغةُ الذُّبيانيُّ مشيراً إلى خشيته من أن يُقادَ مع نسائه للأسر:
(حِذاراً على أنْ لا تُنالَ مَقادَتي
ولا نِسْوَتِـي حتى يَمُتْنَ حرائرا)
فحين رخَّصَتْ الشريعةُ في أسْرِ النساءِ -معامَلةً للعدُوِّ بالمثل- فإنها فَرَضَتْ على سيِّد الأسيرة الإحسانَ إليها في المأكل والملبس والمسكن، فجعلَتْ الأسرى إخوةً، ففي البخاري: (إخوانكم خَوَلُكُمْ) والخوَل الذين يَتخوَّلون الأمور ليُصلحوها، وبلغ من الرَّحمة بها أنْ أذِنتْ للسَّـيِّد أنْ تكون الأسيرةُ مِنْهُ بمنزلة الزوجة، ليكونَ في ذلك رِفْعة لقدْرها، وفيه تغذية لفطرتها، وقد تلدُ فيكون لها ولدٌ منه، فضلاً عمَّا دلَّ عليه الشارعُ الحكيم من فضيلة العتق، فحين سمع سيِّدُنا عبدُالله بن عمر هذه الآية: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قال: (ليس عندي أحبُّ إليَّ مِن هذه الجارية) فأَعْتَقَها، أما الحريَّةُ في المعنى الذي اصطَلَح عليه الناسُ اليوم، فإنها تعني أن يكون المرءُ حرّاً في أنْ يقول ما يريد، وفي أن يفعل ما يريد، لا يَحولُ بينه وبين تصرُّفاته أحدٌ، وهذا هو الاختيارُ الذي بسببه كان العبدُ مكلَّفاً، فَشَرْطُ التكليفِ في الإسلام: عِلْمُ المكلَّف وقُدْرَتُه، فلو كان العبدُ مُكْرَهاً غيرَ حُرٍّ في اختيارِه، لكان الأمرُ كما قال سيِّدُنا عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه لمن ناظرَهُ في القَدَر: (لَسقَطَ الوعدُ والوعيد، ولَبطل الثواب والعقاب، ولا أتَتْ لائِمَةٌ مِن الله لِمُذْنِب، ولا مَـحْمدةٌ مِن الله لِمُحسن) وتتمَّة الحديث عن الحريَّةِ التي هي أُختُ العِفَّة، في المقال القادم.

الشَّارٍعُ مُتَشَوِّفٌ للحُرِّيَّة
حظُّ النفس في المعصية ظاهرٌ جليٌّ، وحظُّها في الطاعة باطنٌ وخفيٌّ 2-2

حظُّ النفس في المعصية ظاهرٌ جليٌّ، وحظُّها في الطاعة باطنٌ وخفيٌّ، ومُداواةُ ما يَخفَى صَعبٌ علاجُه، هذه الكلمات المباركات كانت خاتمة المقال السابق، وهي تلخِّصُ لنا المعنى الذي من أجله مَكَثَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ما يَنيف على اثني عشر عاماً يربِّي فيها أصحابَه على الصبر وقَهْر النفس، ويُبيِّن لهم أن ذلك من عزائم الأمور، وفي هذا نزلَ: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ونزل: (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا) ونزل: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ). وكان -صلى الله عليه وسلم- يكرِّرُ على مسامعهم: (إني أُمِرْتُ بالعفو) حتى إذا ارْتاضَتْ نفوسُهم على نسيان حظوظها وعلى عدم الانتصار لها، وصار العفْوُ ونسيانُ حظِّ النفس سجيَّةً فيها، أَذِنَ اللهُ لهم بالقتال، فشرعَ لهم جهادَ مَن يقاتلونهم، ودفاعاً عن أنفسهم، ودفاعاً عن الدعوة، قال سبحانه: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) وقال: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) فالأصلُ في المسلم أن تكون أقوالُه وأفعالُه في جميع أحوالِه على هَدْي الإسلام وأخلاقه، فهذا الخُلق هو الأصل الذي يلتزم به المسلم حالَ السِّلم وحالَ الحرب، فلا حقدَ ولا ضغينةَ من المسلم على الخَلْق،
ولا أثر لِسَوْرةِ النفس في التعامل مع الآخَر، قال القرطبيُّ: (الجدال بالأحسن والمداراة أبداً مندوبٌ إليها، وكان -عليه الصلاة والسلام- مع الأمر بالقتال، يُوَادِعُ اليهودَ ويداريهم، ويصفح عن المنافقين، وهذا بيِّنٌ).. وكان -عليه الصلاة والسلام- يُوادِعُ نصارى النُّوبة ونصارى الحبشة، وأثنى على ملك الحبشة فقال: (إنَّ بأرض الحبشةِ مَلِكاً لا يُظلم أحدٌ عنده)، وبهذا كان الصحابة الكرام على حالٍ عظيمة من الرضا بالقضاء، والوقوف مع الشرع في الإقبال والإدبار، فإذا نادَى منادي الجهاد لَبَّوا النداء بلا كُرْهٍ خوفاً من الموت، وبلا رغبةٍ في التشفِّي والانتقام، بل امتثالا لأمر الله، وإذا انتهَتْ أسباب الجهاد، ودلَّ واجبُ الوقت على إيقاف القتال، توقَّفُوا غيرَ كارهين لحكم الله، فلا أثر لشهوةِ النفس في إقبالهم أثناء احتدام القتال، ولا حالَ توقُّفِهم أو استفزازهم من العدوِّ، وهذا المعنى هو ما يجعل غايةَ المجاهدِ من القتال دَفعَ الظالم ونُصرةَ الحقِّ، من غير أن تَشوب نيَّتَهُ في جهادِه شائبةُ انتقامٍ أو تَشفٍّ، فالنفس بطبيعتها تدعو صاحبَها إلى الانتقام والتَّشفِّي، ولسانُ الشَّرع يكبحُ جماحها ويُخفِّف مِن غلواء غضبها. يؤكِّد ذلك أن الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- كانوا يرون أن مجاهدة النفس من أعظم صور الجهاد، ولننظر كيف أدَّب اللهُ بهذا الأدب الرَّفيع كبار الصحابة الكرام، فهذا سيدُنا أبو بكر الصدِّيق -رضي الله عنه-، كان ينفقُ على رجلٍ اسمُه مِسْطَحُ بن أُثَاثَةَ، وكان مِسْطَحٌ هذا ممن خاض مع المنافقين بالإفك واتَّهم أمَّنا عائشةَ -رضي الله عنها-، لكن حين برَّأَها الله في القرآن، وثَبت على مِسطَحٍ حدُّ القذف رأى الصدِّيقُ -رضي الله عنه- أنَّ مسطحاً ليس أهلاً للمعروف ولا للبرِّ، لِمَا هو عليه من معصية، فقال: (والله لا أُنفق على مِسطَحٍ شيئاً أبداً بعد الذي قال)، فمِسطحٌ أساءَ وحقَّتْ عليه العقوبة، بل وأُقيمَ عليه حدُّ القذف، غير أن معصيةَ العُصاة وتقصيرَ المقصِّرين لا يجوز أن يكونا سبباً للإساءة إليهم ولا لهجرانهم، بل ولا لِعَدَم البِرِّ بهم، فأنزل الله تعالى أدباً للصحابة الكرام، ليكون هذا الأدبُ شريعةً خالدة: (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)، فما كان من الصدِّيق إلا أنْ قال: (بلى، والله إنِّي لأُحِبُّ أن يغفرَ اللهُ لي)، فأعادَ إلى مِسطَحٍ النَّفقة التي كان ينفقها عليه. ومن أجل هذا المعنى نشأ علمٌ لَمْ تَعرفه أُممُ الأرض مِن قبل، وهو علمُ الجهاد والسِّيَر، هذا العلمُ شأنُه بيان حقوق غير المسلمين وأدب التعامل معهم، فلا غرابة في ألا نجدَ إساءةً إلى غير المسلمين في العصور المتقدِّمة، فقد كان عدد الكنائس في عهد المأمون أحد عشر ألف كنيسة، وفي المقابل لَمْ يبقَ مسجدٌ في الأندلس بعد سقوط غرناطة! هذا تاريخُنا وهذه أخلاقنا، وإنَّ أخشى ما يخشاه المسلم هو أن يأتي مَن يُشوِّهُ هذا التاريخ، والأسوأ أنْ يُغرِّرَ بشبابنا، فيتَّخذَ مِنهم أداةً له.